في كتابه القيم Democracy in America” (الديمقراطية في أمريكا)، الذى صدر فى النصف الأول من القرن التاسع عشر وبالتحديد عام (1849) وألفه صاحبه بعد زيارته لأمريكا يفاجئنا المنظر والمفكر والسياسى الذى شغل منصب وزير الخارجية الفرنسى “ألكسي دو توكفيل” (1859- 1805) بفصل مثير يحمل عنوان What Kind of Despotism Do Democratic Nations have to Fear? (ما نوع الاستبداد الذي يجب أن تخشى منه الدول الديمقراطية؟).
في هذا الفصل يستشرف “دي توكفيل”، عبر خياله السياسي الخصيب – آفاق المستقبل، من خلال توصيف دقيق لحالة اجتماعية لم تعهدها البشرية من قبل على مدى تاريخها الممتد. لكنها – وفقا لنبؤاته – ستعصف بها في قادم عهدها.
استعباد جديد
وبعد نحو مائة وسبعين عاما على نبوءة “دو توكفيل” جاء من يؤكد صدق هذه النبوءة ويبنى عليها. ففي مقالة مثيرة حملت عنوان “A New Despotism in the Era of Surveillance Capitalism” (استبداد جديد في حقبة رأسمالية المراقبة)، يقول البروفيسور، سام بن مئير، أستاذ الفلسفة والديانات العالمية في “ميرسي كوليدج” في نيويورك إن “لدينا أسبابا وجيهة تجعلنا نخشى من أن يقوم نموذج أعمال المراقبة التجارية، الذي ابتكرته شركة “جوجل”، واعتمده موقع “فيسبوك” وغيره، بتقويض أسس ديمقراطيتنا”.
Sam Ben-Meir
وفي هذا السياق يستدعي” بن مئير كتاب الكاتبة “شوشانا زوبوف“ الجديد The Age of Surveillance Capital (عصر رأسمالية المراقبة) (2019)، الذي توضح فيه أن هذا النظام يعمل من خلال النظر إلى الخبرة البشرية باعتبارها “مادة خام مجانية يتم ترجمتها إلى بيانات سلوكية”. وبرغم الاستفادة من بعض هذه البيانات في تحسين الخدمات، إلا أن غالبيتها الغالبة يتم الإعلان عنها على أنها فائض سلوكي مملوك، يتم إدخاله في عمليات تصنيع متقدمة تعرف باسم “الذكاء الآلي”، ثم يجري تحويله إلى منتجات تنبؤ، تتوقع ما سنفعله الآن، أو في وقت قريب، أو حتى آجلا.
شوشانا زوبوف
يجري تداول هذه المنتجات التنبؤية في سوق جديدة يطلق عليها “بن مئير” “الأسواق السلوكية الآجلة”. وقد حقق رأسماليو المراقبة ثروات طائلة من هذه العمليات التجارية؛ “حيث ترغب العديد من الشركات في المراهنة على سلوكياتنا المستقبلية”.
ويضيف “بن مئير”: “لقد أصبحنا – في واقع الأمر – مادة مستساغة للون من ألوان الاستعباد الجديد الماكر والخفي والمتنامي الذي جادت به قريحة “دي توكفيل” عام 1849، الذي كتب قبل مائة وسبعين عاما يقول: “سيكون الظلم الذي يهدد الشعوب الديمقراطية فريدا من نوعه، ولا يشبه إلا نفسه، وغير مسبوق في تاريخ البشرية”. وقد ذهب “توكفيل” إلى أبعد من ذلك عندما تحدث عن صعود “سلطة وصاية هائلة” تضطلع وحدها بمسئولية ضمان متعتهم ومراقبة مصائرهم. إنها سلطة مطلقة وشاملة ومتبصرة ومترفقة، تشبه السلطة الأبوية التي تبدو بطبيعتها، وكأنها تعد أبناءها لمرحلة النضج، ولكنها – على العكس من ذلك – تسعى بقوة للإبقاء عليهم في أتون الطفولة الخاضعة. إنها ترغب في أن يستمتع المواطنون، شريطة ألا يفكروا خارج إطار المتعة؛ وتعمل طواعية من أجل سعادتهم، لكنها تريد أن تكون ’الوكيل الحصري‘ والمتحكم الأوحد في هذه السعادة”.
خلق الوهم
يستدعي “بن مئير” مقالة حديثة أخرى نشرتها مجلة “تايم” في 17 يناير الماضي تحت عنوان I Mentored Mark Zuckerberg, But I can’t Stay Silent (قمت بتوجيه مارك زوكربيرج، لكنني لا أستطيع البقاء صامتا)، حيث يشير الكاتب، “روجر ماكنامي“ إلى أن “إحدى أفضل الطرق للتلاعب بالانتباه والتحكم في التركيز هي اللجوء إلى إثارة الغضب والخوف، وغيرهما من العواطف والانفعالات التي تزيد من المشاركة والانخراط”. فخوارزميات “فيسبوك“ تمنح المستخدمين ما يريدونه، بحيث يصبح تبويب “آخر الأخبار” (News Feed) الخاص بكل مستخدم واقعا شخصيا ومتفردا، أو – بتعبير أدق – فقاعة ’مفلترة‘ تخلق وهما يوحي بأن معظم الأصدقاء الذين يعرفهم المستخدم يعتقدون الشيء نفسه.
وتكتسب فكرة ’الفقاعة‘ هنا فائدة خاصة؛ إذ يمثل مفهوم ’البيئة‘ أو ’العالم المحيط‘ أو ’فقاعة الصابون‘ التي ينسجها كل مخلوق حول ذاته وتشكل عالمه المادي المحسوس، بعدا مركزيا في كتابات”ياكوب فون أوكسكول“، عالم الأحياء من أصول إستونية . فهذه البيئة تتشكل من إشارات تحمل المعانى، وتُشكِل لكل كائن واقعه. وما يميزنا ككائنات بشرية هو أن بيئاتنا غير ثابتة وغير جامدة. وتتمثل أحدى طرق فهم تأثير خوارزميات “فيسبوك” على مستخدميه في أن البيئة التى يسكنها كل مستخدم تنطوي على خطر تقوقعه وتكلسه وضموره.
وفي مقالة بعنوان How Facebook’s Algorithm Suppresses Content Diversity and How the Newsfeed Rules Your Clicks (كيف تقمع خوارزميات “فيسبوك” تنوع المحتوى وكيف يحكم تبويب ’آخر الأخبار‘ نقراتك)، تؤكد “زينب توفيكشي“ أن الباحثين استطاعوا أن يستنتجوا بشكل قاطع أن خوارزمية تبويب ’آخر الأخبار‘ في “فيسبوك” تقلل من تقديم ” محتوى شامل ومتنوع أيديولوجيا ” للمستخدم. ورغم أننا نطلع فقط على محتوى يثير على الأرجح إعجابنا ويحظى بموافقتنا، فإن ’بيئتنا‘ – أو واقعنا الاجتماعي – تصبح أكثر تجانسا وأكثر تقلصا.
Zeynep Tufekci
النزعة القبلية للفيسبوك
كما ينطوي نموذج عمل “فيسبوك” على تداعيات بعيدة المدى، خاصة فيما يتعلق بقدرتنا على التعاطف مع الآخرين، الذين ربما لا يشبهوننا ولا يفكرون بطريقتنا. فقد كان لهذا الأمر تأثيراته المدمرة في ميانمار، حيث أصبح “فيسبوك” أداة للتطهير العرقي ضد الروهينجا. وبينما لم يكن ذلك من بين تطلعاته على الإطلاق، إلا أن “فيسبوك” أصبح فعليا ’منتدى للنزعة القبلية‘ التي تعزز “نسخة مبسطة من ’المجتمعات الصغيرة المتناثرة‘”، في الوقت الذي تضر فيه بالديمقراطية والعلوم والصحة العامة، كما يؤكد “سيفا فايدياناثان“ في كتابها: Anti social Media: How Facebook Disconnects Us and Undermines Democracy (2018) (الإعلام المعادي للمجتمع: كيف يقطع “فيسبوك” أواصرنا ويقوض ديمقراطيتنا).
Siva Vaidhyanathan
ويؤكد بن مئير أن أغلب بحوثه قد أثبتت وجود علاقة طردية وثيقة بين التعاطف من جانب، وقدرتنا على إعادة بناء بيئات الآخرين بفاعلية وإبداع من جانب آخر. وبينما لا يستطيع الفرد مشاركة بيئته، حيث يظل كل منا حبيس فقاعته الصابونية، إلا أنه يبقى بمقدورنا معايشة بيئة مشتركة، وهو ما يمثل الهدف المعلن من وسائل التواصل الاجتماعي. لكن من المفارقات أن “فيسبوك”، الذي يزعم أنه يسعى إلى بناء جسور التواصل، قد أسهم في واقع الأمر في تحقيق نتائج عكسية، حيث تقوقع كل منا في فقاعة صلبة ومتيبسة من الوحدة والعزلة.
وفي ظل حكومة أمريكية لا تجيد سوى التنصل من مسئولياتها والتنكر لتبعاتها، يجب أن ندرك جميعا أن “جوجل” و”فيسبوك” و”أمازون” قد غدوا يشكلون “تنين” هذا الزمان. وفي خدمة مشاركات المستخدمين التي يتفقون معها فقط، يتحول “فيسبوك” إلى “سلطة الوصاية الهائلة” التي بشر بها “توكفيل”، والتي تجعل توظيف الإرادة الحرة أقل فائدة وأكثر ندرة؛ فتحد من عمل الإرادة، وتحاصرها في مساحة أصغر، وشيئا فشيئا تسلب المواطنين القدرة على الاعتماد على إرادتهم”. إن هذه الشركات لا تهدف ببساطة إلى أتمتة المعلومات؛ وإنما، كما تشير زوبوف: “إن الهدف الآن هو أتمتتنا نحن، هو إنتاج الجهل عن طريق التحايل على الوعي الفردي، وبالتالي القضاء على أي إمكانية لتقرير المصير”.
فيسبوك وتدمير المعرفة
يمثل نموذج عمل “فيسبوك” إذن، شكلا جديدا خبيثا من الاستعباد الذي – كما يقول “فايدياناثان: “يعيق، ويهتك، ويوهن، ويحطم، ويغيب عن الوعي، وأخيرا يقود الدولة إلى حالة من الضمور والتكلس، حتى لا تعدو أن تكون مجرد قطيع من حيوانات مروضة ودؤوبة ترعاها الحكومة”.
لقد أسهم “فيسبوك” بنصيب وافر في تدمير المعايير والقواعد المعرفية، وولوج البشرية إلى ما يعرف بـ “حقبة ما بعد الحقيقة”. وكان الدافع وراء ازدراء الحقيقة على هذا النحو واحدا لم يتغير، وهو خدمة الحدود الدنيا. وكما يقول ماكنامي: “في فيسبوك، يبدو تقديم المعلومات الصحيحة والمضللة على السواء صنوين لا يختلفان، وإذا كان ثمة فارق بينهما ،فهو أن التضليل يجلب المزيد من العائدات، لذا فإنه يلقى معالجة أفضل”.
كيف ساعد فيسبوك دونالد ترامب ؟
وعلى مدى عامين سبقا إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2016، ظل 126 مليون أمريكي يطالعون محتوى “مدعوما “روسيا. واضطلع “فيسبوك” – في أحسن الأحوال – بدور متهور في نشر معلومات مضللة عبر حسابات روسية زائفة. وبعبارة أخرى، ساعد “فيسبوك” في ترويج أخبار زائفة ساعدت بما لا يدع مجالا للشك في اعتلاء دونالد ترمب سدة العرش الأمريكي. لقد قدم “فيسبوك” أرضا خصيبة لانتشار نظريات مؤامرة غير مسئولة، وتفشي مشاركات غير دقيقة.
وعلى غرار آخرين كثيرين، يؤكد ماكنامي ضرورة تحكم المستخدمين في بياناتهم الخاصة وبياناتهم الوصفية، وكأن ملكية البيانات هي الحل الأمثل لكارثة رأسمالية المراقبة. لكن “بن مئير”، من ناحية أخرى، يؤكد أن المشكلة تكمن بالأساس في أن هذا النمط من التفكير يفشل دائما في طرح السؤال الجوهري الأكثر أهمية، الذي يتعلق بما إذا كانت هذه البيانات يجب أن تتاح من الأساس. وكما تلفت زوبوف: “الأمر أشبه بالتفاوض بشأن عدد ساعات العمل التي يجب أن يضطلع بها طفل في السابعة من عمره، بدلا من مناقشة شرعية عمل الأطفال من الأساس”. إن رأسمالية المراقبة تمثل لونا جديدا من الاستبداد يقوض قدرتنا على تحقيق الاستقلال الذاتي الفردي حتى يمكن توليد البيانات السلوكية دون عوائق، وتقديمها للأسواق والمعلنين الذين يمثلون العملاء الحقيقيين لـ “جوجل” و”فيسبوك”.
إننا نسير حثيثا باتجاه هذا المجتمع الأنوي المتشظي الذي تنبأ به توكفيل: “حشد من الأفراد المتشابهين المتناظرين الذين يدورون حول ذواتهم دون توقف … كل منهم منسحب في ذاته ومتشرنق في داخله، وكأن كلا منهم غير معني بمصير الآخرين… كل منهم يساكن الآخرين ذات الحيز المكاني، إلا أنه لا يراهم، ويلمسهم، لكنه لا يشعر بهم”. لقد حذرنا توكفيل من أن الظلم قد يتلبس أشكالا خفية وصامتة، لكنها برغم ذلك مدمرة للحرية الحقيقية.
ويخلص كاتب المقالة إلى إن التعامل الصحيح مع هذه الإشكالية يتطلب تجاوز مجرد المطالبة بمزيد من الخصوصية أو ملكية البيانات، إلى آفاق مساءلة حقيقية وعميقة لفرضياتنا الجوهرية، وفهم جديد لمعنى الديمقراطية ومتطلباتها في عصر “رأسمالية المراقبة”.
يمكن مطالعة النص الأصلي للمقالة باللغة الإنجليزية من هنا