على الرغم من تفوقها العلمى اللافت على مدار مراحلها التعليمية وريادتها للعديد من المجالات المعرفية، فإن سهير القلماوى لم تقنع بدورها التعليمى داخل أسوار الجامعة بل تجاوزت ذلك إلى المجال العام داخل المجتمع المصرى كله فاعلة ومؤثرة ومشاركة فى المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة .ولا غرابة في كل ذلك ،فهي تلميذة التنويري الكبير طه حسين الذى عمل على أن يكون التعليم كالماء والهواء وسعى إلى تأصيل منهجية البحث العلمى والتاريخى وتتلمذ على يديه الكثيرون وكان فى مقدمتهم د.سهير القلماوى.
سهير القلماوى أول طالبة تلتحق بجامعة فؤاد الأول 1929
من الطب إلى الآداب :
بمجرد حصول القلماوى على البكالوريا – الشهادة الثانوية – من كلية البنات بالجامعة الأمريكية أخذها والدها – الطبيب الجراح ذو الأصول الكردية والمؤمن بأهمية تعليم البنات – لتقديم أوراقها لكلية الطب جامعة القاهرة لإعجابها الكبير بأبيها ورغبتها فى أن تكون مثله. لكن الجامعة رفضت أوراقها بحجة أن كلية الطب لاتقبل بتعليم البنات فذهب أبوها إلى عميد كلية الآداب د. طه حسين ليتوسط له فأقنعه العميد أن تتقدم بأوراقها إلى كلية الآداب قسم اللغة العربية ورغم رفض الجامعة – للمرة الثانية – فقد استطاع طه حسين إقناع رئيسها أحمد لطفى السيد. وهكذا أصبحت سهير القلماوى أول طالبة مصرية تلتحق بآداب القاهرة بين أربعة عشر طالبا ،وقد أظهرت تفوقا كبيرا فى دراستها ،وبمجرد تخرجها عام 1933تم تعيينها معيدة بالقسم، لتكون أيضا أول فتاة تتولى هذه الوظيفة كما كانت الأولى فى الالتحاق بالجامعة إلى أن لحقت بها أمينة السعيد وعائشة راتب وغيرهما.
طه حسين أحمد لطفي السيد
وتعد سهير القلماوي امتدادا لهدى شعراوي وصفية زعلول اللتين تأثرت بأفكارهما التنويرية والمدافعة عن حقوق المرأة فى مرحلة صباها المبكر .
رائدة الأدب الشعبى :
بعد حصولها على الماجستير فى موضوع ” أدب الخوارج ” عام 1937وكان موضوعا بكرا فى هذه المرحلة ويدل على شخصيتها المتمردة، أرسلتها الجامعة – بمساعدة من طه حسين – إلى فرنسا لنيل درجة الدكتوراه وكان اختيارها دراسة ” ألف ليلة وليلة ” علامة فارقة فى الدرس الأدبى بصورة عامة لأنها – بهذا الاختيار – تعد رائدة الدراسات الشعبية التى أصبحت بعد ذلك مقررا معتمدا فى قسم اللغة العربية بعد ذلك وأصبح من أعلامه نبيلة إبراهيم وأحمد مرسى وأحمد شمس الدين الحجاجى وصلاح الراوى وغيرهم ممن يعدون تلاميذها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وأهم ماجاء فى هذه الرسالة هو تأكيدها على الطابع المصري لكثير من حكايات ألف ليلة وليلة التى اكتملت كتابتها هنا في مصر، وهى بذلك تؤكد فكرة المزاج المصرى الذى يختلف عن المزاج العراقى أو الشامى. وكانت طوال فترة إقامتها فى باريس تراسل طه حسين وتشكو غربتها ووحدتها ومعاناتها وكان يشجعها على التحمل وينصحها باستمرار الكتابة فى مجلات مثل الرسالة والثقافة وأبوللو التى نشرت فيها وهى لاتزال فى السنة الثالثة بكلية الآداب، كما عملت في هذه السن المبكرة أيضا – عام1932- مساعدة رئيس تحرير لطه حسين بمجلة جامعة القاهرة ،وهو دور كان طه حسين يقوم به مع كل تلاميذه ولعل أشهرهم د.محمد مندور وعن هذا الدور الكبير يقول الشيخ محمد الغزالى : كنا نرى طه حسين يتابع تلامذته فى الشرق والغرب ويتابع مسيرتهم ويربت على كتفهم ويحثهم على المواصلة، بينما لم نر من مشايخنا من فعل هذا أو ربعه فضلا عمن حاربونا فى أفكارنا وتوجهاتنا.
ولم تكن القلماوى رائدة فى الدراسات الشعبية فحسب بل كانت من المبشرين الأوائل بالأدب المقارن وتزاوج الفنون ووضعت نظرية للأدب ربطت فيها بين الأدب والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ مؤكدة بذلك وحدة المعرفة التى تبناها فلاسفة الغرب وهو ماتدعو إليه الآن الدراسات البينية والذى يعد تمهيدا لما يعرف الآن بالنقد الثقافى الذى تنفتح فيه البنية الأدبية – شعرا أو سردا – على غيرها من أنماط الثقافة المختلفة.
ورغم اعجاب سهير القلماوي بنظريات النقد الغربي ،وخصوصا “نورثروب فراي” وكتابه ” تشريح النقد”، وإعجابها كذلك برواد مدرسة النقد الجديد، إلا ان ذلك لا يعني تبعيتها للغرب. فقد كانت تجمع بين المعرفة التراثية والمعرفة النقدية الجديدة، كما أنها لم تكن تشعر بالدونية إزاء الغرب وليس أدل على ذلك من كتابها المشترك مع د.محمود على مكى والذى يحمل عنوان ” أثر العرب والإسلام فى النهضة الأوربية “.
كتابات وترجمات متنوعة :
ربما لايعرف الكثيرون أن د.سهير القلماوى كاتبة قصة اجتماعية بديعة بجانب كونها ناقدة ومؤرخة للأدب ومترجمة عن الصينية والإنجليزية .فقد أصدرت مجموعة قصصية تحمل عنوان “أحاديث جدتي ” عام 1935،بعد تخرجها في كلية الآداب بسنوات قليلة ، وأشاد بها طه حسين إشادة كبيرة في مقدمته لها ، وهى ترصد حكايات جدة لحفيداتها وما تحويه هذه الحكايات من قيم أخلاقية وتربوية ثم توالت مؤلفاتها بعد ذلك ومنها : “أدب الخوارج “– “ألف ليلة وليلة” – “في النقد الأدبي” – “المحاكاة في الفن” – “العالم بين دفتي كتاب” – الشياطين تلهو – “ثم غربت الشمس “.كما قامت بترجمة بعض القصص الصينية لبيرل باك وكتاب “العجائب” لناثانيل هورثورن ،و”ترويض النمرة” لشكسبير . ولاشك أن هذه المجالات المعرفية المتنوعة تدل على موسوعية د.سهير القلماوى وتنوع روافد ثقافتها ما أهلها للدور الكبير الذى قامت به ليس فقط فى نطاق الجامعة بل فى إطار المجتمع كله من خلال المناصب التى تولتها.
مهام ثقافية كبيرة :
كانت قضية المرأة المصرية والعربية والدفاع عن حقوقها إحدى القضايا المحورية فى حياة سهير القلماوى ولعل ذلك يفسر توليها للعديد من المناصب الخادمة لهذه القضية ومنها رئاسة رابطة خريجات جامعة المرأة العربية عام 1959 كما كانت أول رئيسة للاتحاد النسوي المصري ورئيسة المؤتمر الدولي للمرأة عام 1960، كما شكلت لجنة للإشراف على جامعة الفتيات الفلسطينيات عام 1962 ،ولم يكن اهتمامها بالفنون والثقافة أقل من ذلك حيث رأست الهيئة المصرية العامة للسينما والمسرح والموسيقى عام 1967 وأسست أول معرض للكتاب فى الشرق الأوسط ( معرض القاهرة الدولي للكتاب ) عام 1969وكأنها تقاوم الإحساس العام بنكسة السابع والستين وتسعى إلى تأسيس تظاهرة عربية ثقافية جامعة .كما تولت رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب فى هذه السنوات الحرجة من 67إلى عام 1971. وفي بدايات حكم مبارك تولت سهير القلماوي هيئة الرقابة ك من عام 1982إلى 1985. وفي كل مراحل حياتها الحافلة والتي عاصرت أربعة عهود ( أواخر العهد الملكى والفترة الناصرية والفترة الساداتية وأخيرا فترة حكم مبارك) فإن القلماوي أدت أدوارا مشهودة في هذه العهود جميعها. فبالإضافة إلى ما سبق، يمكن أن نشير إلى الأدوار السياسية المباشرة التي لعبتها، حيث كانت عضوا بمجلس الأمة عام 1959وعضوا بالاتحاد الاشتراكى عام 1963 وعضوا بمجلس الشورى عام 1979. ورغم عضويتها الأخيرة بمجلس الشورى والتى كانت فى الفترة الساداتية فقد رفضت الإشراف على رسالة جيهان السادات محافظة بذلك على نزاهتها العلمية .كما اتخذ تلميذها المباشر د .عبد المنعم تليمة الموقف نفسه. لقد كانت سهير القلماوي تعامل تلامذتها كأنهم أبناء لها اقتداء بما فعله طه حسين معها. ومن المواقف الدالة على ذلك أن الجامعة الأمريكية سعت إلى إقامة مؤتمر عن الأدب العربى بجامعة القاهرة وطلبت من د.سهير الإعداد له والإشراف عليه، فكلفت بدورها د.تليمة بمعاونتها وفى نهاية المؤتمر صرفت الجامعة الأمريكية للدكتور تليمة مبلغ 900 جنيه وللدكتورة سهير 4000 جنيه فرفضت أن تتسلم المبلغ وطلبت أن يصرف للدكتور تليمة نفس المبلغ لأنه قام بنفس المجهود فاستجابت الجامعة الأمريكية لطلبها.
وقد حصلت د.سهير على العديد من الجوائز فى حياتها ومنها جائزة مجمع اللغة العربية عن رسالتها للدكتوراه عام 1954 وجائزة الدولة التقديرية فى أدب الشباب عام 1955وجائزة ناصر المهداة من الاتحاد السوفيتى عام 1976وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1977 لكن أهم تكريم يمكن أن نقوم به الآن هو إعادة نشر أعمالها الكاملة لأهميتها الكبيرة فى إثراء الحياة الأدبية والثقافية
فيديو جرافيكس
نص: بلال مؤمن
تحريك ومونتاج: عبد الله إسماعيل