في أعماق بحرها الطامي غاص علماؤها وأعلامها، عشاقها ومريدوها؛ لينقبوا في أحشائه عن درها المكنون، وليمسحوا عنه ما ران عليه من عقود تخلف فكري وارتداد ثقافي. احتفاء مجمع اللغة العربية باليوم العالمي للغة العربية، الذي حددت له منظمة اليونسكو يوم 17 ديسمبر من كل عام، كان مناسبة لعرض رؤى ثلاثة من أبرز خبراء اللغة العربية بشأن واقعها الراهن ومكانتها التاريخية عالميا وسبل النهوض بها في مواجهة ما تقابله من تحديات.
الفصحى التي ندعو إليها
بدأت الاحتفالية بمحاضرة للدكتور محمد حسن عبد العزيز عضو المجمع، بعنوان “الفصحى التي ندعو إليها. استهل المحاضِر كلمته بالتنديد بالهجمة التي تتعرض لها اللغة العربية ومؤسساتها على مدى عقود، وفي القلب منها مجمع اللغة العربية، ومثل لذلك بما نسب للمجمع – على سبيل التهكم – بأنه وضع للسندوتش عبارة “شاطر ومشطور وبينهما طازج”، بينما أقر المجتمع كلمة “شطيرة” وهي لفظة فصيحة ودالة وجديرة بالاستعمال، على حد وصفه.
وعرف عبد العزيز الفصحى المعاصرة بأنها “فصحى معربة لا تجافي القواعد، مكتوبة في أغلب الأحوال، تستخدم في العلم والأدب والصحافة، وهي اللغة الرسمية المشتركة في العالم العربي التي يعدها العرب لغتهم القومية ومظهر شخصيتهم ورمز استقلالهم “.
ويشير عبد العزيز إلى أن الفصحى المعاصرة التي صاغها الأدباء والعلماء والصحافيون واللغويون منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين تتميز بصفات ثلاث، وهي المرونة (توافر ذخيرة من الكلمات والعبارات تيسر لمن يستخدمها أن يعبر عما يريد بطرق شتى)، والمواءمة لمتطلبات التعبير العصري (ويقصد بها دقة التعبير، وجودة التوصيل، وقوة التأثير)، والبساطة والتعقيد في آن بما يخدم أداء وظائفها وتيسير تعلمها ووفائها بحاجات المتكلم.
وعن نشأة الفصحى المعاصرة ومقاومتها عوادي الثقافات الوافدة يشير عبد العزيز إلى أن المجتمع العربي ظل على مدى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يحدد هويته من منطلقات عربية إسلامية. وعلى مستوى اللغة، تطلًع العرب إلى استعادة مصادر ثقافتهم العربية، وكانت الفصحى جوهر هذه الثقافة، وكان المفكرون الذين دعوا إلى تجديد الفكر الإسلامي هم من دعوا أيضا إلى تجديد العربية وإثرائها لتكون وافية بمتطلبات العصرنة.
في هذا السياق، لفت عبد العزيز إلى الدور المحوري الذي اضطلع به مفكرون من طبقة رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك والشيخ محمد عبده والمرصفي وحمزة فتح الله وأحمد لطفي السيد وغيرهم ممن دعوا إلى إحياء هوية المجتمع العربي الإسلامي عامة، والمصري خاصة.
كما أشار إلى إسهامات الأدباء العظماء الذين كتبوا وشعروا بالفصحى وبثوا فيها روح الأدب السامقة من شاكلة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وطه حسين والعقاد وهيكل والحكيم وغيرهم.
وأضاف أن العالم شهد عرس العربية بتتويج أديبها نجيب محفوظ بجائزة نوبل بعد أن فعل ما لم يفعله سابقوه وطور لغة أدبية شاعرية لا لحن فيها تُصور المجتمع المصري حتى في أدنى طبقاته. كما نجح توفيق الحكيم في تطويع العربية لفنون المسرح الوافد من الغرب، والتقريب بين الفصحى والعامية في بعض مسرحياته.
ونوه عبد العزيز بالدور المهم الذي لعبته الصحافة في نشأة الفصحى واستمرارها وتطورها، لافتا إلى أن الرواد الأوائل للفكر العربي المعاصر من أمثال الطهطاوي وعلي مبارك والشيخ محمد عبده كانوا من أركان نهضة الصحافة المصرية. كما اشتغل كثير من الأدباء بالصحافة، وكانوا من عمدها، مثل عبدالله النديم صاحب (التنكيت والتبكيت)، والأستاذ الشيخ علي يوسف صاحب (المؤيد)، ومصطفى كامل صاحب (اللواء).
