رؤى

تركيا والهند.. والتوتر في جنوب آسيا

شهدت العلاقات بين الهند وتركيا في العقد الأخير تقلبات ملحوظة، بعدما كانت لعقود طويلة تتسم بالهدوء والانفتاح الدبلوماسي المعتدل. لكن، منذ أواخر العقد الثاني من القرن الحالي، بدأت بوادر التوتر تطفو على السطح، نتيجة تفاعل جملة من العوامل الجيوسياسية والدينية والاقتصادية.

وتُعد القضية الكشميرية أبرز الملفات الخلافية، حيث شكّلت نقطة صدام واضحة بين أنقرة ونيودلهي. ومع تصاعد الخطابات القومية في البلدين، وارتباط كل منهما بتحالفات متشابكة في المنطقة، أضحى الصراع بين الهند وتركيا مرشحا لمزيد من التوتر، ما قد يعيد تشكيل خريطة العلاقات في منطقة جنوب وجنوب غرب آسيا.

فما أبرز عوامل هذا التوتر، وما السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الثنائية؟ والأهم، كيف يمكن أن تؤثر هذه التوترات على الصراع المزمن بين الهند وباكستان؟

الهند وتركيا

تعود جذور التوتر بين الهند وتركيا إلى عدد من العوامل.. من أهمها:

موقف تركيا من قضية كشمير؛ حيث تُعد كشمير نقطة الانطلاق الأساسية للتوتر الحديث بين أنقرة ونيودلهي. فمنذ عام 2019، حين ألغت الحكومة الهندية المادة 370 من الدستور، التي كانت تمنح إقليم جامو وكشمير وضعا خاصا، توالت الإدانات من بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، وعلى رأسها تركيا؛ حيث عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرارا عن دعمه لما وصفه بـ”حقوق الشعب الكشميري”، متهما الهند بممارسة “القمع” بحق السكان المسلمين هناك.

وقد أثارت هذه التصريحات غضب الهند التي اعتبرتها تدخلا سافرا في شئونها الداخلية، وردّت بانتقادات لاذعة، وصلت إلى حد إلغاء عقود تسليح وبعض أوجه النشاط والتعاون الاقتصادي مع شركات تركية.

من جانب آخر، التحالف بين تركيا وباكستان؛ إذ تتمتع تركيا بعلاقات استراتيجية وعسكرية وثقافية مع باكستان؛ حيث تجمعهما رابطة العالم الإسلامي، ومواقف مشتركة في قضايا عديدة، كأفغانستان وفلسطين. وقد تعزز هذا التحالف مؤخرا، لا سيما في مجالات الصناعات الدفاعية والتدريب العسكري.

وتعتبر الهند أن هذا التقارب الثلاثي (تركيا، باكستان، قطر.. أحيانا)، يشكل تهديدا مباشرا لتوازن القوى في المنطقة، خاصةً إذا استُخدمت تركيا قاعدة دعم دبلوماسي لحملات باكستان في المحافل الدولية ضد الهند.

من جانب ثالث، التنافس على زعامة العالم الإسلامي؛ حيث يسعى أردوغان إلى استعادة دور تركي ريادي في العالم الإسلامي، على حساب الأدوار التقليدية لبعض الدول، مثل السعودية، أو القوى الإقليمية كإيران. وقد اصطدمت هذه الطموحات بمصالح الهند، التي عملت على تقوية علاقتها بالخصوم الإقليميين لأنقرة، مثل الإمارات ومصر، فضلا عن إسرائيل، لا سيما في أعقاب التوترات بعد حصار قطر في 2017. وهكذا، تحوّلت بعض الملفات الإقليمية إلى ساحات صراع غير مباشر بين الهند وتركيا.

من جانب أخير، التأثير الإعلامي والدعائي؛ إذ نشطت تركيا في إنتاج محتوى إعلامي وديني موجه للمسلمين في الهند، خاصة من خلال منصات مثل “TRT World”، والمسلسلات التاريخية التي لاقت شعبية واسعة لدى المسلمين الهنود. وقد اعتبرت الهند هذا التأثير ناعما ذا أبعاد أيديولوجية تمس وحدة الدولة الهندية العلمانية. كما ظهرت مزاعم بتعاون منظمات تركية مع جماعات إسلامية هندية، وهو ما زاد من حدة القلق في نيودلهي.

احتمالات مستقبلية

تتراوح سيناريوهات المستقبل بين التصعيد، والتهدئة النسبية، أو الاستقطاب البارد دون مواجهات حادة. ويمكن تلخيص أبرز الاحتمالات كالتالي:

أولا الاستمرار في التصعيد البارد: وهو السيناريو الأكثر ترجيحا في المدى المتوسط ويتمثل في حملات إعلامية ودبلوماسية مضادة، مع تقليص التبادلات الاقتصادية، دون الوصول إلى مرحلة القطيعة الشاملة أو المواجهة المباشرة. واستمرار الهند في دعم خصوم تركيا، بينما تواصل أنقرة دعم رواية باكستان بشأن كشمير في المحافل الدولية.

من جهة أخرى، احتمال التهدئة المشروطة؛ إذ قد تدفع الظروف الإقليمية، مثل تطورات الوضع في الخليج، أو تغير التحالفات التركية أو الهندية داخليا، إلى بعض التقارب المشروط. فإذا تراجعت تركيا عن خطاباتها بشأن كشمير، أو ركزت على الاقتصاد بدلا من الأيديولوجيا، قد تبادر الهند بإعادة النظر في علاقتها مع أنقرة، خاصةً إذا رأت فائدة اقتصادية أو تكنولوجية. لكن هذا يتطلب تحوّلات كبيرة في الرؤية التركية لطموحاتها الإسلامية.

من جهة أخيرة، التحول إلى صراع بالوكالة.. فمن غير المستبعد أن تأخذ التوترات طابعا أمنيا غير مباشر، من خلال دعم أطراف في نزاعات ثالثة، أو في ملفات مثل أفغانستان، حيث قد تتصادم مصالح الهند وتركيا ضمن أطر أوسع، تشمل تحالفات مع دول مثل إيران أو روسيا أو الصين.

الهند وباكستان

ربما يكون أهم انعكاس لتدهور العلاقة بين أنقرة ونيودلهي هو تعزيز الدعم التركي لإسلام آباد، سواء في المحافل الدولية أو في التعاون العسكري. وتتجلى التأثيرات المحتملة في النواحي التالية:

دعم دبلوماسي دولي لباكستان؛ فقد تستخدم تركيا نفوذها في منظمة التعاون الإسلامي وفي الأمم المتحدة لحشد الدعم لمطالب باكستان بشأن كشمير، وهو ما يعقّد الجهود الهندية لعزل إسلام آباد دوليا. وقد ظهر ذلك جليا في عدة قمم إسلامية، حيث قادت تركيا (مع ماليزيا وقطر)، محاولات لإحياء خطاب التضامن الإسلامي حول كشمير.

تركيا وتعزيز الصناعات الدفاعية الباكستانية

شهدت السنوات الأخيرة توقيع عدة اتفاقات بين تركيا وباكستان في مجالات الدفاع، أبرزها الطائرات المسيّرة، والغواصات، والسفن الحربية. إن تسارع وتيرة هذه الشراكات يثير قلق الهند من نقل تقنيات متقدمة، قد تُستخدم في النزاعات الحدودية، أو في دعم جماعات غير حكومية معادية للهند.

ومن الواضح، أن الدعم التركي لباكستان قد يسهم في تأجيج الحس القومي الهندوسي داخل الهند، ما يدفع الحكومة الهندية إلى اتخاذ خطوات أكثر صرامة تجاه سكان كشمير المسلمين، ما يفاقم الاحتقان الداخلي ويزيد من احتمالية التصعيد العسكري على الحدود.

باكستان وإيجاد محور مضاد للهند

من ناحية أخيرة.. قد تسعى باكستان بدعم تركيا إلى توسيع تحالفها لتشمل دولا مثل إيران وقطر، وهو ما قد يفضي إلى خلق محور جغرافي سياسي يحد من تحركات الهند في المنطقة، خاصةً في ظل تقاربها مع إسرائيل والولايات المتحدة. وقد يؤدي هذا الاصطفاف إلى تشكل خرائط نفوذ جديدة تؤثر في التوازنات العسكرية والسياسية بجنوب آسيا.

في هذا الإطار.. يمكن القول بأن العلاقات بين الهند وتركيا تقف اليوم على مفترق طرق حساس. فعلى الرغم من غياب التهديد العسكري المباشر بين البلدين، إلا أن التوترات الأيديولوجية والدبلوماسية تحمل في طياتها إمكانات تصعيدية، قد تتجلى في ملفات إقليمية شديدة التعقيد، مثل كشمير، وأفغانستان، وحتى الخليج العربي. ستظل كشمير عنوانا رمزيا للصدام، وستبقى باكستان المستفيد الأكبر من أي تقارب تركي معها، إذا استمر الخطاب السياسي التركي في مناهضة السياسات الهندية القومية ضد المسلمين.

 

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock