مختارات

“تهميش مصر” في الـ”سوشيال ميديا”؟!

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عُمان

حسين عبد الغني

انتقلت مصر تدريجيًا – بعد سياسات السادات المنفردة والشوفينية منذ 1975 – من مرحلة تراجع الدور القيادي في أمّتها والعالم، حتى وصلت الآن إلى مرحلة السعي إلى تهميشها استراتيجيًّا وعزلها عن المشرق وحِصارها في قسمها الأفريقي.

لانتقال إلى مرحلة السعي لاختطاف الدور المصري ومحوه من أساسه له علاقة بتفضيلات ترامب الشرق أوسطية في ولايته الثانية. وله علاقة أيضًا بتلاقي هذه التفضيلات مع رغبة مُعسكر “الاتفاقات الابراهيمية” الصاعد في المنطقة، بتحويل صعوده إلى تتويجٍ رسميّ في مؤسّسات الإقليم وفي إدارة صراعاته وعلى رأسها القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مسارٍ لا يتعارض مع الخطوط الحمراء الأميركية.

لكنّ هذا المقال يُركّز على جانبٍ واحدٍ أظهرته قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على خلق مجالٍ عامّ وإثارة جدلٍ سياسيّ يفجّر المكبوت ويفضح المستور من تراكمات الخلافات البينيّة العربيّة.

ينطبق هذا أشدّ ما ينطبق على “بوست” قصير لسياسي مصري دعا فيه قبل أيام إلى إخراج مقرّ الجامعة العربية من مصر وإعادته إلى “العرب”.

التناقضات بين شرائح من المصريين اشتبكوا مع الـ”بوست” المذكور، دفع محلّلين إلى الاحتماء بالحاضر، والتركيز على أنّ هذا الجدل له علاقة باختلال التوازن في القوى لصالح الخليج، وخصوصًا بعد زيارة ترامب الأخيرة وهذا صحيح جزئيّا. وله علاقة أيضًا بالتوتّر الحالي بين واشنطن والقاهرة بسبب رفض الأخيرة لخطة ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزّة إلى مصر ورفض أي تنازل في تطوير تسليح الجيش المصري عامةً وفي سيناء خاصةً ورفض مرور السفن الأميركية في “قناة السويس” مجّانًا. لكنّ قراءة العلوم السياسية لاتجاهات الجدل في الفضاء الإلكتروني يكشف أنّ الماضي له علاقة كبيرة بما يحدث ولا يقلّ عن الحاضر، بل ويفسّر هذا الحاضر، وأنّ تراجع مكانة مصر والتجرّؤ على تهميشها ليس إلّا الثمن الفادح الذي تدفعه المحروسة لإرث السادات واستمرارها على نهجه.

الآراء المؤيّدة لذلك الـ”بوست” هي صاحبة الدّلالة الخطيرة. إذ قدمت نموذجًا مُخيفًا لما أفضت إليه سياسات ديبلوماسية ودفاعية وانقلابات في الخطاب الإعلامي والسياسي ومناهج التعليم المصرية دشّنها السادات وسارت عليها الدولة المصرية بعده من دون مقاومة. تكاملت اثنتان من السياسات الساداتيّة في خلق هذا التيار الشوفيني المعادي لعروبة مِصر. وكشف ترحيب هذا التيار بـ”بوست” رحيل الجامعة العربية عن تجذّر هذا التيار وتشكيله تهديدًا مستقبليًا في الانقسام المجتمعي. إذ لم يقتصر الأمر على الترحيب برحيل الجامعة وعودتها لجزيرة العرب! بل واشترط هؤلاء المرحّبون أن يعقب ذلك حذف العربية من اسم الدولة والاكتفاء باسم مصر فقط… البعض وصل حتّى للمطالبة برحيل الأزهر نفسِه وقطع كل الرّوابط مع “العرب”.

السياسة الساداتيّة الأولى هي الانقلاب على المشروع القومي التحرّري لجمال عبد الناصر واستبداله بشعارٍ مخادعٍ هو “مصر أوّلًا”، وكأنّ الوطنية المصرية تتعارض مع عروبتها. ترافق ذلك بحملةٍ شارك فيها السادات نفسه بخطاباتٍ علنيةٍ واصفًا الدول العربية بأنّهم مجموعة من الأعراب والقبائل وليست دولًا من الأصل، ناشرًا ثقافة الكراهية للعرب ومحييًا تيارًا انعزاليًا كان قد ذبل وانزوى.

السياسة الساداتيّة الثانية هي التي حوّلت سياسة وثقافة كراهية العرب إلى كارثة مُحقّقة، ألا وهي اختياره التحالف مع الإسلام السياسي لكي يضرب اليسار المصري بشقّيْه الناصري والماركسي اللذَيْن قاوما بشجاعةٍ “صلحه” المنفرد مع إسرائيل وانقلابه على سياسات الاستقلال الوطني. حوّل السادات بالتحالف مع حركة “الإخوان المسلمين” الإيديولوجية السياسية للدولة المدنية المصرية إلى نسخةٍ دينيةٍ ودولةٍ ذات طابع ديني “أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة”. قضى السادات بضربةٍ واحدةٍ على المشروعَيْن الحضاريَيْن لمصر الحديثة منذ 1805 اللذيْن ساهما في صياغة دورها القيادي وقوتها الناعمة في المنطقة وهما مشروعا الحداثة، والمواطَنة ومدنية الدولة.

السادات ومعاهدة السلام

ومع دخول السادات في مواجهةٍ مع رأس الكنيسة البابا شنودة وتجرّؤ الجماعات الإسلامية على إشعال حوادث طائفية من دون رادعٍ حاسمٍ من رأس الدولة… فَقَدَ قسمٌ من الأقباط ثقتهم لأول مرّة في حياد الدولة المصرية تجاه رعاياها. بعبارةٍ أوضح باتت فكرة المواطَنة في خطر وكانت النتيجة أنّ القسم الذي تأثّر أكثر بسياسة السادات بانفصال مصر عن جذرها العربي هو جزء من الأقباط المصريين الذين اعتقدوا أنّ انسلاخ مصر من عروبتها قد يُعيد إليهم الأمان الذي ضيّعه السادات. لكنّ الأمر ليس طائفيًا كما حاول “إخوان” اشتبكوا مع الـ”بوست” المذكور تصوير الأمر عليه، سواء بسبب ديانة كاتب الـ”بوست” أو وجود عددٍ وازنٍ من الأقباط الذين علقوا في جانب الترحيب بخروج الجامعة العربية وانسحاب مصر منها. فقد انضم إليهم – في الترحيب بالدعوة لانسحاب مصر من عروبتها – نخب واشنطن وإسرائيل من المصريين المسلمين وانضم إليهم تيّار “الكمايتة” الشوفيني وهو التيار الذي يريد فقط تثبيت هوية وحيدة لمصر هي الفرعونيّة.

تجني مصر باختصار نتائج اتباعها لإرث السادات في سياسة الانكفاء على الداخل ودغدغة مشاعر معادية للأمن القومي المصري المرتبط بالمشرق العربي وفلسطين ارتباط القلب بالجسد.

تجني مصر الحالية ثمن استمرارها فيما يُسمّيه البعض سياسة الحياد ويُسمّيه البعض سياسة الدفاع السلبي غير النشط ما سمح للإسرائيليين بخرق اتفاق “كامب ديفيد” وتهديد مصر بتهجير فلسطيني يهزّ استقرار نظامها السياسي ويُهدّد أمنها الوطني ويُعيد الفرصة للإرهاب في سيناء والوادي ليرفع رأسه التي انخفضت. ومن دون تقدّم الطبقة السياسية المصرية لمواجهة إرث السادات المرير وإجراء مراجعةٍ شاملةٍ لسياساته أو البدء فيما وصفه أحد الكتّاب القريبين منها “باستدارةٍ استراتيجيةٍ كاملة” سيستمرّ الكثيرون في التجرّؤ على مصر وعلى دورها من أميركيين وإسرائيليين. التجرّؤ سيمتد لبعض الأطراف العربية التي لا تعرف معنًى للقيادة الإقليمية إلّا تحت العباءة الأميركية، قيادة بلا تضحيات كالتي قدّمتها مصر، وقيادة مهمّتها الدفع قُدُمًا بتسوية للقضية الفلسطينية تكون بمواصفات “صفقة القرن”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock