أحمد زكي.. ذلك المتوهج القلق المقلق، المتألق الغيور، الحاد الناعم والمندوه المجذوب بالسينما، المتيم بسحرها الذائب فى أضوائها، الذي لا يقر في مكان، هائم القلب والوجدان، يعشق التدخين، ويحب الصعلكة، وينام في أي مكان، لذا لم يكن له مسكن مستقل، فهو الساكن الأول في الفنادق المصرية، مشع وأكثر اشعاعا أمام الكاميرا، تلك التى يستطيع أن يسرقها – بالمفهوم السينمائي- حتى لو كان في المشهد عشرات الممثلين.
إنه ذلك الفتى الأسمر ابن محافظة الشرقية، اليتيم، والمعذب في صغره لفقده الأب وحنان الأم التى تزوجت سريعا، تاركة رضيعها في حجر جده كي يربيه، ذلك الأسمر المفتقد لبئر الحنان والتائه وسط دوامة الأيام، يدخل قلوبنا بمدرسته الفنية المتفردة، التى رسخها في أذهاننا وفي وجداننا السينمائي.
مندوه السينما الفريد
أحمد زكي ببساطة خليط فريد من إتقان زكي رستم، وجبروت محمود المليجي، وقوة فريد شوقي، وفروسية أحمد مظهر، وانكسار عبد الوراث عسر، وشقاوة أحمد رمزي، ومغامرة أنور وجدي، وتحدي شكري سرحان، وطموح عبد الحليم حافظ، ورشاقة عيون عمر الشريف، ووسامة رشدي اباظة. استطاع هذا «المندوه» للفن السينمائي، وضعنا – نحن المشاهدين – في أكثر المواقف الدرامية حدة وقلقا وحبا وتوهجا، فهو لم يقدم لنا دوره أو شخصيته كي نراه ثم ننساه في خضم حياتنا ومشاغلنا، فلم يكن أحمد زكي من هؤلاء الفنانين، بل كان يحفر بدروه في ذاكرتنا تلك الشخصيات، حتي ولو قدمها أكثر من مرة.
فكيف ننسي دور الضابط القاسي في «زوجة رجل مهم» والمختلف كليا عن دوره المضطرب كضابط ملتزم ثم متحول إلى تاجر مخدرات في شخصية «يحيي أبو دبورة» في فيلم «أرض الخوف»؟، بينما نجده يجسد دورا مغايرا لنفس الشخصية في فيلم «الباشا» كضابط قلق يبحث عن قضية حقيقية، فيطارد زعيم شبكة منافية للآداب لاثبات وجهه نظره.
مشهد من فيلم «زوجة رجل مهم»
هكذا كان أحمد زكي، غير المتكرر وغير النمطي، والذي أنشأ مدرسته الخاصة، التى دخلها نجوم كثيرون حاولوا تقليده أو محاكاته سواء على شاشة السينما أو التليفزيون.
إنه الممثل الوحيد الذي رحل، وحاول نجوم الجيل الحالي أن يقلدوه، ومعظمهم خسر هذا الرهان؟ لماذا؟ لأن التقليد شيء، والتمثيل والاتقان وفهم أغوار الشخصيات التى تُقدم شيء آخر تماما.
مشهد من فيلم «أرض الخوف»
المتقمص الواعي
لم يكن أحمد زكي متقمصا فقط، بل كان واعيا، سواء بتجاربه وخبراته فى الحياة أو عبر أصدقائه المقربين، لدور الفن ورسالته، ودوره كممثل، فتعلم من «عاطف الطيب» كيف يفهم ويعرف ويعيش حياة المواطن البسيط، وفهم من «محمد خان» البعد الثالث للشخصيات، واستفاد من «داوود عبد السيد» كيف يتقمص ويعيش الشخصية بكل طقوسها، وأحب من خلال «خيري بشارة» شقاوة ورشاقة الشخصيات أمام الكاميرا، وعرف مع «شريف عرفة» كيف يدخل قلوب المشاهدين في شجن وهدوء.
ولأنه يعلم أن الفن السينمائي فن جمعي، أي ليس فنا يقوم به الممثل بمفرده، فقد كان ممثلا ملتزما وواعيا لما هو مطلوب منه، سواء من المخرج أو من المؤلف أو الورق المكتوب.
الشخصية “النموذج”
سيظل لأحمد زكي السبق في جعلنا نرى «النموذج» لكل شخصية قام بتمثيلها، أي أنه – بأدائه العبقري – كان أول ما يلفت عقلك في تلك الشخصية عند استحضارها، فنحن نرى «أحمد سبع الليل» في فيلم «البريء» ذلك الشخص الجاهل المغلوب على أمره وغير المدرك لما يحدث حوله، وقد جسّد لنا أحمد زكى خلاصة هذا النموذج بعبقرية لا نظير لها. وبعدها نراه في «الحب فوق هضبة الهرم» شابا تائها مع حبه وحبيبته في شوارع العاصمة إلى أن يقبض عليهما لأنهما لم يجدا مكانا يأويهما، وهو الآنامل الدقيقة لأرداف راقصة لاهية في «الراقصة والطبال»، ثم نجده الضابط هشام المغرور والمعتز بنفسه، الذي لا يرى في الكون إلا ذاته ومستقبله المهني في «زوجة رجل مهم»، كما أنه النموذج الرياضي للشاب المكافح «محمد حسن» في رائعته المأخوذة عن قصة حقيقية والتى أبهرتنا ونحن صغار «النمر الأسود»، وهو المتقن لفلسفة صعلكة السمك في بحر الحياة في فيلم «كابوريا»، أو هو تاجر المخدرات «زينهم» الذي يتوحش ويتوغل إلى أن يصبح أكبر تاجر مخدرات في «الامبراطور».
مشهد من فيلم «النمر الأسود»
وإذا ما توقفنا عند بعض الشخصيات الهامشية في المجتمع والتي قام بأدائها على شاشة السينما، مثل شخصية «المصوراتي»، في فيلم «أضحك الصورة تطلع حلوة» نجده يقدمها وكأنه جذَّرها فى أرض الواقع، بكل تفاصيلها، فنرى عشقه للتصوير وحبه لوجوه الناس التى يصورها مصّرا على إخراج أحلى ما فيهم.
بهذه الأسس وضع أحمد زكي أسس مدرسته المتفردة، المدرسة التى تقوم على استحضار الشخصية وتشخيصها، وكأن الممثل هو الشخصية التى يؤديها فهو ينفصل كليا عن شخصيته الحقيقية ليذوب فى الشخصية التى يؤديها، ولذلك كان أحمد زكى يصف نفسه «بالمشخصاتى» وليس الممثل، و هى مدرسة من الصعب أن تتكرر.
مشهد من فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة»
عبقرى «السيرة الذاتية»
ولأن أحمد زكى يحب التحدي ولا يحب التكرار، نجده أيضا عبقريا وهو يقدم لنا السيرة الذاتية، وهو فن صعب جدًا، ونادرًا ما نجد ممثلا يتصدى له ويبرع فى تجسيده، يضاف إلى تلك الصعوبة، أن هذه الشخصيات التى أداها قريبة من ذاكرتنا التاريخية، أي أننا لمسناها أو سمعنا صوتها أو شاهدناها على الشاشة. لكن أحمد زكي نجح في هذا التحدي من خلال تقديم سيرة عميد الأدب العربي «طه حسين» في مسلسل «الأيام»، واضعا أمامه تجربة النجم الكبير «محمود ياسين»، والذي قدم نفس الدور على شاشة السينما، ولم يكن موفقا فيه، بينما لم نستطع أن نصدق أن هذا الفتي الأسمر هو «أحمد زكي» بل صدقنا انه «عميد الأدب العربي»، لدرجة اننا كنا نقلده في حركته وفي طريقة كلامه.
لقد استطاع «أحمد زكي» أن يستعيد لنا شخصيات تاريخية قام بتجسيدها ببراعة، وكأنها عادت إلى الحياة من جديد لنراها بعيوننا، ففي «ناصر 56» للمخرج محمد فاضل، شاهدناه وهو يقوم بدور الزعيم جمال عبد الناصر، وطريقة سيره أو نطقه للكلام أو تفكيره أو حتى إشعال سيجارته، وبنفس الإتقان وبطريقة أخري تماما، نرى «أنور السادات» بخفة دمه وشخصيته التى تبرز فيها صفات الفلاح المصري في فيلم «أيام السادات»، لنشاهد نظراته وقلقه وطريقة كلامه المتفردة، فنحن لم نر «أحمد زكي» بقدر ما شاهدنا «السادات» الحقيقي، مما جعل كثيرين من الجيل الحالي، يحبونه.
مشهد من فيلم «أيام السادات»
وبنفس الاتقان والحرفية والمهارة الشديدة، يقدم لنا «أحمد زكي» قبل أن يرحل رائعته «حليم» فنراه وهو يتحرك ويسير ويمرض ويغني، وهذه جرأة شديدة، لأن عشاق «عبد الحليم حافظ»، يرونه على شاشة التليفزيون في أفلامه.
مشهد من فيلم «حليم»
طاقة الإبداع المنتصرة
يثبت لنا أحمد زكى عبر مسيرته الثرية أن التمثيل فن وعمل ودأب وسعي لتحقيق الكمال، وقبل كل ذلك – موهبة – عرف كيف ينميها بعد الاخفاقات التى لحقت به في بداياته، لأنه لم يكن وسيما ليحول كل تلك البدايات الصعبة إلى طاقة هائلة للإبداع بحيث صار هذا الأسمر النحيل فتى أحلام لا يشق له غبار. لقد استطاع أحمد زكي ان يقلب كل المعايير الفنية لفتى الشاشة الأول أو الوسيم، ففي بدايته كانت ملامحه تجعل الكثير من المنتجين يترددون في التعامل معه، والكثير من الممثلات يرفضن الظهور بجواره حتى ولو لثوان معدودات، لكنه استطاع أن يحول كل ذلك إلى النقيض تماما، فأصبح المنتجون يلهثون خلفه، وأصبح حلم الكثيرات سواء داخل الوسط الفني أو خارجه، الارتباط به أو التمثيل معه، تلك القدرة الغريبة على التحول من النقيض إلى النقيض هي الحقيقية الغائبة في رحلة أحمد زكي، فهو موهبة استثنائية معاندة وأكثر عنادا مع نفسه.
سيظل أحمد زكى، الذي رحل عن عالمنا في 27 مارس 2005، حالة استثنائية في فن التمثيل ملأت حياتنا بهجة وشجنا ومتعة، ثم استقرت في قلوبنا إلى الأبد.