رؤى

الكتابة بالصورة.. والهيمنة الثقافية “متعددة الأبعاد”

يثير تحول موقع يوتيوب إلى البث التليفزيوني عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، عددًا من التساؤلات حول مسار الإعلام الرقمي – إن صح التعبير- خاصةً في ظل تنامي ظاهرة “التلاقي الرقمي” من جانب، وتشابك المثلث المعقد من الأفراد والشركات العملاقة والحكومات في عصر ثورات ـ ولا نقول: ثورة ـ الاتصالات والمعلومات والمرئيات، من جانب آخر.

صحيح أن الموقع المشار إليه ليس هو المثال الوحيد على شبكة المعلومات الدولية الذي يتضمن صورًا متلفزة؛ إذ هنالك العديد من القنوات الفضائية التي يمكن مشاهدة البث الحي لها عبر الشبكة.. لكن يبقى من الصحيح أيضا أن الموقع إياه، يؤشر إلى ظاهرة جديدة، نعني: ظاهرة التنازع في امتلاك القوة الإعلامية بين أفراد المجتمعات المعاصرة، وبين الشركات العملاقة في ما يخص “الميديا” ودخول الحكومات على خط هذا التنازع.

هذا وإن كان يدل على شيء، فإنما يدل على أهمية الصورة، في عصرنا الحالي.. بل لعلنا لانغالي إذا قلنا: إن الصورة اليوم أصبحت أهم وسائل التعبير عن كثير من الأحداث والقضايا التي يشهد العالم أحداثها يوميا.

ديكتاتورية الصورة

والواقع بالرغم مما كتبه الكثيرون حول مسألة أهمية الصورة، على مدى الخمسين عامًا الأخيرة، فـ”الآن” اختلف الوضع. لم يختلف الوضع بالنسبة إلى الصورة، ولا إلى تأثيرها في الناس (الجماهير)، لكنه اختلف بالنسبة إلى ماجريات اللحظة الإعلامية، التي نعايشها في الواقع الراهن، وما تنطوي عليه من ملامح ـ ترتسم في إطار تلك الماجريات ـ لآفاق متوقعة، أو يمكن توقعها.

فهذه اللحظة، تتسم بكونها لحظة  “ثورات”  تقانية في قطاعات عديدة. ففيها وفي إطارها: ننتقل من الثورة الصناعية الثالثة إلى ما بعدها، من المجتمع الحديث إلى المجتمع ما بعد الحديث، من مفهوم القوة المادية إلى مفهوم يعتمد على معايير اقتصادية ومعلوماتية وإعلامية.

بل في ما يبدو، فإن ما يحكم المشهد الحالي، هو التداخل المتنامي بين ثورتي المعلومات والمرئيات حيث التلاقي بل التضامن، بين تقانة المعلومات، والآلات الحاسبة في أجيالها العملاقة، والأقمار الإصطناعية، والكوابل المحورية، وصناعة القنوات الفضائية، التي تبث البرامج والمعلومات والأخبار، وكذا الأفلام السينمائية، دون توقف وفي تعدد وتكاثر مذهل، فوق رءوس البشر وعيونهم، إلى درجة الهيمنة (السيطرة دون قسر)، على دوائر أحلامهم ومناطق آمالهم وطموحاتهم.

كل ذلك، دونما توافر إمكانية ـ حالية ـ لوقف أو الحد من السيول المرئية المتدفقة عبر الفضاء، وتستقبل عبر هوائيات ـ ستطويها رياح التطور التقني، قريبًا جدًا ـ من ملايين البشر في الدنيا كلها، حيث سقطت حواجز الزمن وتفاوتاتها المتعددة، لتغدو اللحظة الإعلامية (المعلوماتية/المرئية) هي “زمن” العالم كله.

نحن إذن في “زمن” اللحظة الإعلامية وماجريات واقعها المتمحور حول الصورة، أو “ديكتاتورية الصورة”، بالأحرى.

الجغرافيا الإعلامية

ولعل أخطر ما في هذا الـ”زمن”، هو الآفاق التي تحملها لنا التحولات التي تحدث بنا، وبخاصة بعدما أصبحت الصورة إياها، تمثل: ليس فقط المصدر الأقوى لتشكيل الوعي والذوق والوجدان، عبر إمكاناتها الفاعلة في إنتاج وصناعة القيم والرموز؛ ولكن أيضا المادة الثقافية الأساسية التي يجري تسويقها على أوسع نطاق جماهيري، عبر ما جرى إحرازه من نجاحات هائلة على صعيد التوظيف التقاني في مجال الإعلام وآلياته.

فالثابت بالرصد والمعاينة أن التحولات المشار إليها، إنما تتواكب مع التغيير الحاصل في الحدود التقليدية لـ”الجغرافية الإعلامية”.

إذ، تكفل التوظيف التقاني الناجز بهندسة جديدة لتلك الحدود، عبر إكسابها أبعادًا مضافة.

يكفي أن نتأمل، كيف بات في الإمكان أن يفيض مجال توزيع الصورة (كمنتج مرئي، ومادة ثقافية، وسلعة تسويقية)، عن حدود مجال إنتاجها (المحلي، أو الوطني)، ومن ثم: كيف أن هذا “الفيض” يُمثل بُعدًا جديدًا مضافًا، على المستوى الأفقي (الاجتماعي)، تجاوزت به، ومن خلاله، الجغرافيا الإعلامية إشكالات التمدد إلى الخارج “العالمي”، عن غير طريق إبرام وبيع منتوجات إعلامية.

ولعل هذا يعبر عن تغير ذي دلالة فيما يخص الانتقال بالوطني والقومي إلى حال من “العالمية” بيسر بالغ، أو فيما يتعلق باختراق منظومة قيم ورموز “الآخر” الخارجي لِجُلِّ -إن لم يكن كل- ما هو محلي أو داخلي.

يكفي أن نتأمل أيضا كيف أن التعبير المرئي (المتمحور حول الصورة)، أصبح يلعب الدور نفسه الذي لعبته من قبل الكلمة المكتوبة، بالنسبة إلى “ثقافة المجتمع”، أو ـ إذا شئنا الدقة ـ الـ”ثقافة في المجتمع”، ومن ثم: كيف أن هذا “التعبير” صار يمثل اللغة، “ثقافة الصورة”، الأكثر تأثيرًا وهيمنة على مجمل الإبداعات داخل ثقافة محددة، والأداة الأكثر فاعلية في نشرها، والدفع في تجاوزها إلى الأعلى، بل ودمجها في نظام الحياة اليومية.. ولعل هذا يُشير إلى تغير ذي دلالة، اكتسبت به الصورة، على المستوى الرأسي (الثقافي)، بُعدًا جديدًا مضافًا على مسار تحويلها ـ ثقافيًا ـ إلى “سلطة رمزية”.

الكتابة بالصورة

يكفي أن نتأمل، كذلك، كيف تسنى لـ”الكتاب المرئي”، الذي يقوم على لغة الصورة ومفرداتها وبلاغتها وجمالياتها، أن يتجاوز “الكتاب المسموع”، الذي كان قد ساهم ـ قبل عقود ـ في الانتقال من الكتابة إلى الشفاهة. ومن ثم: كيف أن هذا “التجاوز”، لا يُشير فقط إلى عمليات التهميش التي تلحق بالكتابة، وبالمفهوم التقليدي للكتاب، بل يؤكد في الوقت نفسه، أن الانتقال ـ هذه المرة ـ يتوجه إلى مرحلة “الكتابة بالصورة”، إذا جاز التعبير.

ولعل هذا يُمثل تغيرًا ذا دلالة، تكتسب به “الثقافة المجتمعية”، معنى مغايرًا لذلك الذي اتسمت به فيما سلف من الأزمنة؛ إذ عبر الكتابة بالصورة، وعبر لغتها والثقافة التي تتضمنها، والناتجة عنها، وفي مناخ من التراجع الحاد للثقافة المكتوبة على صعيد الإنتاج والتداول (كعملية تتلازم مع تراجع معدلات “القراءة” على مستوى العالم).. (عبر هذا وذاك وما قبلهما)، تتحول الصورة، إلى نظام إنتاج وعي الإنسان بالعالم.

بعبارة أخرى، لعل أهم ما يمكن تلمسه في ماجريات اللحظة الإعلامية الراهنة، هو أن نظام توزيع الصورة ـ بوصفها الأداة الثقافية المعاصرة ـ على أوسع نطاق عالمي، لا يمكن اعتباره مجرد تقنية لـ”التلقين” فحسب، بل هو يتجاوز ذلك ليمثل كيفية جديدة لوعي العالم والتعبير عنه؛ بمعنى: إنه ليس مجرد وسيلة، بل هو ـ أكثر من ذلك ـ طريقة معينة لإدراك العالم والوعي به، والتعبير عنه.

وهكذا.. ترى، هل نغالي إذا قلنا أن هذا هو ما حدث من تسييد لفكرة: “مواجهة الإرهاب”، تلك التي ابتدعها الإعلام الأمريكي، كمثال.. مجرد مثال، كـ”غطاء منطقي” لما تقوم به القوات العسكرية الأمريكية من حروب في مناطق مختلفة من العالم؟!

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock