امتاز المعتزلة، دون سائر الفِرَق الكلامية الأخرى، بالعقل النقدي، وهو ما مكنهم من حفر اسمهم على امتداد تاريخ الفكر العربي- الإسلامي، على الرغم من الضربات التي كِيلَت لهم، ابتداءً من العام 232 هـ، وهو العام الذي تسنّم فيه الخليفة العباسي المتوكل ذروة الحُكم، ليحدث الانقلاب على الفكر الاعتزالي العقلاني، الذي أرْساه من قبله الخلفاء الثلاثة: المأمون، والمعتصم، والواثق.
فخلال عهد المتوكل ساد الاتجاه النصي لخدمة أيديولوجيا الدولة، لتصدر الأحكام تباعًا بتكفير المعتزلة، وتدمير كتبهم، ونفْي شيوخهم، ومطاردة من بقي منهم ومحاصرته فكريا وأمنيا واجتماعيا، إلى أن حدثت «التصفية الكبرى» لهم بما عُرف في التاريخ الإسلامي باسم «الوثيقة القادرية» أو «الاعتقاد القادري»، وهي وثيقة وإلزام فكري عقائدي صدر في العام 408هـ، كإعلان حرب على المعتزلة وأصحاب الاتجاه العقلاني. (جورج طرابيشي، هرطقات 1، طـ دار الساقي، ص 46)
روح نقدية
ولعلّ الروحَ النقدية هي التي جعلت من الفكر المعتزلي فكرًا جدليا متجددا ومتطابقا، ولو جزئيا، مع الواقعيْن السياسي والاجتماعي. فالنقد هو محور العلم الصحيح، وأساس الفهم المتعمّق، ومقياس صحة الرأي وصواب النتائج، وما النقد إلا تحليلٌ يقوم على العقل والمنطق للوصول إلى الحقيقة بعد تمييز الصواب عن الخطأ، اعتمادا على الحُجّة والبرهان والدليل، لا على التقليد والاتباع.
ولم يعدم المعتزلة الشجاعة اللازمة للإعلان عن آرائهم النقدية رغم الاتهامات التي لاحقتهُم، كما لو أنهم يتمثلون مقولة الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، «لتكن لديك الشجاعة في استخدام عقلك». وبفضل تلك الروح ظهر منهم الاستقلال في الرأي في كثير من المسائل؛ لذلك يسميهم الباحثون الأوربيون «أصحاب المذهب العقلي Rationalists»، أو «المفكرون الأحرار»، كما تتردد تسميتهم بالعقليين في كتابات كثير من الباحثين الأوربيين. (محمد أبو ريدة، إبراهيم بن سيّار النظّام وآراؤه الكلامية والفلسفية، ص 67).
ويبدو من استقراء تاريخ شيوخ المعتزلة أنَّ أكثرهم كان مُطَارَدًا بشتى التُّهَم والنعوت المنحطّة، لا يسلَم من ذلك المؤسسون الذين لم يخلطوا آراءهم بفلسفات وعلوم الأوائل، كونها لم تكن تُرجمت في زمانهم بعد، أو من تلاهم من أقطاب الحركة الذين أفادوا من الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي.
اتهامات وملاحقات
في مقدمة هولاء المؤسسين، الذي ناله ما نال غيره من شيوخ المعتزلة، يأتي عمرو بن عبيد بن باب (80هـ – 144هـ) الذي كان له نصيب عظيم من التهم والسباب، حتى إنّ النصيين كفّروه باتفاق، رغم اشتهاره بالزهد والعبادة والورع والعفّة. فكتب أهل الحديث تغصّ بروايات شتى ترمي عمرو بن عبيد صراحة بالكفر والضلال، وتتحامل عليه، وتلصق باسمه المثالب، وهو أمر لا نجده عندما نقرأ، مثلا، عن واصل بن عطاء، رأس المعتزلة والمؤسس التاريخي لها. ومن المؤكد أن ذلك مردّه إلى الطابع الفكري لدى ابن عُبيد، فقد كان فِكرُ عمرو بن عبيد يقضّ مضاجع أهل الحديث، ويثير عواطفهم الدينية والعقائدية؛ لغلَبة الروح النقدية عنده، وعدم استسلامه للمرويات والتقليد، وحرصه على الإتيان بكل ما هو جديد مما لم يألفه أهل الحديث وأصحاب التقليد، على الرغم من أنه لم يكن يحب كثرة الجدل والحِجاج، فهو «لا يكاد يتكلم، فإذا تكلّم لم يكد يطيل»، على حد تعبير الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين، ج 1، ص 114).
اقرأ أيضا:
العُقلاءُ الأوائل(1): واصِـل بن عطاء.. مشروع الفيلسوف السياسي via @aswatonline https://t.co/vlfyUamaZc
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 17, 2019
لا تسعفنا المصادر التاريخية المختلفة في الإلمام والإحاطة بكثير من الأخبار عن عمرو بن عبيد؛ فلم يصل إلينا شيءٌ من كتبه، لكننا نستشفّ صراحته غير المألوفة في ذلك الزمان، وجسارته على التصريح بآرائه، ساعده على ذلك امتلاكه ناصية اللغة، وحُجَج البلاغة، وكذا رفضه لكل ما يتعارض مع آيات القرآن الكريم.لجُرأته في التعبير عن آرائه فقد كان التشهير والتشنيع قرينَ اسمِه، ولا سيّما بعد اقتران اسمه برواية مشهورة عنه في كُتب الكلام والحديث والتاريخ، وهي الرواية التي يرويها معاذ بن معاذ، الذي يقول: سمعتُ عمرو بن عبيد يقول: «إن كانت «تبّت يدا أبي لهب»، أي سورة المسد، في اللوح المحفوظ، فما لله على بني آدمَ حُجّة» (الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 14/ 70)، ويالَه من تشنيع. فابن عبيد، بناءً على تلك المروية، يشكّ في صحة القرآن، وينكر أن يكون جزءٌ منه مثبتًا في اللوح المحفوظ، كما أنه ينسب إلى الله تعالى الظلم؛ فإذا كان الله قدّر أزلا أن أبا لهب مصيره نار جهنم، حتما، فهذا معناه أنه قد أجبره على الشرك، وهذا هو الظلم عينه (..)، هكذا يدّعي منطوق رواية معاذ بن معاذ، وهو ادّعاء جدّ غريب. إذ إن المعتزلة، وعلى رأسهم شيخهم الأكبر عمرو بن عبيد، لا يقولون بالجبر، بل هم أولى الفِرَق التي جعلت الإنسان مسؤولا مسؤولية كاملة عن أفعاله واختياراته، فكيف بعد هذا يصدّق عاقل أن عمرو بن عبيد يرمي الله بالظلم، ويثبت الجبر على عباده؟!
ليست تلك الرواية وحدها هي التي يشنّعون بها على ابن عبيد، فثمة مرويات أخرى مشابهة لها، تتناول آراءه في غير آية من القرآن، منها رواية تقصُّ رؤيا منامية لرجل يُدعَى ثابت البناني، يرى في منامه ابن عبيد وهو يمسك مصحفا يحكّ ويزيل آية منه، فيسأله متعجبا عن سبب ذلك، فيرد عليه ابن عبيد، قائلا بشيء من السذاجة الممزوجة بالثبات والثقة: أبدل مكانها خيرا منها، ثم يبلغ التشنيع ذروته بمروية غريبة، قوامها رؤيا منامية أيضا، ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد، ج 14، ص 83)، وفيها أن حماد بن سلمة رأى في منامه عمرو بن عبيد يصلي بمفرده في اتجاه غير اتجاه القبلة، فيما يصلي الآخرون في اتجاه القبلة الصحيح، فيستدلّ حماد بذلك على أن عمرو بن عبيد مبتدعٌ، ضال، مفارقْ لجماعة المؤمنين، فلا يروي عنه. ولعل ذلك كله بدافع تثبيت اسم (المعتزلة)، ودمغهم به من باب انشقاقهم عن المؤمنين، كما لو كان لهم دينٌ آخر غير الإسلام.
لا يمكن تفسير تشنيع أهل الحديث على عمرو بن عبيد، بهذه الطريقة، رغم ما اشتُهر به من الصلاح، والورع، والعفة، والزهد، الإ لأنه كإمام عقلاني قد أوجعهم حُججًا وبراهينَ وأدلةً منطقية وعقلية يثبت بها آراءه، خصوصا مع تبنِّيه الجانبَ النقدي في فرز الأحاديث وتقليب متونها وعدم الاستسلام والانقياد إلى أسانيدها، فهو لا يرفض ولا ينكر الأحاديث النبوية، في جملتها، لكنه، فقط، ينتقد متن كل حديث يصله يكون مجافيا للقرآن نفسه، متعارضا مع اللغة، وهذا هو منهج تيار المعتزلة في التعامل مع الأحاديث النبوية.
الشجاعة مع الحكام
لقد تميز عمرو بن عبيد بالحِس النقدي، مع الجرأة والجسارة حتى لو كان في حضرة الحكام. فقد دخل، يوما، على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور – قال ابن خِلّكان: كان المنصور صاحبه وصديقه قبل الخلافة – فقال له: «إن الله واقفك وسائلك عن مثاقيل الذرّ، من الخير والشر، وإن أمة محمد خصماؤك يوم القيامة، وإنك لا ترضى لنفسك إلا بأن يعدل عليك، فإن الله لا يرضى منك إلا بالعدل على رعيتك» (أنساب الأشراف، البلاذري، ج 4 ص 234).
تمثال أبو جعفر المنصور
ومعلوم ما في هذا القول من تأسيس لمبدأ العدل لدى المعتزلة، فهو من أجلّ المبادئ والأصول التي أصّلوها، إلى جانب أصل التوحيد، حتى إن اسمهم الذي يرتضونه هو (أهل التوحيد والعدل)، وهما الأصلان اللذان اهتم بهما عمرو بن عبيد أكثر من غيرهما، إلى درجة أن المسعودي في (مروج الذهب، ج 2، ص 288) يذكر أنّ لابن عبيد خُطبًا ورسائلَ كثيرةً في العدل والتوحيد، لكن – للأسف – لم يصلنا شيء منها، كما لم يصلنا رأي قاطع لعمرو بن عبيد حول موقفه من الإمامة أو المفاضَلة بين الإمام عليّ والآخرين من الصحابة ممن وقفوا في وجهه، لكن يبدو أنه لشدة ورَعه كان يرى أن المتنازعِين كانوا أتقياء أبرار، لهم سوابق حسنة مع الرسول (ص)، وهذا الرأي ارتضاه الخيّاط في كتابه (الانتصار).
الخط السياسي عند عمرو بن عبيد يبدأ وينتهي من نقطة واحدة، وهي علاقته بالعباسيين، خصوصا أبا جعفر المنصور، صديق عمرو وجليسه وتلميذه، وهي علاقة لم تنشأ فجأة، بل بدأت منذ الدعوة السرية للعباسيين التي نشطت إبان شيخوخة الدولة الأموية، وشتان بين الخط السياسي لعمرو بن عبيد وصديقه، المؤسس، واصل بن عطاء. فلم يرتضِ عمرو حمل السلاح، ومناصرة الدعوة العباسية جهرا، حتى اتهمه كثيرون، آنذاك، بالجُبن، لكنه كان مسالِمًا، يحاول بقدر المستطاع الابتعاد عن الاحتكاك بالساسة والسياسة، فقد كان داعما في السر للدعوة العباسية لأنه كان كارها لطريقة الأمويين في الحكم، لكن لما أصبح للعباسيين دولة لم يشأ الدخول في مناصبها، مكتفيا بتقديم النصائح والوصايا لصديقه القديم. وكان (العدل) على رأس تلك النصائح والوصايا، ولعل إحساس الخليفة أبي جعفر المنصور بأن عمرو ابن عبيد لا يبتغي سوى إسداء النصح دون طمع أو تطلّع إلى منصب أو سُلطة، هو ما جعله يأمن جانبه، ويقرّبه إليه، ويُبقي على حالة الودّ التي كانت بينهما، ولا أدل على ذلك من قول أبي جعفر المنصور لأصحابه بعد إذ رأى زهد ابن عبيد في زيارة قصره والدخول عليه ورفض عطاياه:
كلكم ماشي رُويْد
كلكم خاتل صيـد
غير عمـرو بن عُبيـد (ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1، ص 308)
كما حفظت لنا كتب التاريخ أبياتا شعرية نظمها أبو جعفر المنصور رثاءً لصديقه وأستاذه عمرو الباب، عندما مرّ بقبره بمنطقة مرّان ( مكان على الطريق بين مكة والبصرة، وهو إلى مكة أقرب)، حيث قال:
صلى الإلهُ عليك من مُتوسِّدٍ … قبرًا مررتُ بهِ على مَرَّان
قبرًا تَضمَّنَ مؤمنًا مُتحنِّفًا … صدق الإله ودانَ بالعِرفانِ
فلو أنَّ هذا الدهرَ أَبقى صالحًا … أبقى لنا حيًّا أبا عُثمانِ