هناك قضية أصبحت موضع اهتمام وجدل ساخن بين العلماء المتخصصين في علم الأعصاب الحديث، يطلق عليها «النسيان النشط»، ويقصد به هنا ما يقوم الدماغ بنسيانه عمدا من أحداث أو معلومات أو ذكريات غالبا ما تكون مؤلمة أو غير سارة.
وقد أولى باحثون في مختبر معهد Scripps للدراسات الطبية والأبحاث، اهتماما متزايدا بقضية أو ظاهرة النسيان النشط، وذلك من خلال استخدام ذبابة الفاكهة، لتحديد (لأول مرة) كيف يمكن لخلية واحدة من «الدوبامين» تسهيل كيفية تكوين الذاكرة ونسيانها لاحقًا إذا لزم الأمر.
وبحسب «رون ديفيس» الباحث الرئيسي في الدراسة التي أعدها باحثون في قسم علوم الأعصاب بالمعهد عن تلك القضية، فقد ركز علماء الأعصاب الذين يدرسون التعلم والذاكرة، على كيفية حصول الدماغ على المعلومات وكيفية جعل هذه المعلومات «ذاكرة مستقرة»، وهي عملية تسمى «دمج الذاكرة»،
ويضيف ديفيس: في الآونة الأخيرة فقط، أدرك علماء الأعصاب أهمية النسيان النشط وبدأوا في كشف العمليات التي تتسبب في النسيان، ففهم عمليات التذكر والنسيان – وربما كيفية معالجتها – له العديد من الآثار على البشر. مثل إدمان المخدرات أو اضطراب ما بعد الصدمة. وقد يكون من المفيد تطوير أساليب يمكن أن تعزز النسيان النشط.
فقدان الذاكرة الإنتقائى
في السياق نفسه, ظهرت دراسة حديثة أخرى حول النسيان النشط نُشرت في 7 نوفمبر الماضي في مجلة Nature Communications، تحت عنوان «آلية محددة لاسترجاع النسيان التكيفي في دماغ الثدييات»، مفادها أن البشر والجرذان يستخدمون أساليب وآليات متشابهة لنسيان الذكريات، التي قد تصرف الانتباه عن تحقيق الأهداف. ويقول «مايكل أندرسون» من وحدة علوم الإدراك والعلوم الدماغية بجامعة «كامبريدج» والذي شارك في إعداد هذه الدراسة، إن الناس اعتادوا التفكير في النسيان كشيء سلبي، لكن أساليب النسيان النشط تُظهر لنا المزيد عن قدرة الاشخاص على فقدان الذاكرة بشكل انتقائي.
ويوضح أندرسون أهمية النتائج التي توصلت اليها الدراسة، فقد كان الاعتقاد السائد هو أن النسيان يمثل مشكلة جوهرية؛ لكن النتائج أظهرت أنه (النسيان) وظيفة تدعمها آليات فعالة تساعد على استعادة ذكريات معينة، وهي حاجة ظهرت على الأرجح عبر تاريخ تطور للذاكرة.
وإلى جانب الدراستين السابقتين هناك دراسة ثالثة حديثة في نفس المجال، تتناول ما يعرف بـ «النسيان التكيفي». وتتناول هذه الدراسة استعادة الذكريات عن رعاية الوالدين وصحتهم من منتصف العمر إلى آخره. وتخلص إلى أن البالغين الأكبر سنًا الذين أبلغوا عن ذكريات طفولتهم عن والديهم بأنهم من مقدمي الرعاية المحبين والمخلصين وأنهم كانوا أكثر صحة وسعادة من الأشخاص في الأربعينات والخمسينات من العمر الذين تذكروا الكثير من ذكريات الطفولة السيئة.
عندما نتداخل مع هذه الدراسات الثلاث، فإنها تثير بعض الأسئلة الإفتراضية اللافتة للانتباه حول كيفية استخدام البالغين للنسيان النشط لتجارب الطفولة الإيجابية أوحتى الصعبة لكنها تحتوي على دروس مفيدة بطريقة تساعدهم على تحقيق أهداف الحياة. ثمة علاقة محتملة بين النسيان التكيفي وذكريات الطفولة الأكثر سعادة التي ترتبط بالرفاهية أثناء مرحلة البلوغ.