عالمية اللسان العربي
في دراسته بعنوان “عالمية اللسان العربي في العصر الحديث”، عرض الدكتور خالد فهمي، أستاذ العلوم اللغوية بكلية الآداب جامعة المنوفية، والخبير في مجمع اللغة العربية، لأهم التحديات التي تواجهها اللغة العربية في العصر الحديث، والتي أجملها في ثلاث حزم: أولها مستوى الثقافة من جانب أبنائها، والثانية مستوى إنتاج المعرفة بها، والثالثة مستوى استعمالها وتشغيلها، من أجل الخروج بنتيجة منطقية ومسوغة وعلمية ترصد مستقبل العربية على خريطة لغات العالم الرئيسة.
استهل فهمي دراسته بمعلومة موثقة تاريخيا مفادها أن إتقان العربية كان شرطا وعرفا لتولي مناصب علمية حتى في قلب أوربا المسيحية، ودلل على ذلك بما أورده الأديب والفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في روايته الشهيرة “اسم الوردة”.
وفي روح غلب عليها التفاؤل سردت الدراسة محددات عالمية اللسان العربي التي يمكن الاعتماد عليها في استعادة اللغة العربية مكانتها العالمية المرموقة والتصدي لمواجهة ما تقابله من تحديات راهنة تضعها ضمن قائمة اللغات المهددة.
أهم هذه المحددات هو العمل على تأكيد الاعتراف بعالمية اللسان العربي في التقليد اللغوي الغربي المعاصر؛ وهنا تورد الدراسة ما أثبته نيقولاس أوستر في كتابه “إمبراطورية الكلمات.. تاريخ اللغات في العالم”، أن “الدنيا مليئة بالعربية”، وهو ما أدركه قرار الأمم المتحدة (3190) في 18 ديسمبر 1973 بإدراج اللغة العربية ضمن لغات منظمة الأمم المتحدة، اعترافا من المنظمة الدولية بـ”أهمية دور اللغة العربية في صون الحضارة والثقافة الإنسانية ونشرها، والانتشار الكمي لمستعمليها بوصفها لغة لعدد كبير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأهلية استعمالها كلغة عمل في عدد من المؤسسات العالمية والمؤتمرات الدولية مثل منظمة الوحدة الإفريقية”، حسب ما ورد في حيثيات قرار الأمم المتحدة.
واعتبر فهمي أن الاعتراف بعالمية اللسان العربي في التقليد اللغوي الغربي المعاصر هو “أهم حدث في تاريخ العربية منذ عصور الازدهار”، وفقا لما أورده نبيل الزهري في دراسته التي حملت عنوان “التوثيق باللغة العربية في منظمة الأمم المتحدة” (2015).
تنتقل الدراسة بعد ذلك إلى محدد آخر، وهو الاعتراف بعالمية اللسان العربي في التقليد اللغوي العربي المعاصر، الذي ربما ظهر تابعا أو متأثرا بالاعتراف الغربي، وهو يستند إلى حزمة من المعايير من أهمها الوطنية والقومية (الصادرة عن الانتماء للعروبة والهوية العربية)، والدينية (المنبثقة عن ارتباط العربية بالقرآن الكريم وبالدين الإسلامي بوجه عام)، والكمية (الناتجة عن كثافة مستخدمي العربية).
ويمثل الباحث لاعتراف اللسانيين العرب بعالمية لغتهم بكتاب “اللغة بين القومية والعالمية”، للدكتور إبراهيم أنس، وكتاب “اللغة العربية في المنظمات الدولية”، الذي حرره ناصر بن عبدالله الغالي.
تعريب العلوم ومخاطر “العبرنة”
عرض الدكتور السيد إسماعيل السروري، أستاذ مساعد الدراسات السامية واللغة العبرية في كلية دار العلوم بجامعة المنيا، ورقة بحثية أمام الاحتفالية حملت عنوان “تعريب العلوم في ضوء العبرنة الإسرائيلية”. تهدف الورقة إلى تفحص واقع اللغة العربية والتوعية برسالتها واستشراف مستقبلها من خلال تفحص مواقف الإسرائيليين من العبرية.
تناولت الورقة أربعة محاور، أولها يتمثل في سعي الاستعمار إلى التشكيك في اللغة العربية والعمل على إضعافها وإلغاء دورها بعد أن أدرك في أعقاب تيار القوميات الذي اجتاح أوربا في القرن التاسع عشر قيمة اللغة الواحدة المشتركة في دعم وحدة الوجود القومي والإحساس بالهوية . من هنا اتجه الاستعمار إلى التشكيك في اللغة العربية عبر حملات ضارية قادها نفر من المستشرقين وانساق وراءهم بعض الكُتاب العرب، بالترويج لمقولة أن اللغة العربية غير مؤهلة لمجاراة علوم العصر والتعبير عن مستحدثاته الحضارية، ومن ثم ينبغي أن تحل العامية محل الفصحى، وأن يستبدل الحرف العربي بالحروف اللاتينية أو العبرية المقطعة.
وركز المحور الثاني على تفاصيل إصرار الصهاينة على إحياء عبريتهم واستخدامها في جميع العلوم وفي مختلف مراحل التعليم. ففي الوقت الذي كيلت فيه الاتهامات للعربية بالعجز عن استيعاب الطفرة الحضارية الغربية، أرادت الصهيونية اصطناع قومية لم تكن تملك من مقوماتها أرضا أو شعبا، فجمعت شراذم متناثرة إلى أرض فلسطين، وسعت إلى توحيدهم ودمجهم لغويا وثقافيا عبر لغة واحدة.
في هذا السياق، ترصد الورقة ثلاث ملامح رئيسة لدعم الوحدة اللغوية (العبرية) في الكيان الصهيوني:
- عمد الكُتاب والمفكرون الصهاينة إلى إحياء العبرية التي كانت قد ماتت قبل ألفي عام من الزمان على ألسنة المهاجرين اليهود الذين تجمعوا في فلسطين على لغات مختلفة جعلتهم غير قادرين على التفاهم، فضلا عن التوحد القومي والثقافي. لهذا الغرض أنشأوا الجمعيات وأقحموا العبرية في جميع التخصصات وفي كافة مراحل التعليم، واعتبروا أن المحافظة على العبرية ومكانتها صونا لشعب إسرائيل وحريته الفكرية واستقلاله السياسي.
- رفض المفكرون الصهاينة حركة ظهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي تدعو إلى كتابة العبرية بالحرف اللاتيني، وجددوا رفضهم لها مع تجددها في ستينيات القرن نفسه، وتصدى لها بشراسة مجمع اللغة العبرية.
- اصرار جميع الدوائر في إسرائيل مثل الكنيست ومجلس الوزراء واتحاد العمال على تطوير العبرية وصوغ مصطلحاتها، وإدراكا منهم لحقيقة أن التقدم وتوطين التكنولوجيا المعاصرة لا يتحقق إلا باستخدام اللغة القومية فقد أصر الإسرائيليون على العبرنة الشاملة، ما أدى إلى تمثلهم علوم العصر وتقنياته، وتحقيق تقدم علمي هائل، وولوج مراحل الاختراع والإبداع.
ويلفت المحور الثالث إلى خطورة الانتقاص من السيادة الكاملة للعربية في وطنها في مواجهة العبرنة الإسرائيلية الشاملة، فالصراع الثقافي في أساسه صراع لغوي، وإذا كانت ثقافة السلام سوف تحقق نوعا من الغزو الثقافي الغربي للبيئة الإسلامية العربية الشرقية، فإن إسرائيل ستصبح قاعدة هذا الغزو.
أما المحور الرابع فيوَصف ما يجب على الدول العربية أن تحتاط به إزاء العبرنة الشاملة، على النحو التالي:
- كثرة التمازج والتداخل بين اللغة القومية واللغات الأجنبية يخلق ثنائية لغوية تؤدي إلى اضطراب ثقافي وتذبذب فكري.
- النيل من سيادة العربية في أوطانها لحساب اللغات الأجنبية وتهيئة أسباب ضعفها يؤدي إلى وأد الإبداع، والعكس صحيح.
- استخدام العربية في مجال العلوم يمدها بدقة التعبير، ويتيح أمامها فرص التطور والنمو، ويقضي على الإحساس بالدونية والتبعية.
- ضرورة إسكان العلوم بنية الفكر العربي عن طريق ترجمتها.