نور مصالحة – مؤرخ وأكاديمي فلسطيني
ترجمة وعرض أحمد بركات
تسير جهود تحويل الفلسطينيين إلى شعب غير شرعي على قدم وساق. من بين ذلك اعتماد تعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة» لمعاداة السامية، وقانون الجنسية الجديد في إسرائيل، والتوسع في بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، والحصار المستمر لغزة. وتتضافر كل هذه التدابير القمعية مع مشروع سياسي ضخم يحاول إنكار الوجود الفلسطيني بالكلية، ويسم الفلسطينيين – زورا – بأنهم شعب بلا تاريخ، ويصف فلسطين –كذبا وبهتانا- بأنها وطن بلا جغرافيا.
شهادة التاريخ
في كتابه Palestine: A Four Thousand Year History (فلسطين: تاريخ يمتد إلى أربعة آلاف عام)، يكشف نور مصالحة زيف ادعاءات هؤلاء الذين يحاولون انتزاع الفلسطينيين من التاريخ، حيث يضع الكتاب الهوية والتاريخ الفلسطينيين وراوفدهما الثقافية المتعددة، ضمن سياق تاريخ المنطقة بأكملها الذي يضرب بجذوره في أعماق الزمان.
بين دفتي الكتاب، يستدعي مصالحة، المؤرخ الأكاديمي ومدير «مشروع الأرض المقدسة البحثي» التابع لجامعة «سانت ماري»، التاريخ الحقيقي الشامل لفلسطين، ليجابه به السرديات القديمة التى حاولت أن تسقط الفلسطينيين من سياقهم التاريخي (كما هو الحال في السرديات التي ترتكز إلى الكتاب المقدس)، وكذلك السرديات الحديثة التي تتحدث نيابة عن الفلسطينيين، بينما تتجاهل أصواتهم الحقيقية (كما هو الحال في السرديات الجديدة لدولة إسرائيل – فلسطين).
اقرأ أيضا:
الهوية وحلم العودة.. حضور يتجلى في الإبداع الروائي الفلسطيني
يبدأ الكتاب، الصادر عن دار «زيد» للنشر بلندن في أغسطس 2018، بعرض البدايات التاريخية والجذور العميقة لاسم فلسطين. فالاسم الإنجليزي Palestine مشتق من الاسم الفرنسي القديم Philistine، المشتق بدوره من Philistinus في اللاتينية الكلاسيكية، المأخوذ عن Philistinoi في اليونانية الكلاسيكية. ويعول الكاتب على خرائط وعملات وصور فسيفسائية كثيرة ومتنوعة لتقديم الدليل العلمي على عمق التاريخ الفلسطيني. فقد تم سك العملة في المراكز الحضرية في فلسطين على مدى فترات تاريخية عديدة، مثل سك عملة «Philistia» في الفترة من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد، والعملات العربية – البيزنطية في القرن السابع، إضافة إلى كم هائل من العملات التي تحمل اسم «Filistan». يبين ذلك أيضا أهمية فلسطين كمركز تجاري يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية.
ويبرهن الكاتب على أن اسم «فلسطين»، عبر مراحل تطوره المختلفة، مثبت على أقدم الخرائط التي عرفها العالم في بداية «العصور القديمة المتأخرة»، وعلى «خريطة العالم» الشهيرة التي رسمها كلاوديوس بطليموس في عام 170م، وعلى خريطة “Palestine Moderna et Terra Sancta” (فلسطين الحديثة والأرض المقدسة) التي ُطبعت في فلورنسا، في حوالي عام 1480م. كما يعرض مصالحة لعدد من المخطوطات، بدءا من عام 870 م، تغطي ألفية كاملة وتقدم دليلا حيا على الثقافة الفلسطينية التعددية المزدهرة خلال فترة الحكم العثماني. كما يؤرخ بالتفصيل للاستقلالية التي تمتعت بها الكنيسة في فلسطين إبان العصر البيزنطي (في القرنين الخامس والسادس الميلاديين)، ولإنشاء «كنيسة القدس» التي احتفظت لنفسها بسلطة تعيين الأساقفة الفلسطينيين.
خريطة «فلسطين الحديثة والأرض المقدسة» (1480م)
السرديات التوراتية
كما يبرهن الكاتب عبر مزيد من الأدلة التاريخية على أن فلسطين كانت موجودة كدولة لها حدود، وإن تغيرت أكثر من مرة على مر العصور بدءا من العصر البرونزي إلى العصر الحديث، فيما يزيد على ثلاثة آلاف عام، برغم إنكارالتاريخ والجغرافيا التوراتيين اللذين يدرسان في إسرائيل اليوم، بدءا من المرحلة الإبتدائية إلى الجامعة، لهذه الحقيقة.. «إنه تاريخ يتعامل مع قصص العهد القديم على أنها حقائق مطلقة». ومن هنا، كان إبراهيم(نبي الله) – فى زعمهم – هو «الصهيوني الأول الذي هاجر إلى فلسطين»، و«قاد يوشع بن نون الجيوش التي فتحت فلسطين وقضت على الكنعانيين (تماما كما يحدث الآن)»، وغزا الملك داوود بيت المقدس (تماما كما يحدث الآن أيضا.
اقرأ أيضا:
وبحسب مصالحة، «يمثل تقديم هذه الميثولوجيا القديمة في هيئة تاريخ، جزءا أصيلا من القومية الصهيونية العلمانية». فقد نشر وزارة الدفاع الإسرائيلية تاريخ خلق العالم وفقا للتسلسل الزمني للوقائع التوراتية، كما تُستخدم الجغرافيا الموصوفة في التوراة لتقديم خريطة طوبولوجية لـ «أرض إسرائيل» اليوم. ويُستخدم كل ذلك لتبرير وشرعنة العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني. لكن هذه التواريخ التوراتية تتجاهل – بحسب مصالحة – الحقائق الأركيولوجية (الأثرية) والمادية. فبعد أكثر من 150 عاما، أُجريت خلالها آلاف عمليات التنقيب المستندة إلى التاريخ التوراتي داخل وحول البلدة القديمة في القدس، فإن الكيان الصهيوني لا يمتلك دليلا أركيولوجيا واحدا على وجود «مملكة داود وسليمان الموحدة» المثبتة في التوراة داخل المدينة. ولا تتوافر أية أدلة أركيولوجية تفيد نزوح العبيد العبرانيين من مصر على غرار ما ورد في قصة «عيد الفصح».
سرديات ما بعد السلام
نشأت السرديات الحديثة عن إسرائيل في حقبة ما عرف بالسلام الإسرائيلي الفلسطيني. وتحاول هذه السرديات اختزال دولة فلسطين، وتجاهل تاريخها الممتد، تحت عنوان «إسرائيل – فلسطين». ولا تقدم هذه السرديات أية تفسيرات لوجود هذه الدولة الجديدة، أو – على سبيل المثال – لوجود «شبه جزيرة تل أبيب – يافا»، بينما من الثابت تاريخيا أن «يافا» مدينة فلسطينية منذ أكثر من ألف سنة. ويقول مصالحة «إن معاملة فلسطين كملحق في دولة صهيونية حديثة يمثل عدوانا على حقائق التاريخ والجغرافيا جميعا». و في هذا السياق، يحتوي الكتاب على فهرس كامل لعمليات تسمية وإعادة تسمية العديد من القرى والأحياء والبلدات والمدن الفلسطينية التي وظّفها المشروع الصهيوني لانتزاع الفلسطينيين من سجلات التاريخ وبطون الجغرافيا.
وينتقد الكتاب بشدة المقاربات التاريخية التي تقدم فلسطين باعتبارها جزءا من تاريخ الإمبراطوريات؛ فتاريخ فلسطين – عند مصالحة – ليس مجرد تاريخ غزو إمبريالي توسعي قادم من الخارج (الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية). كما أن التاريخ يحتوي على أمثلة عديدة تبين استقلال فلسطين اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. من بين الأمثلة التي تضمنها الكتاب الاستقلال المالي والاقتصادي القائم على إصدار عملات محلية فلسطينية، وتطوير مراكز حضرية محلية تتمتع بالاستقلال الذاتي عن فلسطين العثمانية، والاستقلال العسكري والإداري في العصرين الروماني والبيزنطي، وظهور العديد من الدول التابعة لفلسطين، واستقلال الكنيسة الفلسطينية، وغير ذلك.
من الدين إلى العنصرية
لا شك أن القراءة الصهيونية لهذا الكتاب ستثير سؤالا تضليليا، هو «أين اليهود؟». بالنسبة للمؤرخين الصهيونيين يمتلك اليهود تاريخا مستقلا ومنفصلا تماما عن الفلسطينيين. رغم ذلك، تشير كتابات المؤرخ اليهودي، يوسيفوس فلافيوس (37 – 100م)، إلى أربعة آلاف من الأسينيين (وهي طائفة يهودية عاشت في فلسطين وسوريا). كما أن اليهود الفلسطينيين في العهدين الروماني والبيزنطي كانوا يتحدثون الآرامية الفلسطينية.
في هذا السياق، يبين مصالحة كيف تجذرت اليهودية في الدين – وليس الأرض – وقامت على أساسه. فعلى مدى آلاف السنين، «لم يكن لليهودية أية علاقة بالبنى الأيديولوجية الحديثة الخاصة بالعرق والهوية». في الوقت نفسه، كانت التعددية الدينية في قلب الهوية الفلسطينية. لكن الأمور بدأت «تتغير أيديولوجيا وراديكاليا في القرن التاسع عشر تحت تأثير النظريات الاجتماعية القادمة من أوربا، حيث أعيد اختراع الهوية اليهودية داخل الهوية الإثنية». وفي هذه الفترة تحديدا تأسست الصهيونية السياسية كمشروع ينطوي على «طموحات لخلق مجتمع عبري جديد يختلف عن اليهود في الشتات». وفي عام 1948، بنى الصهيونيون مدينة تل أبيب كمدينة جديدة خالصة لليهود. لم يكن وجه هذه المدينة يحمل أي ملامح للتعددية الدينية أو الثقافية يمكن أن تربط بينه وبين القدس أو يافا.
إن التاريخ المسطور في كتاب مصالحة، الذي يسير على قدمين راسختين على مدى أربعة آلاف عام، يعبر بعمق عن فلسطين والفلسطينيين، ويبث الروح في الإرث الفلسطيني التعددي وتاريخها الفسيفسائي وتقاليدها المتنوعة.. «ذلك التاريخ المكتظ بالمنحنيات والمنعطفات» التى تؤكد الوجود الفلسطينى المتجذر وتنفى المزاعم الصهيونية الكاذبة.