تجارب شخصية
في مدونة نشرتها مجلة Psychology Today تتناول السؤال «هل ذكريات الطفولة السيئة والمرة المغطاة بالسكر أى محاولة التعامل معها بطريقة مختلفة تعتمد على تذكرها بمزيد من السخرية أو نسيان أسوأ ما فيها استراتيجية رابحة؟». تناول الموضوع بعض القصص الشخصية عن تجارب الطفولة Adverse Childhood Experiences) ACEs) منها ما ذكره أحدهم ويدعى كريس عن تلك التجارب التي عاشها هو وأخواته، فهو يقول: شهدت أثناء فترة المراهقة عندما انفصل والدانا كيف تعاملت أختي الصغرى مع تخلي والدنا عنا، عن طريق تطوير مهاراتها العقلية، لتصبح مديرة شركة رائدة في مجال الطيران.
كنت قد اعتدت أنا وشقيقاتي على تأمل تجربة حياتنا من خلال أحدث الأبحاث في المخ لأن والدنا الراحل كان جراح أعصاب وعالم في علم الأعصاب. على سبيل المثال، في عام 1977، كنا نعيش في أستراليا كعائلة أثناء قيامه بعمل إجازة في معهد Florey للعلوم العصبية والصحة العقلية، حيث درس هو وزملاؤه كيف استجابت أدمغة الأغنام لمختلف التجارب اليومية مثل النوم والأكل و ممارسة الجماع،.. الخ من خلال أمثلة قصصية عن تعزيز النسيان التكيفي باستخدام الأدب الخيالي وموسيقى البوبغوا.
على حد علمي، ليست هناك أي دراسات محددة تقدم المشورة حول كيفية «تعزيز النسيان النشط», حيث لا تزال الدراسة العلمية العصبية للنسيان التكيفي في بدايتها.
سأشارك بعض الأمثلة عن كيفية قيامي أنا وأختي الكبرى بإنشاء «فقدان الذاكرة الانتقائي» بطرق قدمت بعض الفوائد التكيفية لكلينا حيث شغلت هي نفسها في قراءة القصص الخيالية، أما أنا فانغمست في الموسيقى. ووجد كلانا أن لديه ذكريات طفولة لطيفة جداً، بل أصبحنا أكثر ميلاً إلى تذكر العديد من أحداث طفولتنا الصعبة، التي مررنا بها عندما كنا صغارًا بروح الدعابة.
اكتشفت أختي الكبرى كيف أن قراءة الروايات كانت أداة سمحت لها بإنشاء «أرض العجائب» في ذهنها بغض النظر عن كآبة الواقع كما اكتشفت آلية استخدمت بها بشكل غير واع موسيقى البوب كأداة لإعادة برمجة الذاكرة. واكتشفنا الجوانب الأكثر انفتاحاً في مناقشة ذكريات طلاق والدينا، حيث مارسنا طريقة تذكر مختلفة للأحداث عندما بدأ زواجهما ينهار. معتمدين على فقدان الذاكرة الانتقائى.
كنت أميز «بداية النهاية» لزواجهما في عام 77 عندما انتقلنا من أستراليا إلى بوسطن.عندما ذكرت هذا التاريخ في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ضحكت أختي وقالت: «كريس، ألا تتذكر كيف تقاتل أمي وأبي مثل القطط في كل مرة»؟
وبالربط بين أغانٍ معينة وشجار والدينا ادركت أن طلاقهما بدأ في عام 1973، لأنني كنت أعيش دائمًا بشكل متواصل من خلال أبطال الأغاني أعتقد أن ذلك ساهم في حمايتى من بعض العداء الذي أحاط بي كطفل، هذا مثال على الطريقة التي يمكن أن تساعد بها الموسيقى في تذكر «الأيام الخوالي» والنسيان النشط لمحن الحياة المبكرة.
مرة أخرى، ,أنا لا أعني أن استخدام الخيال أو الموسيقى لطلاء الذكريات المرة بالسكر، أو إعادة صياغة الذكريات السيئة أمر جيد أو سيء. أقترح فقط أنه ربما يكون هناك تفسير بيولوجي عصبي لهذه الظاهرة ويمكن التعرف عليه بدقة عبر مزيد من الأبحاث السريرية.