«حيوا أهل الشام يا أهل الله .. صابرة وهشام وما شاالله .. كلهم قد صام وقد صلى .. يا أبو زيد الخيل ماتقلقشي .. كلهم قد نام مؤدي الفرض .. تحت هذا الليل وهذي الأرض .. قالوا للأحلام ماتقلقشي .. إن يكن أو كان ندى البلبل .. في شجر لبنان ماعنقدشي .. والرقابي أقلام مطاطية .. تكتب الأيام مطاطية .. سبت شغلي وجيت أسحركم .. دق قلبي في بيت مسافركم .. مت ما استنيت لآخركم .. يا تجار الزيت بخاطركم .. شاعر حداد حيخبركم» تلك بعض مقتطفات من قصيدة «سحور أبو الطيب» للشاعر الرائع فؤاد حداد.
«السوريين منورين مصر»
كان ذلك هو الهاشتاج أو الوسم الذي أطلقه العديد من المصريين على صفحاتهم على منصات ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد حظي بزخم كبير وتصدر مواقع التواصل الاجتماعي في رسالة دعم وترحيب بالسوريين على أرض مصر. فيما بدا ردا على ما أعتبروا أنه حملة تستهدف السوريين المقيمين في مصر من قبل البعض. وقد جاء ذلك بعد أن تقدم أحد المحامين ببلاغ إلى النائب العام، يطالب فيه بوضع الأنشطة الاقتصادية لبعض التجار ورجال الأعمال السوريين تحت المراقبة، بدعوى أنهم يمارسون أنشطة اقتصادية من شأنها الإضرار بالإقتصاد وبالأمن القومي المصري، ومطالبا بإتخاذ إجراءات قانونية للكشف عن مصادر أموال السوريين المقيمين بمصر.
الجدل حول السوريين واستثماراتهم في مصر، وحملة التعاطف اللافتة معهم ضد محاولات التشكيك فيهم، جاء ليسلط الضوء على العلاقات والوشائج التاريخية الوثيقة التي ربطت المصريين باشقائهم السوريين والشوام عموما على مدار عقود طويلة من التاريخ، كما أنه يعيد للأذهان الإسهامات العظيمة التى قدمها الشوام الذين هاجروا إلى مصر منذ منتصف القرن التاسع عشروبدايات القرن العشرين، في مختلف المجالات والأنشطة. ففي تلك الفترة شهدت مصر استقرارا سياسيا وازدهارا اقتصاديا ورغبة في تحقيق النهضة وهو ما شجع الكثيرين من أبناء الشام على الهجرة إلى مصر بحثا عن ملاذ آمن أو عن فرصة عمل، أو فسحة حرية ضاقت بها بلاده، فعلى الدوام كانت مصر ملاذا وحضنا للأشقاء العرب من كل بقاع الوطن العربى الكبير. وقد ساهم العديد من أبناء الشام الذي قدموا إلى مصر خلال تلك الفترة، وعاشوا فيها- مثلهم مثل المصريين تماما- بدور مهم في صناعة نهضة مصر الثقافية آنذاك من خلال تأسيس المسرح والصحافة والسينما والطباعة والكتب، فضلا عن العديد من الجمعيات الأدبية والثقافية، إلى جانب الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي طالما تفوق فيها أبناء الشام، الذين عرفوا دائما بمهاراتهم التجارية.
هنا القاهرة من دمشق
«هنا القاهرة من دمشق.. هنا مصر من سوريا.. لبيك لبيك يا مصر» بتلك العبارة استهل الإذاعي السوري البارز «الهادي البكاري»، النشرة الإخبارية بإذاعة دمشق، ردا على غارات العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، التي نجم عنها تدمير هوائيات إرسال الإذاعة المصرية، قبيل خطبة كان من المفترض أن تذاع عبر أثير الإذاعة، للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فكان الرد السوري «هنا القاهرة من دمشق».
يضاف إلى موقف الإذاعة السورية، المعبر عن كامل تضامن الشعب السوري مع مصر إبان العدوان الثلاثي، إستشهاد الملازم أول «جول جمال» ذلك الشاب السوري الذي كان قد قدم إلى مصر، ضمن فريق مكون من عشرة طلاب سوريين للدراسة بالكلية البحرية، حيث شارك «جول جمال» في تدمير المدمرة الفرنسية «جان بارت» التي كادت أن تقترب من شواطىء مدينة بورسعيد بهدف تدمير المدينة، مستعينا بزورق الطوربيد الذي كان قد تدرب علي استخدامه بالبحرية المصرية، ليسجل باستشهاده ورفاقه فى ذلك اليوم صفحة مضئية من تاريخ النضال الوطني المشترك.
الملازم أول «جول جمال»
هجرة الشوام إلى مصر
يؤرخ الدكتور مسعود ضاهر أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية في دراسة له بعنوان «هجرة الشوام .. الهجرة اللبنانية إلى مصر» لهجرة الشوام إلى مصر والتي بدأت منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستمرت على إمتداد النصف الأول من القرن العشرين، تلك المرحلة التاريخية التي كانت مصر تسعى خلالها جاهدة نحو «العصرنة والحداثة على مختلف المستويات» -على حد وصف ضاهر- وذلك بتأثير مباشر من نقل التكنولوجيا الغربية ووجود الإرساليات والجاليات الأوربية المختلفة، وكانت القيادة السياسية المصرية آنذاك(في عهد الخديوي إسماعيل)، تسعى جاهدة نحو مواكبة حالة العصرنة تلك، وهنا جاء دور الشوام الذين لعبوا دورا بارزا في الوساطة بين الحضارة الغربية بكل مقوماتها من تقنيات وفنون ومدارس، وبين جماهير الشعب المصري بفضل إتقانهم للعديد من اللغات الأجنبية.
ويضيف مسعود ضاهر، «كان لمثقفي الشام دور بارز ليس في التاثير على المجتمع المصري فقط، وإنما في التأثير البارز على المشرق العربي في مجمله، وكان من أبرز هؤلاء شبلي شميل وفرح أنطون وأديب إسحق وأنطون مارون ورفيق جبور وعبد الرحمن الكواكبي، ونجيب حداد وزينب فواز ومي زيادة، وغيرهم ممن لعبوا دورا بارزا في تنشيط الحياة السياسية والفكرية والفنية بمصر».
في ذات السياق يعدد مسعود ضاهر العائلات الشامية التي قدمت إلى مصر وتغلغلت بمختلف نواحي الحياة، وكان منهم عائلة آل زيدان وآل سكاكيني وآل صباغ وآل كنعان وغيرهم الكثير من العائلات التي قدمت واستقر بها الحال في مصر. ومما سهل عليهم ذلك الأمر -من وجهة نظر ضاهر- أن قانون الجنسية المصرية، كان يتيح لهم الجمع بين الجنسية المصرية وجنسيتهم الأصلية.
سمعان صيدناوى مستثمر سوري في مصر 1878
الشوام.. والحياة الثقافية في مصر
لعب الشوام دورا بارزا في الحياة الثقافية بمصر على امتداد علاقتهم بها، ففي مجال الصحافة شارك المهاجرون الشوام في تأسيس عدد من الصحف المصرية، وتعد جريدة «الأهرام» واحدة من أبرز ما أنتجه الشوام في مصر في هذا المجال، حيث قدم «سليم تقلا» مهاجرا إلى مصر عام 1874 في عهد الخديوي اسماعيل، واستقر بمدينة الاسكندرية ساعيا للحصول على امتياز تأسيس جريدة الأهرام، التي صدر العدد الأول منها في ديسمبر عام 1875.
سليم نقلا مؤسس جريدة الأهرام
لم يقتصر الأمر على مشاركة الشوام في تأسيس عدد من الصحف المصرية، ولكن ربما الأمر الأهم يتمثل بما قاموا به من دور بارز في حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ولعل أبرز هؤلاء وأشهرهم هو جورجي زيدان، وأديب إسحاق الدمشقي وفيلب جلاد بك الذي أصدر «قاموس الإدارة والقضاء» في ستة مجلدات باللغة العربية والفرنسية، الذي يتضمن قانون الحكومة المصرية، وخليل مطران الذي ترجم الكثير من الأعمال المسرحية التي أثرت المسرح المصري، وغيرهم كثر ممن كان لترجماتهم دور في إثراء الحياة الثقافية في مصر.
في مجال الفن برز عدد لا حصر له من الفنانين الشوام الذين ساهموا في تطوير الحركة الفنية المصرية في مجال المسرح على وجه التحديد، وكانت أول فرقة مسرحية قدمت من الشام إلى مصر هي فرقة سليم النقاش، تبعتها فرق أخرى مثل فرقة سليمان القرداحي وفرقة سليمان حداد وفرقة أبو خليل القباني، والذى قيل إن سلامة حجازي قد أخذ عنه فن الأوبريت.
كذلك الحال في مجال السينما والغناء فإن عدد الفنانين الذين قدموا من الشام إلى مصر لا حصر له، منهم فريد الأطرش وأسمهان وأنور وجدي وماري منيب وصولا لفناني العصر الحديث الذين مازالوا يساهمون في إثراء الفن في مصر، منهم رغدة وجمال سليمان وكندة علوش وباسل خياط وغيرهم. وبالطبع لا يفوتنا كتاب الأدب الشوام وأثرهم في حياتنا الثقافية.
السوريون إذن سواء كانوا داخل سوريا أو مقيمين في مصر- على امتداد تاريخهم – هم إضافة حقيقية وثراء نوعي حقيقي للحياة الثقافية في مصر والعالم العربي. ولطالما كانت مصر وسوريا بلداً واحداً، وصفحات التاريخ شاهدة على ذلك لمن يريد أن يقرأ أو يستفيد.