كان عباس محمود العقاد أول نموذج عرفته مصر لما يمكن أن نسميه بـ«الأديب المتفرغ»، أى الذى يكسب قوته من فكره وأدبه، فهو «الكاتب العصامى الذى شق طريقه فى الحياة بقلمه وأبى أن تكون له صناعة أخرى غير صناعة القلم»، بحسب ما أوردته «الأهرام» في ذكرى رحيله الأولى عام 1965.
قبل أن ينهي المرحلة الإبتدائية، حسم العقاد موقفه واختار الكتابة صنعة، فذاك الطفل لم يجد نفسه في هذا الوقت المبكر شغوفا بشيء سوى أن يكون كاتبا، لم يعرف أملا في الحياة غير صناعة القلم، أخذه أسلوب عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية الذي تعرف عليه من خلال مقالاته وكتبه، فقرر أن يمضى على ذات الطريق.
النديم والعقاد
العقاد وصناعة القلم
في كتابه «حياة قلم» يسترجع العقاد بداياته مع صناعة القلم، فيقول «أعمل في تحرير الصحف من خمسين سنة، وكنت أكتب لها متطوعا قبل ذلك بسنوات قليلة، وأزيد القارئ فأقول: إنني منذ بلغت سن الطفولة وفهمت شيئا يسمى المستقبل لم أعرف لي أملا في الحياة غير صناعة القلم، ولم تكن أمامي صورة لصناعة القلم في أول الأمر غير صناعة الصحافة».
ويسأل العقاد نفسه لماذا اختار هذه الصناعة دون غيرها وجعلها أملا من آمال الحياة الكبرى.. بل أمل الحياة الأكبر؟، ويجيب: لا أدري باعث هذا الاختيار على سبيل التحقيق، ولا أستغنى فيه عن التخمين أو التخمين الكثير، بعد المقارنة بين ذكريات الطفولة وملابساتها، وبعد الترجيح من هنا والشك من هناك، كما يفعل الباحث في السير والتراجم حين يعمد إلى التخمين عن حياة الآخرين.. قلت: إنني لم أعرف في طفولتي أملا غير صناعة القلم.
لكنه استدرك متذكرا أنه تمنى حينا أن يكون جنديا، وحينا آخر تمنى أن يكون عالما زراعيا و«هما فيما يبدو صناعتان متباعدتان». ويرى العقاد أنه ما تعلق بالجندية إلا لأنه يريد صناعة القلم، وما تعلق بالعلوم الزراعية إلا لأنه يريد صناعة القلم، «أن صناعة القلم كانت تلمحني بعينيها الساحرتين من وراء النقاب، وأنا أحسبني أغازل صناعة السيف أو أغازل صناعة المنجل والمحراث».
ويفسر العقاد تمنيه العمل بالجندية أو الزراعة باعتبارهما «ترجمة لأمنية الكتابة مستعارة في صورة من صور الصناعات الأخرى، وبخاصة حين نذكر إنها كتابة لا تخلو من نضال ولا تخلو كذلك من زراعة ولا من عناية بالحياة والأحياء».
«الأستاذ» في «دولاب المنظرة»
يسترجع العقاد ذكريات صحيفته الأولى التي أصدرها في طفولته بإلهام من عبد الله النديم الذي لم يره أو يخاطبه لكنه أثر فيه وفي مسيرته، فيقول: أحسبني حتى الساعة لم أبلغ من معرفة الباعث الصحفي في نفسي مبلغ اليقين الجازم الذي لا رجعة فيه، ولكنني علي يقين جازم من أنني أنشأت صحيفة في طفولتي الباكرة، وأنني لم أنشئها قبل أن أطلع على ودائع دولاب المنظرة في بيتي، وأكثر ما فيه صحف أسبوعية أو شهرية قديمة، وأكثر هذه الصحف القديمة من مجلات عبد الله النديم، وليس بينها أكثر عددا ولا أكبر حظوة عندي يومذاك من مجلة «الأستاذ».
رغم انجذاب العقاد لعناوين النديم البارعة ألا أنه قرر أن يعارضها ويرد على ما جاء فيها «على تعداد الصحف في دولاب المنظرة عندنا لم تكن بينها صحيفة أبرع في العناوين من صحف عبدلله النديم، وكان هذا الصحفي المطبوع أستاذ زمانه، بل لعله أستاذ من أساتذة العناوين في كل زمان.. من عناوينه (كان ويكون)، و(التنكيت والتبكيت)، و(المسامير)، وعناوين أخرى بهذه البراعة لعشرات من الفصول والأخبار».
ويسترسل العقاد فى حكايته مع عناوين النديم قائلا: لفتتني العناوين البارعة فقرأت كل ما وجدته من صحف النديم، ووجدتني ذات يوم أقطع الورق قطعًا على قدر المجلة، وأعمد إلى مكان العنوان منها، فأكتبه بخطي متأنقًا، وأعارض عنوان «الأستاذ» بعنوان «التلميذ».
تحقيقاً مصوراً للعقاد عن المتحف الزراعى
«لو كنا مثلكم ما فعلنا فعلكم»
أما مقالة «التلميذ» الافتتاحية فقد كانت أيضًا من قبيل المعارضة لمقالة من أشهر مقالات «الأستاذ»، التي تردد صداها زمنًا في مصر، وهي المقالة التي جعل النديم عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا» وافتتح بها العدد الثاني والعشرين من الصحيفة، فكتب العقاد مقالا يرد عليها بعنوان «لو كنا مثلكم ما فعلنا فعلكم».
كتب النديم مطالبا باستقلال مصر، مهاجما الأوروبيين المحتلين المتعالين على باقي الشعوب، «ندعي أننا والأوروبيين أشباه وأمثال، ولكن الأوروبيين ينكرون هذه الدعوى، ولا يكلفون أنفسهم غير دليل واحد يثبتون به، الفارق البعيد بيننا وبينهم، فإذا قلنا لهم: نحن مثلكم قالوا لنا: تلك دعواكم، ولو كنتم مثلنا لفعلتم مثلنا».
استغرقت مقالة النديم أكثر من عشرين صفحة ختمها بقوله «إن آخر الدواء الكي وقد بلغ السيل الزبى، فإن رفأنا هذا الخرق وشددنا أزر بعضنا، أمكننا أن نقول لأوروبا: نحن نحن وأنتم أنتم، وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ بالأجانب فريقًا بعد فريق، حقَّ لأوروبا أن تطردنا من بلادنا إلى رؤوس الجبال؛ لتلحقنا بالبهيم الوحشي وتصدق في قولها: لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا».
فرد العقاد على مقال النديم بمقال لم يتذكر منه سوى فحواه، «أذكر من تلك المقالة ما يدل عليه العنوان، وفحواه أننا نحن الشرقيين، لو كنا مثلكم أيها الغربيون فاتحين منتصرين لما فعلنا فعلكم من نهب الأموال، واستباحة الحقوق وافتراء الأكاذيب والتعلل بالمواعيد، ولكننا لسنا مثلكم ولا نريد أن نفعل فعلكم، وسترون فعلنا عما قريب».
أصدر العقاد من صحيفة «التلميذ» المخطوطة بضعة أعداد لم يكن لها من قراء غير زملائه في المدرسة، وأقاربه المشجعين أو المتندرين المتفكهين، ولم يكن لها من اشتراك غير تعب النَسْخ لمن يراها مستحقة لهذا الثمن.
ويروي العقاد عن عادة تجهيز الورق التي بقيت معه حتى كتابة فصول «حياة قلم» في نهاية خمسينيات القرن الماضي «أخالني الآن على حق إذا قلت: إن هذا السر -سر دولاب المنظرة- هو سر الاتجاه الأول عندي إلى صناعة القلم، ويؤيد هذا الظن الراجح أنني تعودت من أيامها عادة لم تفارقني إلى اليوم في تجهيز ورق الكتابة الصحفية، فهذه الورقة التي أكتب عليها الآن مقصوصة على النحو الذي اخترته لصفحات مجلة التلميذ، متى كتبتها طويتها طولا كما تطوى المجلة، ووضعتها في غلاف مستطيل كالغلاف الذي توضع فيه المجلات، وقد اتخذت من هذه الأوراق ومن ذلك الغلاف ذخيرة حاضرة أوصي بصنعها إذا نفدت من السوق، كما تنفد أحيانًا في بعض أيام الحروب العالمية».
وتذكر العقاد الذي مرت الذكرى المائة والثلاثون على ميلاده هذه منذ بضعة أيام –ولد في 28 يونيو عام 1889- كلمة سمعها من صديق كان يناقشه عن سر اتجاهه إلى صناعة القلم، فيقول: إن الملكة النفسية تخلق فينا قبل أن تخلق لها أدواتها، وربما كانت سهولة الكتابة عندي نتيجة مستفادة من سهولة القراءة، ولم أكن قارئًا إلا لأنني سأكون كاتبًا يومًا من الأيام متى تيسرت الأداة.
المجتهد والمقلّد والأسرة الخديوية
ثم يعود «التلميذ» إلى علاقته باستاذه الذي دفعه إلى احتراف الكتابة، رغم أنه لم يجالسه فيقول: كان عبد لله النديم أستاذُ مدرستِه في الصحافة والدعوة الوطنية، وكان كل من نشأ بعده بقليل بين واحد من اثنين، إما تلميذ يقتدى به، وإما خصم يبغضه وينحى عليه.
ويؤكد العقاد أن من أنبغ تلاميذ مدرسة النديم هو ذلك الشاب مصطفى كامل، «كان خصوم النديم يزعمون أن الخديوي لم يعرض عن الأستاذ ويقبل على التلميذ إلا لأن أبناء الأسرة الخديوية غضبوا لتقريبه رجلًا كان يحاربهم في الثورة العرابية، ويعمل على تقويض عرشهم، فاختار الخديوي من تلاميذه شابٍّا بعيدًا عن هذه الشبهة، وميزه على أستاذه لمعرفته باللغة الإفرنجية».
مصطفى كامل
وعن سر قرب مصطفى كامل من الأسرة الحاكمة التي بغضت النديم وأبعدته، نقل العقاد عن ولي الدين يكن صاحب كتاب «المعلوم والمجهول» قوله: «من أجل هذا قال أكثر الأمراء من الأسرة الحاكمة على مصر، إن مقام الإمارة لا يقرب منه النديم؛ لأنه عدو أسرته وجنسه، وبهذه السياسة المضحكة آل الأمر إلى الاعتماد على كامل، وقد كان كامل ممن يرددون نغمات النديم، وإنما ميز المقلد عن المجتهد إلمامه باللغة الفرنساوية، واستطاعته بيان آرائه للغربيين، ولم يفز النديم بمثل ذلك».
إلا أن الأمر لم يكن في هذه المسألة خاصة أمر اللغة الإفرنجية؛ لأن الخديوي قرب إليه الشيخ علي يوسف الأزهري، وهو ممن أنشأوا الصحف منافسة للنديم، وتطلعوا إلى محاكاته في المنهج والأسلوب، ولكنها مسألة المدرسة الصحفية التي كانت تحمل علم الدعوة أمام الصحافة المسخرة للدعاية الأجنبية، ولم تكن هناك مدرسة تحمل هذا العلم في أول عهد الاحتلال غير مدرسة النديم، يعقب العقاد على تفسير يكن.
القدوة بين «الأستاذ» و«الإمام»
غير أن العقاد استدرك وتوقف عند مسألة اعتباره تمليذا في مدرسة النديم، فقال: لا أستطيع أن أقول، إنني على الجملة من تلاميذ مدرسة النديم، وإن كان النديم أول من لفتني إلى العمل في الصحافة، وكانت مطالعته أول مطالعة وجهتني إلى هذه الصناعة. لا بل هناك مشابهات عديدة بين النديم وبيني لا أدري هل جاءت من وحي القدوة الخفية، أو جاءت مصادفة بغير قصد مني ولا من أحد.
ويعدد العقاد تلك المشابهات قائلا: تعلمت صناعة التلغراف كما تعلمها النديم، واشتغلت بالتعليم في مدرسة خيرية كما اشتغل النديم، وجرَّبت الاستخفاء على الطريقة البوليسية أكثر من مرة إبان الحرب العالمية الأولى، وكذلك فعل النديم عند مطاردته في أعقاب الثورة العرابية.
«لكنني مع هذه المشابهات لم أشعر من قبل، ولا أشعر الآن بأن الرجل قدوتي المختارة بين أمثلة النبوغ التي أتمناها، أو بين الشخصيات المثالية التي أجلها وأحب أن أنتمي إليها، وأحسب أن المرجع في هذا الاختلاف إلى سببين: أحدهما يرجع إلى الأحوال العامة، والآخر يرجع إلى المزاج الشخصي الذي فُطرت عليه».
ويشرح العقاد السبب الأول الذي جعله لا يشعر بأن النديم قدوته المختارة قائلا: الأحوال العامة في عصرنا تخالف الأحوال العامة قبيل الاحتلال، أو في الفترة بين الثورة العرابية والاحتلال؛ لأن دخول الإنجليز مصر كان مسألة دولية تعمل فيها الدولة العثمانية عملًا قانونيا يصح الاعتماد عليه باعتبارها صاحبة السيادة القانونية على الديار المصرية، وكانت مناورات الدول المتنافسة على فتوح الاستعمار بابًا مفتوحًا على مصراعيه، يتسع للمساومات والدسائس والمعاكسات، ويتعلق الأمل به من جانب المصريين ولو إلى حين.
اقرأ أيضا:
عبد الله النديم.. رسالة المتمرد الأخيرة via @aswatonline https://t.co/bjLt0SRNAQ
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 3, 2019
ويضيف: هذا فيما نظن أحد الأسباب التي تحولت بأنظار عبد الله النديم وتلاميذه إلى الدولة العثمانية، وجعلت سيادة هذه الدولة على مصر ركنًا مهما في برنامج مصطفى كامل، والحزب الوطني الذي قام على يديه. أما في عصرنا — نحن الذين ولدنا بعد الاحتلال — فقد أصبحت مسألة الاحتلال من أعبائنا الوطنية، التي لا عمل فيها للدولة العثمانية، ولا للمناورات الدولية، وإنما يقع العبء الأكبر فيها على عواتقنا نحن المصريين، فلا يجوز لنا أن نفرط في مبدأ الاستقلال من أجل صيغة شكلية لا تفيدنا في جهادنا إن صح أنها كانت تفيدنا قبل ذلك.
أما عن سبب الاختلاف الثاني والذي أرجعه العقاد إلى المزاج الشخصي، فخلاصته في كلمتين بحسب ما أورده في كتابه: إن الرجل كان ينزع كثيرًا أو قليلًا إلى شيء من التهريج، وإنني نشأت في بيئتي البيتية بين أبوين محافظين أشد المحافظة على سمت الوقار ونقلت هذا الخلق منهما بالوراثة، كما نقلته بالقدوة والمحاكاة.
ويذكر العقاد شيئا عن طفولته الجادة، ورفضه للتنكيت والمزاح، وهو ما جعله لا يرى في صاحب «التنكيت والتبكيت» و«المسامير» مثلا أعلى، حيث رفض أن يطلق عليه معلمه في المرحلة الابتدائه لقب عباس حلمي، كما كان يلقب أصحاب هذا الاسم.
ويشير العقاد إلا أنه فضّل الإمام محمد عبده على النديم كقدوة، «أحسبني لم أفضل الأستاذ الإمام محمد عبده على صاحبنا النديم إلا لسبب من جملة أسباب ترجع إلى هذا المزاج، فإن وقار محمد عبده هو القدوة التي أرتضيها حين أنظر إلى النديم، فيظفر مني بالثناء ولا يظفر مني بالاقتداء، وكلاهما فيما عدا هذا الخلق صنوان ينتميان إلى الثورة العرابية، وإلى مدرسة جمال الدين وإلى العمامة والبيئة الأزهرية».
اقرأ أيضا:
بعض روادها غيّروا تاريخ مصر.. متاتيا «قهوة» صنعت ثورة via @aswatonline https://t.co/MggoTyYk9b
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 3, 2019
في «بلاط صاحبة الجلالة»
لم يكمل العقاد تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، وعمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا ثم نُقِلَ إلى الزقازيق وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية، وفي هذه السنة توفي أبوه، فانتقل إلى القاهرة واستقر بها.
وبعد هجر الوظيفة الحكومية اتجه العقاد عام 1907 إلى الصحافة، وعمل مع الأستاذ محمد فريد وجدي في جريدة الدستور اليومية التي كان يصدرها، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير، فلم يكن معهما أحد يساعدهما في التحرير.
وبعد توقف الجريدة عاد العقاد عام 1912 إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها، فتركها، واشترك في تحرير جريدة المؤيد التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وسرعان ما اصطدم بسياسة الجريدة، التي كانت تؤيد الخديوي عباس حلمي، فتركها وعمل بالتدريس فترة مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي عام 1917 وكانت تَصْدُر بالإسكندرية، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام سنة 1919 واشتغل بالحركة الوطنية التي اشتعلت بعد ثورة 1919، وصار من كُتَّابها الكبار مدافعًا عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، وأصبح الكاتب الأول لحزب الوفد، المدافع عنه أمام خصومه من الأحزاب الأخرى، ودخل في معارك حامية مع منتقدي سعد زغلول زعيم الأمة حول سياسة المفاوضات مع الإنجليز بعد الثورة.
الخديوي عباس حلمي