يقدم نصر حامد أبو زيد في كتابه “نظرة جديدة للقرآن.. نحو تأويل إنساني”، رؤية تأويلية مختلفة للنص القرآني تعتمد على مفهوم التأويل الإنساني، وهو مفهوم يتجاوز التأويلات التقليدية والفقهية الجامدة التي انتشرت عبر العصور. في هذا الكتاب، يسعى أبو زيد إلى تقديم قراءة جديدة للقرآن، تقوم على تفسير النصوص الدينية بطريقة تراعي البعد الإنساني والتاريخي، وتفتح المجال أمام فهم مختلف للتعاطي مع النصوص الإسلامية في العصر الحديث.
التأويل الإنساني
تستند أطروحة أبو زيد في هذا الكتاب إلى جملة من الأسس الفكرية، التي تُعيد تشكيل فهم النص القرآني من منظور إنساني، وهذه الأسس تتضمن:
٭القرآن والتفاعل المجتمعي؛ حيث يرى أبو زيد أن القرآن، بوصفه نصا مقدسا، يجب أن يُفهم في سياق الزمن الذي نزل فيه، بوصفه نتاجا لتفاعل مع الظروف الثقافية والاجتماعية التي كانت تحيط بالرسول -عليه الصلاة والسلام- والمجتمع الإسلامي الأول. وهو هنا لا يقلل من قدسية النص، بل يسعى إلى فهمه بوصفه يعكس واقعا اجتماعيا وتاريخيا محددا، ويتفاعل مع متغيرات هذا الواقع من خلال ما يُعرف بـ”أسباب النزول”.
هذا التأطير للنص القرآني يفتح الباب أمام قراءة جديدة، بحيث يمكن للمفسرين في كل زمان إعادة تأويل النص وفقا للسياق الذي يعيشون فيه، وليس فقط استنادا إلى السياق التاريخي للنزول. بناءً على ذلك، يدعو أبو زيد إلى فهم النصوص الدينية، بوصفها خطابا مفتوحا للتفاعل مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، المتغيرة بالأساس، بدلا من اعتبارها نصوصا جامدة، ثابتة لا تقبل التأويل.
٭التأويل التاريخي والسياقي: هنا يُشدد أبو زيد على أهمية القراءة التاريخية للنص القرآني، معتبرا أن فهم النص لا يمكن أن يكون كاملا إلا إذا وضع في سياقه الزماني والمكاني. فالنص القرآني، من منظور أبو زيد، لم يكن فقط إجابة دينية على أسئلة دينية، بل كان يتعامل مع مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية واجهها المسلمون الأوائل.
على سبيل المثال، يشير أبو زيد إلى أن بعض النصوص المتعلقة بالجهاد والقتال، لا يمكن فهمها اليوم بوصفها أوامر مستدامة أو شاملة لكل زمان ومكان، بل هي كانت تأتي ردَّ فعلٍ على أوضاع تاريخية محددة، مثل الصراعات مع القبائل المعادية للإسلام في تلك الفترة. ومن هذا المنظور، يعتبر أن تأويل النصوص يتطلب فهمًا عميقا للتاريخ والسياق، وهو ما يُعزز فكرة أن النص القرآني ليس مجرد كتاب ديني جامد، بل نص تفاعلي يتأثر بالظروف التاريخية والاجتماعية.
٭دور اللغة في التأويل؛ إذ يحتل البعد اللغوي مكانة مهمة في نظرية أبو زيد للتأويل الإنساني. ويرى أن النصوص القرآنية تحتاج إلى فهم دقيق للغة العربية التي كتبت بها، مع الأخذ في الاعتبار أن دلالات الكلمات ومعانيها تتغير مع الزمن. ومن ثم، يدعو أبو زيد إلى النظر في النصوص القرآنية باعتبارها نصوصا لغويةً حيَّةً، تتفاعل مع التطورات في اللغة والمجتمع؛ مؤكدا أن التحولات اللغوية تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم النصوص وتفسيرها. فاللغة، بحسب أبو زيد، ليست مجرد وسيلة لنقل المعاني، بل عامل فاعل في تشكيل تلك المعاني، ولذلك يجب أن تؤخذ اللغة بمرونتها وتطوراتها في الاعتبار عند تأويل النصوص القرآنية.
ويُشدد أبو زيد على أن التأويل الإنساني يجب أن يكون مستقلا عن السلطة الدينية والسياسية، ويقوم على أساس فهم النص بما يخدم تطلعات الإنسان ومصالحه، وليس بما يُعزز من سيطرة طبقة معينة من المجتمع. لذا، فهو يدعو إلى تحرير النصوص من قبضة السلطة، وإعادة فهمها في إطار يخدم المصلحة العامة والتقدم الإنساني.
يركز أبو زيد في كتابه.. على فكرة أن القرآن هو نص موجه إلى الإنسان، وأن الهدف الأساسي من النصوص الدينية هو تحقيق المصلحة الإنسانية في كل زمان ومكان؛ ولذلك يدعو إلى تأويل النصوص بما يتناسب مع القيم الإنسانية التي تركز على العدل والمساواة والحرية، وليس بالضرورة على حرفية النصوص.
مركزية الإنسان
يعتبر أبو زيد أن التأويل الإنساني يضع الإنسان في مركز الفهم والتفسير، ويعطي الأولوية للقيم الأخلاقية التي ينادي بها النص، على حساب التفسيرات الحرفية التي قد لا تتناسب مع تطور الزمن. فالنص القرآني، وفقا لأبو زيد، لم يأت ليكون عقبةً أمام تقدم الإنسانية، بل جاء ليكون مرشدا أخلاقيا وقيميا يمكن أن يتجدد مع تطورات الزمن.
وتُعد مركزية الإنسان في تأويل النص القرآني حجر الزاوية في رؤية أبو زيد؛ حيث يرى إن النصوص الدينية يجب أن تركز على حاجات الإنسان، وأن الإنسان هو المحور الأساسي الذي يدور حوله الخطاب القرآني.
ومركزية الإنسان في التأويل، وفقا لأبو زيد، تعني أن العقل والإبداع هما أدوات رئيسة لفهم النصوص. فهو يرفض التأويل الذي يعتمد فقط على النقل من المفسرين القدماء أو الفهم الجامد، ويدعو إلى استخدام العقلانية في تفسير النصوص الدينية، بما يتناسب مع حاجات الإنسان في العصر الحديث؛ مؤكدا أن الإبداع في التأويل هو جزء من طبيعة الإنسان التي يجب أن تُعزز، بدلا من فرض تفاسير جاهزة وقوالب فكرية ثابتة.
أيضا، يُشير أبو زيد إلى أن التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية -على مر العصور- ساهمت في تقييد الإنسان وإبعاده عن حرية التفكير والإبداع. ويرى أن الهدف الأساسي من التأويل الإنساني هو تحرير الإنسان من هذه القيود، وفتح المجال أمامه للتفكير بحرية في النصوص الدينية، وتفسيرها بما يتناسب مع تطور الزمان والمكان. هذا التأويل يُعزز مبدأ أن الإنسان هو سيد نفسه، وله الحق في تفسير النصوص بما يتفق مع مصالحه وقيمه الإنسانية.
في هذا الإطار، يرى أبو زيد أن التأويل لا يمكن أن يكون مجرد عملية علمية تقتصر على النخب الدينية، بل هو عملية تفاعلية يشارك فيها كل الأفراد. يعتبر أن كل إنسان له الحق في أن يقرأ النصوص القرآنية وفقا لظروفه الخاصة، وأن التأويل هو ممارسة حية يقوم بها الفرد والمجتمع لتحقيق الغايات الكبرى للنصوص الدينية. فإذا كانت النصوص الدينية، وفقا لأبو زيد، جاءت في الأساس لتوجيه الإنسان نحو حياة أخلاقية وناجحة؛ لذلك يجب أن يُعاد تفسير النصوص بما يخدم هذه الغاية العليا للخطاب القرآني، وهي خدمة الإنسان وحمايته من الظلم والقهر.
نص تفاعلي
المفهوم الرئيس الذي قدمه أبو زيد في إطار التأويل الإنساني للنص القرآني هو فكرة أن النص القرآني ليس نصا جامدا أو مُطلقا، بل هو “نص تفاعلي” يحتاج إلى إعادة تفسيره وتأويله بما يتناسب مع متغيرات العصر. يؤكد أبو زيد أن النص القرآني يجب أن يُقرأ بوصفه نصا ثقافيا يتفاعل مع الواقع الاجتماعي والتاريخي، وأن تأويل النصوص يجب أن يكون إنسانيا، يضع مصلحة الإنسان فوق أي اعتبار آخر.
هذا التأويل الإنساني يقوم على فصل النص عن التفسيرات التقليدية، التي كانت تهدف إلى تكريس السلطة وتثبيت المجتمع في قوالب فكرية جامدة، ويدعو بدلا من ذلك إلى قراءة النصوص بما يعزز من العدالة والحرية والتطور؛ كما أن التأويل الإنساني يتطلب فهمًا ديناميكيا للغة، بحيث لا تُفهم النصوص القرآنية بمعانيها اللغوية القديمة فقط، بل بمعانيها المتجددة والمناسبة للعصر الحديث.
وختاما، ورغم أن أطروحات نصر حامد أبو زيد قد أثارت العديد من الانتقادات، سواء لجهة اعتبار أن منهجه في التعامل مع النص القرآني يُهدد قداسة النص، أو لجهة اعتماد أبو زيد على مفاهيم الفلسفة الغربية، مثل “الهرمينوطيقا”، والتي يرى البعض أنها لا تتناسب مع الخصوصية الإسلامية؛ رغم ذلك فإن أبو زيد يُقدم في كتابه “نظرة جديدة للقرآن.. نحو تأويل إنساني”، رؤية جريئة تدعو إلى تحرير النص القرآني من القيود التقليدية، وإعادة تفسيرها بما يتناسب مع القيم الإنسانية وتطلعات العصر.