رؤى

‎‎إرادة العيش تحت راية القانون.. بين حزم الدولة ووعي المجتمع

لا بد من فرض القانون. أين الشرطة؟ نريد العدل.

‎تعبنا من الفوضى. يكدر حياتنا غياب النظام. أرجوكم طبقوا القانون. المسألة فرطت. كيف لهؤلاء أن يسرقوا كل هذه الملايين؟ كيف لهم بعد ذلك أن يعيشوا طلقاء؟ لا نشعر أن مؤسسات القانون قريبة منا. من يعاقب هؤلاء المتحرشين؟ لماذا يفلتون من قبضة العدالة؟ تركنا الفوضى والفساد يرتعان حولنا. ماذا جرى للذوق العام وما الذي أصاب المجال العام بكل هذا اللغط والعنف؟ الكل يفعل ما يريد متى أحب. هل يعقل أن تُقتل تلك الشابة البريئة في حادث سير ثم يُخلى سبيل الجاني مع أن جريمته موثقة؟ كيف تُضرب معلمة على يد طلاب وأولياء أمورهم لأنها قامت بتأدية رسالتها فمنعت وقوع غش جماعي في لجان الامتحانات؟ من سيأتي لها بحقها؟ من يوقف ظاهرة الغش؟ ما الذي يتعلمه هؤلاء؟ ولماذا يتعلمون من الأصل إذا كان ضرب المعلم سبيلهم إلى نيل شهادة؟ أين حقوق الفقراء التي سرقها الأغنياء؟ لماذا سُجن هؤلاء بدون ذنب؟ هل فوضى المرور بلا نهاية؟ وماذا عن مخالفات البناء ومجاملات الأبناء؟

 هذه بعض عبارات نسمعها تتردد على ألسنة كثيرٍ من الناس. الكل تقريبا يشكو لكن الأعجب من الجأر بالشكوى؛ أن تجد من يطالبون باحترام القانون من بين من يخالفونه. وهم في الغالب لا يفعلون ذلك إلا لأن الأمور وصلت بالفعل إلى الحلقوم. يتمنون شيئا ويفعلون شيئا آخر؛ فيصبحوا نواة لمجتمعٍ منفصمٍ يحلم في اتجاه ويعمل في اتجاه آخر. ولا بد من التماس العذر للناس قبل اتهامهم. فالناس مهما صبروا ومهما تحمَّلوا غياب حكم القانون ليسوا كلهم أيوب. إنهم يريدون استرداد حقوقهم بسرعة مثلما ضاعت منهم بسرعة. ولأن ذلك لا يحدث، فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه شكاوى ونلمح حسرات تؤكد غياب القانون، ونقرأ قصصا مخزية تدل على ضعف الالتزام به وانتقائية تطبيقه وبطء إجراءات التقاضي وفق شرائعه.

المجتمع والقانون
المجتمع والقانون

‎   بات الناس في حيرة من أمرهم وأمر مسئوليهم وأمر قوانينهم. تقع جرائم ومخالفات بالجملة من أكبرها وأعجبها إلى أصغرها وأبسطها. مخالفات لا يستقيم وقوعها مع أي بديهة أو منطق أو قانون ولا يستقيم تركها بلا محاسبة بالمثل مع أي بديهة أو منطق أو قانون. المجتمع ذكي. يلوم أفرادا من بينه عندما يراهم يأتون بمخالفات. ويلوم الدولة أكثر عندما يراها متراخية في محاسبة المخالفين، تغمض العين عن جرائمهم.

‎ولا آتي هنا بأي بجديد. فالكل حول العالم يتفق على أن إنفاذ القانون هو مهمة الدولة وأنها المسئولة الوحيدة حصريا عن تصحيح كل صور الفوضى على أراضيها. الناس في أي مكان حول العالم تخلوا لدولهم عن كثير من حقوقهم لكي تديرها بالنيابة عنهم بعناية وعدالة. ولهذا يتوقعون منها أن تؤدي رسالتها لا أن تنحرف بها. أن تردع وتمنع وتحاسب وتعاقب حتى تستقيم صورتها في عيونهم ويستقيم الأمر كله لها وللمجتمع. الدولة ثم الدولة ثم الدولة هي الجهة الوحيدة المنوط بها وقف التسيب في المجال العام. هي المسئولة عن أمن الناس كل الناس في الشوارع والبيوت والسيارات والمحلات، ومن كل الطبقات والفئات. هي المسئولة عن الحد من التلوث البصري والسمعي والأخلاقي والمالي والتجاري والفني والقانوني ومحاسبة كل من تسوِّل له نفسه انتهاك حرمات الناس. الدولة هي الجهة التي يُحمّلها الناس همومهم بعد أن بات الجزء الأكبر من حياتهم يجري خارج نطاق القانون. من قانون المرور وجمع المخلفات إلى قوانين البناء وتجريم الاعتداء على المال العام. ولا أقصد بالخروج على القانون التملص من متطلباته الشكلية مثل استيفاء الأوراق والدمغات والأختام والرسوم، وإنما الخروج على روح القانون وعقل القانون ورسالة القانون. فما أكثر من سددوا الرسوم القانونية مثلا؛ ليشيدوا بناءً مخالفا للبديهة والعقل والمنطق وللقانون نفسه. وما أكثر من استكملوا شكليات النصوص القانونية عند استخراج رخص القيادة دون أي تقيد بالمرة عند القيادة بالقانون.

‎  دور الدولة لا يشك أحد فيه بالمرة، لأنها الأقوى ولأن الناس استأمنوها، لتكون مديرا نزيها لأعمالهم يتدخل بكل قوة وإنصاف لمنع الخطأ قبل وقوعه أو لتصحيحه متى وقع. والقانون لا معنى له ما لم يكن في يد قوي يفرضه، بشرط أن يكون قويا عادلا لا يستأذن أحدا عند تطبيق القانون غنيا كان أو فقيرا، قويا أو ضعيفا. وبدون تلك القوة –وذلك الإرغام– ستسود الفوضى لأن الناس أصحاب هوى، تحركهم المصالح والرغبات. كما أن لبعضهم جاهًا أو مالا أو منصبا، كثيرا ما يزين لهم العبث بالقانون ووضع أنفسهم فوقه عندما يرون مرة بعد مرة أن يده لا تطالهم.

الفرد والمجتمع
الفرد والمجتمع

‎   كل هذا مهم. لكن القانون بجانب إلزاميته والحاجة إلى فرضه بالقوة الجبرية يحتاج أيضا أن يرسخ في الضمير العام كقيمة أخلاقية وقناعة فكرية. يحتاج إلى إرادة، الوصولُ إليها من أصعب ما يمكن سواء بالنسبة للناس أو للدولة. إنها إرادة العيش تحت راية القانون والنزول على أحكامه مهما خالف أهواءهم.  إرادة تتطلب ممن يملكونها ترويض غرائزهم الأنانية، حتى لا يأخذهم الهوى فيعملوا على ترويض القانون. إرادة يستوعب أصحابها أنهم سيكونون أفضل عندما يصبحون ضعفاء أمام القانون. يسددون الضرائب ولا يفتشون عن الثغرات. يوظفون الأكفأ ولا يعينون المسنود. يحاسبون الجاني ولا يبحثون له عن ذرائع.

‎  فرض القانون بالقوة أمر لا خلاف عليه. لكن إرادة العيش تحت راية القانون أمرٌ آخر لا يقل عنه أهمية. وجود تلك الإرادة يعني قبول القوي والضعيف للاحتكام إلى معيار واحد، ما يجعل أكبر الرءوس مثل أصغر النفوس. الكل تحت راية القانون. ومن شأن تطوير إرادة العيش تحت راية القانون مساعدة الدولة في استعمال القوة عند فرض العدالة. فعندما يجد الناس أنفسهم سواسية أمام القانون سيقبلون بأحكامه حتى لو لم يصادف ذلك هواهم. وسوف تتعزز قناعاتهم بقيمة القانون متى وجدوا الدولة تعيش بدورها تحت راية القانون فتفرضه بلا انتقائية أو مجاملة أو تحيز.

‎  لكن لكي تصل الدولة والمجتمع إلى إرادة العيش تحت راية القانون لا بد من أمرين: الأول سياسي والثاني فكري. سياسيًا لا بد للدولة أن تقر بأن الناس لا يصدقون إلا ما يرون. وهم يرون أنها في حاجة لمراجعة نفسها وضبط سلوكها وأن تعود مديرا لأملاكهم وشئونهم بعد أن توهمت أنها مالكة لهم ولرقابهم. الناس ستقبل العيش تحت راية القانون إذا رأوا الدولة تعيش مثلهم تحت نفس الراية. عندما تستعيد النظام في شوارعهم وتحاسب كبار اللصوص وتترك القضاة لضمائرهم وتطبق الأحكام على أيٍ من كان. وقتها سيتغير إحساس الناس بالقانون ويزداد وعيهم بقيمته وتقوى فيهم إرادة العيش تحت رايته. سيرون أن القانون ما يزال حيا لم يمت، وأنهم بعد أن ظنوا به الظنون يمكن أن ينزلوا على مقتضاه.

سعي البشر للعدالة
سعي البشر لعدالة القانون

‎أما الأمر الثاني ففكري يتصل بتعلم وتعليم القانون. فالقانون لغة كاملة عن الحقوق والواجبات لا يتعلمها الناس في المدارس والجامعات وحدهما، وإنما يتعرفون عليها من خلال الصحفيين والفنانين والرياضيين والمشاهير وكل من له بصمة على الوعي سواء الجمعي العام لكل الناس أو الوعي القِطَاعِي لفئات فيه. فهؤلاء معا مسئولون عن بناء وعي الناس بأمور عديدة في مقدمتها الوعي بقيمة القانون، متى التزمَ هؤلاء –أولا– بالقانون. وبإمكان قادة الرأي ورجال الأعمال والمال والنجوم المساهمة في تعليم الناس إرادة العيش تحت راية القانون إذا بدأوا هم بأنفسهم، لأن حث الناس عن طريق القدوة الصالحة على احترام القانون لا يقل أهمية عن فرضه عليهم بالقوة.

‎  إن فرض القانون بالقوة مطلوب، والإكراه القانوني ليس كريها بل مستطابا، طالما أنه يأتي برقبة كل مخالف تحت سيف القانون. القانون القوي بلا جدال خير وأحب عند الناس من القانون الضعيف. هذا لا شك فيه. لكن لكي يكون القانون قويا يطبق بلا تحيز أو تمييز، فإنه يحتاج إلى وعي بقيمة العيش تحت رايته وإلى إرادة تسلم بالانصياع لقواعده سواء من قبل الناس  أو من قبل الدولة. إرادة خيرة كامنة ومطورة تمنع الأنا العليا لدى الإنسان من أن يضع نفسه فوق القانون. والأمر صعب للغاية لأن بناء هذه الإرادة ليس مطلوبا فقط من المجتمع، وإنما مطلوب بنفس القوة من الدولة. الدولة في حاجة إلى تطوير نفسها وترويض نفسها وتغيير قناعاتها وتعزيز إرادتها للعيش تحت راية القانون؛ لتعيش هي والمجتمع معا تحت نفس الراية. وهذا أمر صعب لكنه ليس مستحيل. فقد حققته دول ومجتمعات قبلنا. لم يميزها عرق أو لغة أو دين أو خلفية حضارية وإنما عمل جاد وعزيمة صلبة أقنعت الدولة والناس بأن العيش تحت راية القانون هي الحل الأرقى لتجنُّب مصائر الدول الرخوة والمجتمعات الهشة.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock