رؤى

القرن الأفريقي.. وتداعيات التدافع الدولي (3-3)

في إطار التطور الجغراستي لمنطقة القرن الأفريقي وتنامي أهميتها، يأتي التدافع الدولي بوصفه عاملا مؤثرا وهاما، في محاولات إعادة صياغة المنطقة، لتتناسب مع المصالح الاستراتيجية للقوى الدولية الكبرى، وصراعها حول الثروة والنفوذ.

إذ لنا أن نشير إلى المحاولة الفرنسية التي كانت تستهدف توسيع الدلالة السياسية للقرن الأفريقي، لتتعدى حدود الدلالة الجغرافية له، حتى بمعناها الواسع.. وهي المحاولة التي تمثلت في قيام أوليفيه ستيرن، وزير الدولة الفرنسي للشئون الخارجية عام 1981، بتوجيه الدعوة إلى كل من السعودية واليمن، إضافة إلى دول القرن الأفريقي، لحضور مؤتمر إقليمي يهدف إلى حل مشكلات المنطقة.

الوجود الأمريكي

لنا أن نشير أيضًا إلى المحاولات الأمريكية المتتابعة في صك مصطلح “القرن الأفريقي الكبير”، ومحاولة ترسيخه على أرض الواقع الأفريقي؛ وذلك منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون عام 1994، عن مبادرة تحمل هذا الاسم.. وهي المبادرة التي حاولت أن تقدم مفهومًا موسعا للقرن الأفريقي؛ ليشمل إلى جانب دول القرن التقليدية، دول منطقة البحيرات العظمى ووسط أفريقيا (عشر دول) بل إن بعض أدبيات التفكير الاستراتيجي الأمريكية، قامت بتوسيع المفهوم أكثر، ليتضمن اليمن.. وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

لكن، في خلال السنوات الأخيرة، اعتمدت الولايات المتحدة على أسلوب “التجربة من الخلف”، بديلا استراتيجيا لمشروع القرن الأفريقي الكبير، من خلال دعم عمليات التدخل بالوكالة في صراعات المنطقة، ومواجهة المنظمات والحركات الإسلامية المتطرفة المسلحة عن طريق الحلفاء الإقليميين (إثيوبيا، كينيا). هذا فضلًا عن قاعدة “ليمونيه” في جيبوتي، التي توفر قوات التدخل السريع لأية عملية عسكرية قد تشارك فيها القوات الأمريكية وقد جددت الولايات المتحدة عقد إيجار القاعدة، وزادت من قيمة العقد ليصل إلى 63 مليون دولار، بدلًا من 38 مليون دولار، سنويًا.

مثل هذه المحاولات – الفرنسية ثم الأمريكية- في إعادة صياغة المنطقة على أسس جديدة، لا تأتي فقط من منظور مكافحة الإرهاب حسب الإعلام الأمريكي؛ ولا تأتي وحسب من منظور قرب القرن الأفريقي من مصادر النفط في الخليج العربي.. ولكن، إضافة إلى هذا وذاك، تأتي استنادا إلى الأهمية الاقتصادية للقرن الأفريقي؛ حيث إن اكتشاف النفط والذهب والغاز الطبيعي في المنطقة، فضلًا عما تزخر به المنطقة من إمكانيات زراعية هائلة، وغابات غير مُسْتَغًلة، ومساحات من الأراضي الصالحة للرعي.. كل ذلك، قد أضاف بُعدا جديدا في التدافع الدولي إليها. ومن ثم، رأينا كيف دخلت قوى جديدة فاعلة على الساحة العالمية، مثل: الصين، والهند، والبرازيل، فضلًا عن روسيا، على خط هذا التدافع، جنبًا إلى جنب مع القوى الدولية التقليدية.

السعي الروسي

يكفي أن نلاحظ هنا، كيف أن روسيا مثلا، تسعى إلى إيجاد دور أكبر لها، خلال الفترة المُقبلة، في إريتريا، من منظور أن هذه الأخيرة يمكن أن تُمثل “موضع قدم استراتيجي” ومنطلقًا لحضور روسي أكبر في منطقة القرن الأفريقي، وفي مداخل البحر الأحمر؛ كما ظهر واضحًا في توقيع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في ختام زيارته إلى إريتريا، أواخر يناير الماضي، اتفاقية تفاهم ثنائية مع نظيره الإريتري عثمان صالح، لربط مدينة مصوع الإريترية على ساحل البحر الأحمر مع مدينة سيفاستوبول الروسية على ساحل البحر الأسود. 

