*ماري فيتزجيرالد، رئيس تحرير موقع «OpenDemocracy»
*ترجمة وعرض: أحمد بركات
«الكتاب المقدس والحدود والبريكست سيعيدون إلى أوربا مجدها الغابر»، هكذا أعلن إد مارتن وسط صيحات الجماهير الهادرة.. إد مارتن وهو الخبير السياسي المحافظ، الذي شارك في تأليف كتاب The Conservative Case for Trump (الأسباب التي تدفع المحافظون لتأييد ترامب)، والذي نشر في أواخر عام 2016، كان يتحدث أمام حشد عالمي في تجمع أقامه المحافظون الدينيون في مدينة فيرونا الإيطالية في مارس الماضي، حيث كان ماتيو سالفيني، نائب رئيس الوزراء الإيطالي، متحدثا رئيسا في هذا التجمع.
رمزية «فيرونا»
تمثل «فيرونا» رمزية عميقة للتغيرات التي طرأت على صفحات الحياة في أوربا بوجه عام، حيث أمست «مدينة الحب القديمة»، كما يطلق عليها الإيطاليون – معقلا لحزب «ليجا» (الرابطة) اليميني المتشدد، الذي يرأسه سالفيني، والذي ينتهك، إلى جانب الشعبويين اليمينيين في جميع أنحاء أوربا، القوانين والمعايير الاجتماعية التي طالما صبغت وجه الحياة الأوربية على مدى عقود من الزمان.
كان متوقعا، حتى قبل إجراء إنتخابات البرلمان الأوربي في بروكسل في نهاية مايو الماضي، أن يفوز الشعبويون المناهضون للاتحاد بعدد غير مسبوق من المقاعد. وخلال هذه الفترة، أثير جدل محموم وملأت التكهنات الفضاء حول الدور الذي سيلعبه التدخل الروسي في التلاعب بنتائج هذه الانتخابات، وتنبأت العديد من استطلاعات الرأي بأن اليمين المتشدد قد يعيد رسم الخريطة السياسية لأوربا بأكملها. لكن.. ماذا يعني ذلك تحديدا؟
يتشكك بعض المحللين في قدرة اليمين الأوربي المتشدد على تشكيل كتلة موحدة اعتمادا على أولوياتهم القومية؛ فالبولنديون والإيطاليون لا يستطيعون الاتفاق بشأن روسيا، كما أن النمساويين والإيطاليين لا يستطيعون الاتفاق بشأن حدودهما.
لكن ماري فيتزجيرالد، رئيس تحرير موقع «OpenDemocracy»، ترى أن هذا «ليس جوهر القضية»، وتلفت إلى بُعد أكثر مركزية في المشهد السياسي والاجتماعي الأوربي الراهن، قلما يلتفت إليه المحللون، وهو «ذلك التعاون الوثيق بين جماعات اليمين المتطرف داخل أوربا، واعتمادها الدؤوب على بعضها البعض، وعلى نحو أكبر، وفي أغلب الأحوال، على المساعدات الأمريكية، إلى جانب الدعم الروسي».
Mary Fitzgerald
وفي مقالها بعنوان Europe’s Far-Right Bid To Take Back ‘Christian Europe‘ (اليمين الأوربي المتشدد يحاول استعادة ’أوربا المسيحية‘)، تخلص ماري فيتزجيرالد إلى أن «هذه الجماعات تحظى بدعم سخي من التيارات الدينية المحافظة في الولايات المتحدة من أجل إعادة صياغة الحقوق والحريات الفردية التي كفلتها أوربا الليبرالية بطريقة ستؤثر على الغالبية العظمى من شعوب القارة.. ولا شك أن لدى هذه الجماعات أولويات مشتركة واضحة ومعلنة؛ فكثيرون من الشعبويين الأوربيين – على سبيل المثال – ينتقدون بشدة نخب بروكسل، ويريدون إعادة حِزم من التشريعات المكبلة للحريات الفردية، ولديهم مواقف موحدة وراسخة من قضية الهجرة. ويكمن الفارق الوحيد بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان – بحسب فيتزجيرالد – في أن الأخير قام فعليا بإحاطة بلاده بسور من أجل «منع الغزاة المسلمين من دخول البلاد»، كما ورد على لسانه.
دونالد ترامب
الزحف الديني
لكن الأرضية المشتركة بين هذه الجماعات ترتكز إلى اصطفافات وانحيازات أكثر عمقا تدور جميعها بوضوح في فلك رؤية كونية دينية محافظة. فكثيرون من قادة اليمين المتطرف يتحدثون صراحة عن الدفاع عن «أوربا المسيحية»، وحتمية إعادة بنائها من جديد. وقد وضع أوربان هذه العبارة نصا في البرنامج الانتخابي الأوربي الخاص بحزبه. كما أنه كثيرا ما يهاجم، إلى جانب آخرين من قادة اليمين المتطرف، بعض التصورات العلمانية، مثل «الأيديولوجيا الجندرية»، فيما يمثل محاولات صريحة لإجهاض حقوق النساء والمثليين والمتحولين التي ترسخت في أوربا بعد معارك طويلة خاضتها العلمانية ضد المفاهيم الكهنوتية.
في السياق ذاته، تعهد «حزب فوكس» اليميني المتطرف في أسبانيا بإلغاء قوانين مناهضة للعنف القائم على النوع، كما قام «حزب القانون والعدالة» في بولندا بفرض مزيد من القيود على منع الحمل والإجهاض. وتفترض هذه الأحزاب عدم أحقية النساء والمثليين والملونين والمهاجرين في الحصول على حماية متساوية بموجب القانون.
وفي «مؤتمر فيرونا» الحاشد، استنكر سالفيني أمام الجماهير الهادرة أزمة «الأسرة الفارغة» في أوربا، وسخر من مؤيدي الحركات النسوية واصفا إياهم بأنهم «مثيرون للاهتمام لعلماء الأنثروبولوجيا»، وتعهد بأنه سيقاوم نظرية الجندر حتى تتغير.
وهنا تؤكد فيتزجيرالد أن ما يحدث هو «إستراتيجية تسعى إلى استعادة السلطة من الأفراد الذين يتمتعون بحقوق عالمية لمنحها لمؤسسات عتيقة وقوية، مثل الكنائس وهياكل الأسر الأبوية، والشرطة و’القادة الأقوياء‘».
التمويل المظلم
وتتبع فيتزجيرالد جذور هذا النشاط اليميني من خلال الكشف عن مصادر تمويل هذه الجماعات، حيث ترى أن التركيز على التدخل الروسي على حساب التأثير المتزايد للجماعات الأمريكية الدينية المحافظة، التي يرتبط بعضها بإدارة ترامب ومستشاره السابق ستيف بانون، يمثل في كثير من الأحيان شكلا من أشكال التعامي عن الحقيقة.
ستيف بانون
وتنقل فيتزجيرالد عن دراسة أجراها موقع openDemocracy مؤخرا أن اليمين الديني الأمريكي أنفق ما لا يقل عن 50 مليون دولار على حملات ممولة بـ «أموال مظلمة» في أوربا على مدى العقد الماضي، مقارنة بثلاثة ملايين دولار فقط هي إجمالي ما أنفقته جميع الأحزاب السياسية في أيرلندا على الانتخابات الأوربية في عام 2014.
يلجأ بعض النشطاء الدينيين وحلفائهم من اليمين المتشدد الآن إلى ’اللغة‘ العلمانية للترويج لمواقفهم من العلوم والأخلاقيات البيولوجية لمناهضة «المثلية الجنسية» في المدارس، ومن حرية التعبير لرفض العمل للأزواج المثليين، ومن حقوق الرجال للتراجع عن قوانين الحماية من سوء المعاملة المنزلية. وتشير فيتزجيرالد إلى أن «هذه الجهود في حقيقتها متشابكة ومترابطة أكثر بكثير مما تبدو للوهلة الأولى».
كما تشير فيتزجيرالد في مقالها إلى دراسة أخرى أجراها موقع openDemocracy في شهر أبريل الماضي حول قيام جماعة يمينية متطرفة تتخذ من مدريد مقرا لها، وتحصل على دعم من المحافظين الأمريكيين والروس، بممارسة ما يشبه «حملة انتخابية» تجوب جميع أرجاء القارة لحشد الأصوات الانتخابية للأحزاب اليمينية المتطرفة.
ويخشى المشرعون الأوربيون من أن يؤدي هذا التعاون بين المحافظين المرتبطين بالرئيس ترامب من ناحية، وحلفائهم الأوربيين «على الجانب الآخر المحيط» إلى استنساخ «النموذج الأمريكي للتمويل السياسي» في أوربا، وهو ما «سيفتح الباب على مصراعيه، ليس فقط أمام عمليات تنسيق استثنائية بين جماعات اليمين المتشدد المختلفة، وإنما أيضا أمام تدفق كميات ضخمة من ’الأموال المظلمة‘ دون رقيب أو ضابط في الانتخابات والاستفتاءات».
وتستشهد فيتزجيرالد في هذا السياق بالتحذيرات التي أطلقها السيناتور الديمقراطي السابق روس فينجولد، الذي عمل إلى جانب السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين من أجل إصلاح التمويل الانتخابي في الولايات المتحدة، من أن «أوربا لا تزال تمتلك فرصتها لتجاوز هذه الهوة وتفادي الوقوع في نفس الأخطاء التي ارتكبت هنا في الولايات المتحدة».
جون ماكين
الصمود الليبرالي
وبرغم هذا التنسيق المحكم والتعاون الوثيق، تؤكد فيتزجيرالد على وجود «تناقضات كامنة في مطالب اليمين الأوربي المتشدد وحلفائه من المحافظين الدينيين». فالحرية الدينية التي يدافعون عنها تتسم بقدر كبير من الانتقائية (على سبيل المثال، لا تمثل الأديان بخلاف المسيحية جزءا من خطة «أوربا المسيحية»). كما أن القوانين العقابية التي يناصرونها لوقف تيار الهجرة من منابعه لم تفلح (فلا يزال الناس يموتون في عرض البحر)، فضلا عن عواقبها السيئة التي ستنال في وقت ما من شعبية هذا التيار. وقد شهدت السنوات الأخيرة اعتقال، أوعلى الأقل توجيه اتهامات لمئات من مواطني الاتحاد الأوربي، بمن فيهم قساوسة ونساء مسنات ورجال إطفاء، لقيامهم بأعمال خيرية من قبيل توفير الطعام، أو تأمين المأوى، أو تيسير خدمات النقل لمهاجرين.
في نهاية المقال، تبدو فيتزجيرالد أكثر تفاؤلا.. فرغم أن «رياح التغيير تجتاح جميع أنحاء أوربا حاليا، إلى درجة لم يتخيلها أكثر المتشائمين من الليبراليين العلمانيين»، إلا أن علامات كثيرة على انتكاس هذا التيار تلوح بقوة في الأفق السياسي والاجتماعي. فلأول مرة في تاريخ الفعاليات السنوية، تفوق أعداد المحتجين في الخارج أعداد الحاضرين في الداخل. لقد توافد على فيرونا أكثر من 30 ألفا من جميع أنحاء أوربا، ومن دول أخرى مثل الأرجنتين، ليعلنوا رفضهم لهكذا سياسات، وللدفاع عن القيم الحضارية الأصيلة التي قامت عليها مجتمعاتهم عبر مئات السنين.
*يمكن مطالعة النص الاصلي باللغة الإنجليزية لمقال «ماري فيتزجيرالد» من هنا: ?