كثيرا ما يصدمنا واقعنا المر فيكون فارغا مما يحقق الآمال وعليه تبقى طموحات الناس معلقة على الأبواب المقصودة المرجوة؛ وهو ما يضطر كثيرين إلى الحياة في عالم الخيال والأحلام، سيما الذين لا حظ لهم من التعليم والثقافة، بل إن بعضهم يعول على أحلام النوم كبديل للواقع المغلق، ومن ثم اللجوء إلى مفسريها لاستكناه خلاصاتها، داعين الله، بقلوب صادقة، أن تكون رؤيا خير لا أضغاث أحلام.
ربما ليس عيبا أن يلجأ من يرى حلما غامضا إلى العالمين بتأويل الأحلام، من باب إشباع الفضول، لكن الخطورة تكون حين يستبدل الشخص هذا الحلم بالواقع، ويرضي بأن يجعله أرضا يمشي عليها، بعيدا عن الكرة الأرضية، التي هي موضع السير وثبات الأقدام. والعيب كل العيب أن يدير المرء شؤون حياته وفق ما يقدمه له المفسرون من شروح وتفسيرات.
في الأديان جميعها أحاديث شتى عن عالم الرؤى والأحلام.. ذلك العالم الجواني المدهش المثير، الذي يبدو كشاشة سينمائية شديدة الإبهار. فالأديان السماوية الثلاثة تؤمن بنبي الله يوسف الذي كان أبلغ من عَبَر وفسّر الرؤيا والأحلام، بل تنبني عليها قصته البديعة فيما بينه وبين أبيه نبي الله يعقوب. ومن قبل يوسف وقصته، فإن أتباع اليهودية والمسيحية، وإن اختلفوا مع الإسلام بشأن شخصية الذبيح في قصة أبي الأنبياء إبراهيم (الإسلام يؤكد أنه إسماعيل، وتقول اليهودية والمسيحية بأنه إسحق)، إلا أن الأديان الثلاثة لم تختلف في أصل المنام القديم الذي كان أساسه هو فكرة الذبح والفداء.
كتب تفسير الأحلام
يحفل التراث الإسلامي، بالعديد من الكتب والمؤلفات في مجال “تعبير المنامات” أو تفسير الأحلام، لعل أشهرها إلى الآن كتاب محمد بن سيرين “تفسير الأحلام”.. لكن يمكن إجمالها كلها مرتبة، بالنظر إلى تواريخ وفاة أصحابها، على النحو التالي: “تفسير الأحلام “لمحمد بن سيرين ( 110ه).. “شرح السنة” للحسين بن مسعود البغوي 516ه) وهذا الكتاب ليس كله في مجال تعبير المنامات، لكن فيه بابا عنه، ثم كتاب “البدر المنير في علم التعبير” للشهاب العابر (697ه)..وكتاب “الإشارات في علم العبارات” لابن شاهين الظاهري ( 873ه).. و”تعطير الأنام” لعبد الغني النابلسي ( 1143ه).
وقد اعتمد المفسرون المعاصرون على هذه الكتب اعتمادا كليا في محاولاتهم لفهم ما تطرحه عليهم الجماهير في وسائل الإعلام، وعلى وجه الخصوص اعتمدوا على الكتاب الأشهر الذي سبق ذكره لابن سيرين؛ فلديه “فصل في تفسير الرؤيا” – يعده كثيرون من أهل السنة من أفضل الفصول فائدة في الكتب المعتبرة في المجال منذ أزمنة بعيدة-، ولا يوجد طرح جديد قوي يروى ظمأ المتعطشين إلى مثله.
على كل حال فإنه في وجهة نظرنا ونظر كثيرين غيرنا، لم يكن كتاب “تفسير الأحلام” لأبن سيرين كتابا علميا قط، ربما كان فريدا في حينه، لكنه في الحقيقة روج للخرافة والوهم، وبنى بناء سطحيا لا عميقا، وتزّيد فيما عده للكائنات من الدلالات، وفي تعدد جهات التفسير باختلاف أنواع أصحاب الأحلام وأوضاعهم، واتكأ على الشائع في وقته من الأحوال وعلى المعنى الظاهر من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة دون النفاذ إلى المعاني الباطنية.. وما علا قدره في العالمين إلا لفضل سبقه وجودة سبكه، واحتياج الناس الشديد إلى ما قام به الرجل من جهد كبير مشكور، ربما امتد أثره في الأزمنة بحكم دورانه بدائرة مثيرة مشوقة.
وسيلة للكسب المادي
يستند مفسروا الأحلام الجدد على ذلك الطرح القديم البالي الذى قدمه ابن سيرين، بالرغم من بديهية مجاوزة الأوقات الحالية إياه، بل يقيسون عليه بلا حجة. فمن رأى الآن أنه قاد عربة آلية في نهار مدينة هادئة وجرى معه كذا وكذا، هو عندهم كمن قاد ناقة في صحراء وحدث له كيت وكيت.. وهو خلط شنيع لا قياسا منطقيا، هو إنزال قسري للعصر السيريني، نسبة إلى الإمام الغابر، على عصرنا الذي يختلف تماما، والذى ازدحمت نهارات مدنه ولياليها، وضج بالشكوى من الجلبة والصخب.. أخطر من هذا متاجرة المفسرين الجدد، أو من يدعون الدراية بتفسير الأحلام – لو شئنا الدقة- متاجرتهم في البشر كما لو كان البشر بضائع تباع وتشترى في الأسواق. فالدعاية، في القنوات الفضائية بالذات، تبدو براقة سرَّاقة ويبدو إلحاحها الاستقطابي ضاغطا، أما المفسرون أنفسهم فيبدون منظمين من حيث تشابه هيئاتهم العامة ومنطقهم الذي تعرض هذه القنوات (الربحية) لمحات منه في أشكالها الدعائية الكثيفة..
وقد تبدو الحكاية برمتها، في أعين المتابعين الواعين النابهين الذين نجوا من الشَّرَك الخادع؛ كلعبة للكسب الضخم وحصد الشهرة الطاغية، على الرغم من هيبة المشهد الكلي الذي عادة ما يصبغه الإعلاميون المحترفون الماكرون ،بصبغة دينية خلابة.
يسيطر أغلبية هؤلاء المفسرين على الناس، خصوصا العوام، بإشاعات روحية تفيد بأنهم يحددون المصائر ويقدمون النصائح الواجبة قبل فوات الأوان، يساعدهم على الأمر انتشار أخبار تؤكد تنبؤهم بموت الفنان المعروف فلان، وتألق المغنية القديرة فلانة. ولو صح من الأخبار شيء فصدفة هم من ينشرون مثلها سعيا إلى توسيع ممالكهم الخرافية، واستقطابا لمزيد من ضعاف العقول والقلوب. ولا يعني هذا كفرنا الشخصي بأفق تفسير الأحلام وإمكانية العثور على مفاتيح لإشاراته ورموزه من خلال العلوم الأكثر تقدما ومناهج البحث المتطورة، بجوار المراجع القيمة التي يمكن الركون إليها – عادية كانت أو مقدسة- لكننا نقصد به الطعن في الأدعياء الذين يعتاشون على حساب المنامات بدهاء مذهل.
في النهاية، لدينا الواقع بكل أحداثه السعيدة ومآسيه الحزينة أيضا، وبكل طاقتنا الإنسانية العبقرية المتفاعلة معه باستمرار؛ فلا يصح أن نغفل عنه لحظة، لا أن نلوذ بالنوم والأحلام، مقدرين أن مستقبلنا هو في مخادعنا، فإنما هو في يقظتنا الكبرى لا محالة.