إذ يتبدى أهم الأهداف التي تقف وراء السعي الروسي لإقامة قاعدة عسكرية في إريتريا؛ إنه ذلك الذي يؤشر إلى المحاولة الروسية في تأمين الارتكاز البحري لموسكو في مداخل البحر الأحمر، ما يسهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية؛ وبما يعني فرض روسيا لنفسها بوصفها لاعبا متحكِّما في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب. إضافة إلى ما يُمكن أن يُتيحه هذا الحضور من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ وبما يوفر مرفقَّا آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد والخدمات اللوجستية المختلفة. هذا فضلًا عن تقوية الدور الروسي لمنافسة في المناطق التي تحوي مخزونا كبيرا من النفط والغاز مثل الصومال وإثيوبيا.

الدور الصيني

يكفي أن نلاحظ أن الصين أيضا تحصل على ما يقارب 25% من إجمالي وارداتها النفطية من القارة الأفريقية؛ ومنذ أن اكتشف النفط في السودان، وفي جنوب السودان، دخلت بقوة في مجال استخراج وإنتاج النفط هناك. بل إن الصين التي تعتمد على فكرة “التغيير الناعم” من جانب، واستراتيجية “المساعدات في مقابل النفط” من جانب آخر، تضع نُصب أعينها الثروات الطبيعية في القرن الأفريقي؛ وبالتالي، كانت مصدرا مُهمًا للأسلحة التي حصلت عليها بعض دول المنطقة (إثيوبيا، إريتريا، الصومال).

هذا، فضلًا عن الاعتبار الجغراستي المتزايد الأهمية، الذي يتمثل في الوجود التجاري والأمني للصين، في منطقة البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي. هذا الوجود جاء في جزء كبير منه، عبر المشاركة تحت مظلة مبادرة “الحزام والطريق” (BRI) التي تبنتها الحكومة الصينية، منذ عام 2013. ورغم التاريخ الطويل للعلاقات الصينية الخليجية، التي تعمقت مع تكثيف الاستثمار الصيني، منذ إعلان المبادرة؛ إلا أن الأمر في الوقت نفسه، لم يخل من التنافس الاقتصادي. يتضح هذا، بشكل خاص في جيبوتي؛ حيث خسرت شركة موانئ دبي العالمية الإماراتية أمام الشركات الصينية في قطاع الموانئ.

الاتحاد الأوروبي

يُعتبر الاتحاد الأوروبي شريكًا رئيسًا لكثير من دول شرق أفريقيا عمومًا، ودول القرن الأفريقي على وجه الخصوص. واستنادًا إلى أن أوضاع عدم الاستقرار في المنطقة، فضلا عن عمليات الهجرة غير الشرعية، وتدفق اللاجئين، إنما تؤثر سلبًا على العلاقات الأوروبية مع دولها؛ لذا طرحت مفوضية الاتحاد عام 2006، استراتيجية للتعاون مع منظمة “إيغاد”، بشأن السلم والأمن والتنمية في القرن الأفريقي. هذا بالإضافة إلى إنشاء الفرقة العسكرية للتدخل السريع في شرق أفريقيا، بوصفها جزءا من قوات الانتشار السريع الأوروبية في القارة.

في هذا الإطار، يأتي التدافع الدولي عاملا مؤثرا في أهمية القرن الأفريقي، ومحاولات القوى الدولية إعادة صياغة المنطقة، وتركيبها، بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية.. وليشكل مع التنازع الداخلي، والتنافس الإقليمي، ثلاثية العوامل الفاعلة في جغراستية هذه المنطقة الحيوية، والمضطرية، في آن.

وماذا بعد (؟!).

وبعد.. لا يتبقى سوى أن نطرح التساؤل حول الدور العربي، المطلوب، تجاه القرن الأفريقي. إذ، رغم الإهمال العربي لهذه المنطقة، باعتبار أنها تبتعد عن مركز الاهتمامات العربية، الخاصة بتفاعلات القضية الفلسطينة ومساراتها طوال العقود الماضية.. إلا أن انقلاب ميليشيات الحوثيين في اليمن، وسيطرتهم على العاصمة صنعاء، وانطلاق عاصفة الحزم، ناهيك عن إنشاء “سد النهضة” الإثيوبي، وتداعياته المحتملة على مصر والسودان؛ هذه الأحداث ساهمت ـ بالتأكيد ـ في دفع الأهمية الجغراستية للمنطقة إلى دائرة الضوء العربي.

صحيح أن هناك محاولات عربية في الاقتراب من القرن الأفريقي (الأردن، السعودية، الإمارات)؛ لكنها في الوقت نفسه، ماتزال أقل مما ينبغي بالنسبة إلى مدى الأهمية التي تتمتع بها المنطقة بالنسبة إلى الأمن العربي عمومًا، وأمن منطقة الخليج العربي، ومصر على وجه الخصوص.

فهل تشهد السنوات المقبلة تحويل ثلاثية العوامل الفاعلة في جغراستية القرن الأفريقي، إلى رباعية.. في حال إضافة عامل الاهتمام العربي؟ نرجو ذلك.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock