رؤى

العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية.. بين تغليب اللا منتمين وتغييب المعنى(1- 4)

حوار مطوّل مع الذات

العلوم الاجتماعية بين حاء وهاء

بعد حوار مطوَّل مع الذات.. رأيت أن أكتب هذه الورقة؛ لكي أعرض من خلالها لواحدة من أسوأ أزمات العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية. وما أكثر تلك الأزمات! وما أشدها تعقيدا! بعض منها بنيوي عميق، يعود ربما إلى قرنين من الزمان. وبعضها الآخر إجرائيٌ معقد يزعج المشتغلين بتلك العلوم -تقريبا- كل يوم. وبعض ثالث -منها- سلوكي غريب، يلاحظه الواحد منا حتى في نفسه.

والأزمة التي أركّز عليها بشعة لأنها ثلاثية الأبعاد: بنيوية وإجرائية وسلوكية، تتلخص في أن عددا ليس بقليل من كليات العلوم الاجتماعية العربية- لم يعد ينتج معنىً يرتقي إلى ما يفترضه العلم الاجتماعي، أو يشبع ما يحتاجه المجتمع، أو يقدّم ما كان مؤسسوها يأملون في الأصل منها عندما أنشئت، أو بات ينتج ما يسميه المصريون مزاحا “بالهلاضيم” أو بتعبير التونسي الرائع الطاهر لبيب الرئيس السابق للجمعية الدولية لعلم الاجتماع “اللا معنى”.

هذه المعاهد والمؤسسات لم تعد في تقديري قادرة على إنتاج المعنى، بل وتسرف في إنتاج اللا معنى، إلا لأنها تحتضن طوابيرَ من اللا منتمين الذين لا يلتزمون بأصول ومرجعيات وضوابط وشروط ممارسة تلك العلوم. ولعلنا نتفق من البداية على بدهية بسيطة تقضي بأنه لا مجال لعلوم اجتماعية نافعة بدون مشتغلين نافعين.

ومشكلتا اللا معنى واللا انتماء مرتبطتان، ويشكلان معا أزمة بنيوية وإجرائية وسلوكية عويصة تعصف بدور وبتطور العلوم الاجتماعية العربية. هي أزمة بنيوية لأن نشأة عدد ليس قليل من كليات العلوم الاجتماعية في البلدان العربية- جاء إما مشوها، أو مبتسرا، أو فوقيا، لم يراع قواعد البناء والنضج السليمة للمؤسسات. وهي أزمة إجرائية لأن ما يجري كل يوم في تلك الكليات يكشف عن أنها تكبّل نفسها بإجراءات ونظم تشغيل ولوائح إدارية تنحرف بها عن مقاصدها؛ ليصبح الشكل فيها أهم من المضمون، وبقاء الأشخاص أعلى من مصلحة المؤسسة ذاتها.

وهي أخيرا أزمة سلوكية لها مظاهر لا يمكن أن تخطئها العين، وهي ترى تصرفات منفرة يأتي بها بعض المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، أقل ما يقال في وصفها أنها مجافية للصواب، إن لم تكن مخجلة ومعيبة.

ولا أزمات بدون مسببات. وأبرز مسببات تغييب المعنى عن العلوم الاجتماعية يتصل بتغييب اللا منتمين، وهم جزء من المشتغلين في أروقة مؤسسات العلوم الاجتماعية، لا أحب ولا أريد أن أحدد حجمه، لكنهم بوضوح راحوا يعمّقون سقطات العلوم الاجتماعية العربية، بدلا من أن يقيلوها من عثراتها. قليل منهم، وإن كانوا مؤثرين أتوا من أراض بعيدة، لكن أغلبهم نبت وترعرع في قلب هذه المنطقة. وعليّ أن أشدد مرة أخرى، أنه لا مجال لعلوم اجتماعية نافعة بدون مشتغلين نافعين.

وليس من الانصاف أن أرمي -أو يرمي أحد غيري- بعبء تلك الأزمة كاملةً على عاتق اللا منتمين. فما الأزمة إلا جزءٌ صغيرٌ من سياق عام أوسع، بالذات السياق السياسي العربي الذي ما زال يخشى من العلوم الاجتماعية، أكثر مما يخشى عليها، ويغضب منها، ولا يكاد يغضب لأجلها. إن رآها تنتج كثيرا من المعنى انزعج. ولهذا فهو كثيرا ما يتركها تنتج اللا معنى حتى لا تزعجه، وحتى لا تلفت انتباه المجتمع إلى قيمة ورسالة ومعنى تلك العلوم.

وقد لمست أزمة اللا معنى واللا انتماء مِرارا.. لمستها لما سكنت لفترة أولى من حياتي المهنية ذلك البرج العاجي الشهير، الذي يأوي إليه كثيرٌ من ممارسي العلوم الاجتماعية؛ ليثرثروا وينظّروا ويتشدقوا ويتفاصحوا. ولمستها كذلك لما تسكّعت -مثل أي مشرد- في دروب وأزقة بلدان عربية وأخرى أسيوية؛ للاختلاط بالناس من أجل إتمام بعض البحوث الميدانية. ولمستها عن قرب أكثر، ولمدة أطول من خلال تجربة ثرية، عشتها قرابة ربع قرن؛ علمتني حقا من أنا، وما قيمتي وقيمة أي مشتغل بالعلم الاجتماعي، وذلك عندما كنت في تماسٍ مباشرٍ مع مؤسسة مسئوليتها صنع القرار.

وقد عرّفتني الخبرات الثلاث: النظرية الغارقة في التجريد، والميدانية اللصيقة بالناس، والنخبوية القريبة من صنع القرار- أن العلوم الاجتماعية العربية بشكل عام، وعلم السياسة الذي أنتمي إلى تقاليده بشكل خاص، علوم مقصرة. تطحن لكنها لا تنتج طحينا، تحكي بلا أثر، وتتكلم كلاما كبيرا ليس لأغلبه معنى. ولهذا فإن المشتغلين بها؛ في حاجة ماسّة إلى وقفات شجاعة مع أنفسهم لا يعلقون فيها عجزهم على شماعات الغير، وإنما يفكرون من خلالها في كيف يصححون ويغربلون مؤسساتهم بأنفسهم؟ وكيف يَرتِقون ثيابهم المهلهلة بأيديهم؟ والبداية بأن يسألوا أنفسهم سؤالا صعبا لا مفر منه، إن أريد لتلك المعاهد إصلاحا: هل نحن حقا ننتمي إلى تلك العلوم؟

دون تلك الوقفات ستبقى الأزمة قائمة، بل وستستفحل. فالأمر جدُّ معيبٍ حيث أدخلت ممارسات كثير من اللا منتمين العرب ممارسة العلوم الاجتماعية في المنطقة في دائرة مَهولة من العدمية وقلة القيمة، ثم جاء بعض آخر من اللا منتمين، ممن وفدوا من وراء البحار؛ ليحكموا غلق الدائرة بالضبة والمفتاح. وأردد مرةً ثالثة أنه لا مجال لعلوم اجتماعية نافعة، بدون مشتغلين نافعين، وإلا سيستمر تغييب المعنى كلما جرى تغليب اللا منتمين.

ولكي تتضح العلاقة بين اللا منتمين واللا معنى اسمحوا لي أن أشارككم لقطة رياضية ربما هي التي حفزتني على طريقة مقاربتي للموضوع. فقبل نحو ثلاثة أسابيع فاز فريق ليفربول ببطولة الدوري الإنجليزي لكرة القدم. وفي غمرة الفرحة بتحقيق البطولة من بعد مباراة مثيرة التهم فيها ليفربول فريق توتنهام على ملعب الأنفيلد بنتيجة 5 أهداف لهدف واحد، تغنى أنصار ليفربول بأسماء لاعبي فريقهم منادين عليهم؛ كي يقتربوا منهم ليوجّهوا لهم التحية. ولفت انتباهي مقطع طريف كشف لي عن ارتباط اللا انتماء باللا معنى. فقد سمعت مشجعا ينادي على أحد اللاعبين بطريقة غريبة، بدت وكأنها تستحث المسلمين على أداء عبادتهم اليومية الرئيسية. فقد كان يقول: “صلاه”. وكان يطيل في نطق الألف، ثم يضغط فجأة على حرف الهاء، بما لا يقبل شكا -في مسامع أي مسلم- في أنه كان يدعو لإقام الصلاة. لكن مشجعا آخرَ كان يقف بجواره راح ينادي بعامية مصرية لم تضلها أذني: “يا صلاح.. يا محمد.. يا محمد يا صلاح”.

ضحكت على المشهد، وسخرت من سوء ظني؛ لأن ملعب الأنفيلد ليس مسجدا يقيم المسلمون الصلاة على أرضه، ولأن “صلاه” Prayer كما نطقها ذلك المشجع المتحمس، لم تكن إلا محاولة للفت انتباه اللاعب محمد صلاح. كان يقصد أن يقول صلاح، تماما مثلما نقولها نحن العرب بحاء واضحة، لكنه معذور لا يستطيع أن ينطق الحروف الصعبة في لغتنا، فهو لا ينتمي إلى الثقافة العربية، ولا يعرف أصول اللغة العربية، وليس مطلوبا منه -وهو يعيش حرا بلغته الإنجليزية على أرضه الإنجليزية- أن يفهم خصوصياتنا أو ينطق كما ننطق. ولهذا أحلّ الهاء محل الحاء؛ فجاء نداؤه بمدلول يخالف الدال الذي استعمله، وبمعنى يختلف عن مبنى الكلمة التي حاول أن ينطقها.

ولم يكن ذلك الفيديو؛ إلا أقصوصة بسيطة، أوحت لي بفكرة المداخلة، التي تحاول رصد حالة الانفصام في العلوم الاجتماعية العربية بين الدال والمدلول، ذلك الانفصال الذي أنتج وما زال ينتج كثيرا من اللا معنى، وسببه الأهم في تقديري تلك الصفوف المتكاثرة من اللا منتمين الذين دخلوا تباعا ولأسباب مختلفة إلى الصنعة. ولتكن البداية مع مسألة اللا معنى.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock