في دورته الأربعين عام 2018، منح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، جائزة الهرم الذهبي لفيلم «ليلة الاثني عشر عاما» للمخرج ألفارو بريخنر.. وهو فيلم شارك في إنتاجه أربع دول هي: أوروجواي وإسبانيا والأرجنتين وفرنسا.
نال الفيلم إعجاب كل من شاهده، بالرغم من أن موضوعه (أدب السجون) عولج قبل ذلك في عدة أعمال فنية متميزة؛ لكن الفيلم تميّز عن الأعمال الأخرى برؤيته العميقة، لنفسية المعتقل السياسي، وأطوار التحول العقلي الذي يعيشه، مع طول مدة الاعتقال، من خلال قصة حقيقية عن ثلاثة مناضلين يساريين من أوروجواي ينتمون لمنظمة توباماروس التي انتهجت العنف الثوري في عقد الستينات والسبعينات ضد الدكتاتورية.. كان أحد هؤلاء الثلاثة خوسيه موخيكا الذي صار بعد ذلك رئيسا للأوروجواي، لمدة خمس سنوات في الفترة من عام 2010 إلى 2015.
عمّر موخيكا طويلا.. تسعون عاما إلا أسبوع واحد.. ورحل عن عالمنا الثلاثاء الماضي.. وقد سادت حالة من الحزن العميق أوساط المناضلين ضد الظلم والقهر والاستبداد والاستغلال.. في العالم أجمع.
في نضاله ضد الظلم والاستبداد، تمسّك ابن مونتفيديو بمبادئه وقيمه التي آمن بها منذ وعى.. رغم فترة الاعتقال الرهيبة التي دامت لاثنتي عشرة سنة.. لم يهادن خوسيه النظام الدكتاتوري، ولم يخرج من محبسه إلا بعد سقوط هذا النظام.
بعد توليه رئاسة بلاده عام 2010، قدّم موخيكا نموذجا في الحكم لم يعرفه تاريخ البشرية إلا فيما ندر.. لم يسكن القصر الرئاسي، وبقي في المنزل الريفي البسيط المملوك لزوجته لوسيا توبولانسكي.. والواقع على أطراف العاصمة الأوروجوانية.. كانت حربه الحقيقية على الفقر -لا الفقراء- وزّع تسعة أعشار راتبه الشهري البالغ ما يوازي 12000 دولار أمريكي على الجمعيات الخيرية، والشركات الناشئة. لم يركب أيا من السيارات الرئاسية، ولم يسر ولو لمرة واحدة في موكب رئاسي ضخم، وظل يستخدم سيارته ماركة فولكس فاجن بيتيل موديل 1987.
لم ير الرجل في نفسه أية أحقية تميّزه عن أفقر رجل في أوروجواي.. تردد على المستشفيات العامة لتلقي العلاج، ورفض تجاوز دوره في الكشف، كما عُرف بتواضعه الشديد وزهده في كل مُتع الدنيا.
ناصر موخيكا القضية الفلسطينية.. واتهم الكيان الصهيوني باقتراف جريمة الإبادة الجماعية في حربه على القطاع عام 2014، وقد نَعَت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيان لها، خوسيه موخيكا ووصفته بـ “القائد الأممي الكبير” مشيرة إلى “مواقفه الثابتة في الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة”.
وأضافت الجبهة في بيانها أن “موخيكا كان ضميرا حيًّا للشعوب المظلومة وصوتا صادقا للحق في زمن الصمت، ومثالا نادرا للنزاهة الثورية والالتزام بالعدالة الاجتماعية”.
أوروجواي.. ذلك البلد الصغير التي تبلغ مساحته 176ألف كيلومتر تقريبا، ويقع على أطراف العالم.. ويبلغ سكانه قرابة الثلاثة ملايين ونصف نسمة فقط، والذي تأسس قبل 200 عام لا أكثر- هناك عاش رجل أعطى المثل والقدوة لكل مناضل نبيل، وكل سياسي شريف، وكل إنسان حر يدافع عن المبدأ القويم وحقوق المستضعفين.. موخيكا إنسان أحبه البسطاء وكرهه المستبدين وأعوانهم.. فلقد كان الرجل بأخلاقه وقيمه أغنى رئيس في العالم، فأفقر الحكام في نظره هو ذلك الذي خدعه بهرج المنصب؛ فانكب على المتع يرفل في نعيم الفخامة والأبهة، بينما يموت شعبه من الجوع.
نموذج موخيكا مرّ بنا في زمننا هذا، في عالمنا العربي البائس لمرة واحدة؛ لا بد من ذكرها -هنا- إحقاقا للحق.. نقصد نموذج الرئيس المصري -خالد الذكر- جمال عبد الناصر، الذي كان مثالا للزهد والتعفف.. حتى أن ألد أعدائه والمتقوّلين بالباطل على سيرته العطرة؛ لم يستطيعوا رغم ترويجهم للكثير من الأكاذيب الفجة؛ التي فضحت الحقائق الواضحة زيفها الصريح وتهافتها- أن يقتربوا من هذه النقطة في سيرة الزعيم العربي الكبير.
وداعا خوزيه ألبرتو موخيكا كوردانو.. أو كما كان يناديه محبوه “بيبي”.. وداعا يليق بالبطل الذي سيظل يقض مضاجع الطغاة؛ حتى وهو في قبره.