منوعات

وجه الثورة الذي حاولوا طمسه.. قراءة في مشروع 23 يوليو الثقافي والنهضوي

منذ ٦٧ عاماً بالتمام والكمال، في ليلة الثاني والعشرين والثالث والعشرين من شهر يوليو عام ١٩٥٢، قامت مجموعة محدودة من الشباب، متوسط أعمارهم لا يزيد عن ٣٠ عاماً بتغيير وجه التاريخ، تاريخ مصر والمنطقة والعالم.

كان حب الوطن هو الدافع، وكراهيتهم للقهر والظلم هو العدو المطلوب هزيمته، ملك فاسد ورأسمالية ظالمة وإقطاع متخلف ومجتمع النصف في المائة هو عنوان مصر في ذلك الزمن. كانت مصر هي بلد الحُفاة والمُعدمين، مصر التي كتب عنها «نجيب محفوظ» رائعته الحزينة «القاهرة الجديدة» أو «القاهرة ٣٠» وكذلك رائعته البائسة «بداية ونهاية» وما خطه بيده «عميد الأدب العربي: طه حسين»، في روايته «المعذبون في الارض» والتي فّضحت الفقر المُدقع والقهر المُقيم الذي كان يعيشه الشعب المصري في تلك السنوات، والتي صودرت بأمر الملك فاروق وحكومات عصره الليبرالي، وأتُهم كاتبها بأنه شيوعي خطر على البلاد والعباد، ولم يُسمح بنشرها إلاّ بعد قيام الثورة.

في هذه الاعمال الإبداعية، وأكتفي بالقليل منها على سبيل المثال لا الحصر، كانت الثورة وحيثيات قيامها.

عودة الروح

في صباح يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو، عام ١٩٥٢، وفي مفارقة مدهشة، كتب الاستاذ «كامل الشناوي» مقالاً غريباً تصدر الصفحة الأولى من جريدة الأخبار القاهرية، وكان وقتها مديراً لتحريرها، كان عنوان المقال هو «مصر تبحث عن رجل». كان موضوع المقال، وبنص كلماته، تجسيداً لأزمة وطن، ومحنة حكم، وانهيار طبقة الإقطاع ورأس المال، والتي أسماها عبدالناصر بـ«طبقة النصف في المائة».

 لم يكن حال مصر، يعبر عنه فقط مقال «كامل الشناوي» ونبوءته، بل كان هاجس وحلم كل من أمسك بالقلم، وتسلّح بضمير وطني صميم. فطه حسين كان أول من أطلق على حركة الضباط الأحرار اسم الثورة، وليس غيره، أما «نجيب محفوظ» فإنه ورغم اتجاهاته الليبرالية المعروفة- عندما سُئل عن روايتيه السابقتين (القاهرة الجديدة، وبداية ونهاية) قال عنهما «كتبتهما لأفضح النظام الملكي الإقطاعي السابق للثورة، وعندما قامت الثورة وأنصفت العامل والفلاح وأبناء الطبقة الوسطى، أحسست بجدوى ما كتبته، فالأدب والثورة صنوان لا يفترقان»

أما الأستاذ «توفيق الحكيم» فكان له فضل الريادة على هذا الصعيد الأدبي والإبداعي والإنساني، فكتب روايته «عودة الروح» عن ثورة ١٩١٩، ليدعو في ثناياها الى ضرورة وحدة الصف إذا أردنا أن نطرد الاحتلال البريطاني، رافعاً دعوته الشهيرة «الكل في واحد» مُعتبراً ذلك النداء، الذي أخذه من التراث الفرعوني، هو مُفْتاح النصر لمصر في كل تاريخها، فكانت تلك الرواية هي النبع الصافي الذي شّربّ منه ثوار يوليو، المعاني النبيلة في حب الوطن والإخلاص له.

معركة البناء

وعلى عكس الصورة التي حاول إعلام السادات لاحقا، ترويجها عن مصر الخمسينيات والستينيات كمجتمع مغلق يسكنه الخوف، كانت الثورة، وفي غمار معاركها التي امتدت الى أركان الأرض، من باندونج شرقا الى هافانا غربا، تخوض مع جيل جديد من الأدباء وبصحبة هؤلاء الكبار، معركة البناء والتحرر.

فمع «يوسف إدريس» قرأنا روايته البديعة «قصة حب» والتي عرفت طريقها الى شاشة السينما باسم «لا وقت للحب» لتؤرخ لمعركة الوطن في نضاله ضد المحتل البريطاني في منطقة قناة السويس، حيث القاعدة العسكرية البريطانية، وهي الأضخم والأخطر في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك كانت إسهامات فتحي غانم «النقدية» كما جاءت في روايته «الرجل الذي فقد ظله» وكذلك كتابات«عبد الرحمن الشرقاوي» و«إحسان عبد القدوس» و«صلاح جاهين» و«فؤاد حداد» و«صلاح عبدالصبور» و«الأبنودي» و «أحمد فؤاد نجم» وغيرهم، في أكثر من عمل إبداعي، سواء كانت رواية أو قصة قصيرة أو قصيدة شعر.

كان صوت مصر الجديدة، حاضرا في كلمات وإبداعات الآباء المؤسسين، فكتب «محفوظ» أعماله الإبداعية الناقدة للثورة مثل «ميرامار» و «ثرثرة فوق النيل» وروايته البديعة «الشحاذ» التي جسدت أزمة المثقف والسياسي اليساري، في مجتمع التحول الاشتراكي، فقد بدا غريباً في وطن يسعى لتحقيق حلمه في بناء العدل والحريّة.

 وأسّهمّ «الحكيم» في مناقشة أزمة الحكم في مسرحيته «السلطان الحائر» وكانت في أعقاب أزمة مارس ٥٤، ثم نقده لتضخم دور الأجهزة الأمنية في مطلع الستينيات، في عمله الرائد «بنك القلق»، والذي أسس به نوعاً جديداً من الإبداع أسماه «مسرواية» أي الجمع بين فن المسرح والإبداع الروائي.

اقرأ أيضا:

ثنائية العدل والحرية

أما طه حسين فلّخّصّ المعضلة الثورية في ضرورة «تلازم العدل الذي جاءت به الثورة مع الحرية التي تطمح اليها». كانت دعوة «طه حسين» استشعاراً لمتطلبات مرحلة جديدة من عمر الوطن. وفي هذا الإطار بدا «فتحي غانم» رائداً في عمله الرائع «زينب والعرش» والذي ناقش بجرأة قضية حرية الصحافة في سنوات الستينيات، موجهاً سهام النقد الى تجربة تأميم دور الصحف مثل: دار أخبار اليوم ودار الهلال ودار روزاليوسف وغيرها.

أما الأستاذ «عبد الرحمن الشرقاوي» فكتب عن مصر السابقة لقيام الثورة، من خلال رواية «الأرض»، ومسرحيته النقدية لسلطة يوليو «الفّتىّ مهران» مُناقشا  فيها علاقة قائد الثورة بالجماهير، وكان الرمز في تلك المسرحية  واضحاً وكاشفاً، فالمقصود فيها كان «جمال عبد الناصر» والقضية هي سلطة الحكم، وكانت حرب اليمن، والدور المصري العسكري والحضاري في هذا البلد العربي العزيز، تُلقي ببعض تفاعلاتها عَلى الحياة الثقافية والسياسية المصرية والعربية آنذاك.

https://youtu.be/lGjGDeeVeHU

ويدخل الأستاذ «لطفي الخولي» الكاتب والمفكر الماركسي الكبير، الساحة فبدأ بـ «القضية ٦٨» مُناقشاً فيها ما سُميّ حينها، وفي سنوات ما بعد هزيمة ٦٧ «بقضية المجتمع المفتوح»، وقد  وشاركه، من موقع الدراسات الأدبية النقدية أساتذة كبار مثل الدكتور «لويس عوض» ناقداً نظام التعليم المصري، مِقارناً إياه بنظام التعليم الفرنسي، ومُتحدثاً عن «الاشتراكية والأدب» وعارضاً لمعضلة التحول الاشتراكي في مجتمع يُعاني من مشكلات الحرية في التعبير الأدبي والبحث العلمي.

أما الدكتور «حسين فوزي» فقدم لنا عمله الخالد «سندباد مصري» ليضعنا أمام قراءة جديدة ومنهج جديد لقراءة تاريخ الوطن، الى الحد الذي وصفه المفكر الكبير «أنور عبدالملك» في كتابه «مصر: مجتمع جديد يبنيه العسكريون» بأنه أهم وأخطر كتاب في النصف الثاني من القرن العشرين من تاريخ مصر.

د. حسين فوزي

واذا كان كتاب «حسين فوزي» عَلى هذا النحو الخطير، بوصف الدكتور «عبد الملك» فان الفيلسوف الكبير الدكتور «زكي نجيب محمود» حاول أن يستكمل ما بدأه صديقه «حسين فوزي» وإن كان عَلى صعيد فلسفي واجتماعي، لا تاريخي سياسي، فجاء كتاباه «قصة عقل» و«قصة نفس» كأكمل صورة وأعظم بيان لتكامل حوار فلسفي وتاريخي بين قمتين كبيرتين. ولم يكتف الدكتور «زكي» عند هذا الحد ، فقد استكمل عمليه السابقين، وهما في الأصل سيرة ذاتية، بكتابيه الخطيرين «مجتمع جديد أو الكارثة» و«تجديد الفكر العربي».

أما المؤرخ الاسلامي «حسين مؤنس» صاحب موسوعة «قريش» فلم يترك البيروقراطية المصرية في حالها، فكتب رائعته الروائية «ادارة عموم الزير» ساخراً  فيها من الدور التخريبي الذي تقوم به هذه الفئة من الموظفين التقليديين الذين لا يدركون معنى الحضارة والحداثة والتقدم.

عبد الناصر وأزمة الثورة

وبعد ذلك كتب «الخولي» بالمشاركة مع صديقه المخرج الكبير «يوسف شاهين» فيلمهما المُشترك «العصفور» والذي ناقشا فيه ما يمكن تسميته بأزمة الثورة والثوار، وبناء الاشتراكية بدون اشتراكيين. وهي بنص كلمات «عبد الناصر نفسه» الذي كان الناقد الأول لتجربة الثورة والسلطة، فقد حّذر من خطر الثورة المضادة عند منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي، مُحدداً جوانب النجاح وبعض أوجه الفشل: «نجحنا في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وفشلنا في إدارة مستشفى القصر العيني».

ولم يكن الاستاذ «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير الأهرام الأشهر وصديق عبد الناصر، بعيداً عن تلك التحولات، فكتب في مطلع الستينيات وقبل صدور «الميثاق» عن «أزمة المثقفين» وبعد النكسة كتب عن «المجتمع المفتوح وأزمة التنظيم السياسي الواحد وزوار الفجر»، فضلاً عن كتاباته النقدية الحادة التي تناول فيها جوانب الإخفاق والفشل في حرب يونيو ٦٧ بجرأة وعنف، ومن المرجح أن فكرتها  قد نشأت نتيجة حوار مع الرئيس عبد الناصر شخصيا.

وفي الوقت نفسه شارك الأستاذ «أحمد بهاء الدين» في تلك المعركة، فقد أعاد نشر كتابه الرائد «اسرائيليات» المنشور في عام ١٩٦٥ تحت عنوان جديد وهو «اسرائيليات وما بعد العدوان» وألحقه بكتاب «اقتراح دولة فلسطين» في عام ٦٨، ثم أتبعهما بكتابه «ثلاث سنوات» وهو تأريخ سياسي واجتماعي بل وعسكري لحرب الاستنزاف العظيمة. لكن من المهم الإشارة هنا الى الكتابات الطليعية والتحديثية، نشرها الاستاذ «بهاء» عندما كان رئيساً لمجلس ادارة مؤسسة الهلال في سنوات الستينيات، وهي رصد  للتحولات الاجتماعية التي يتعين على الثورة أن تتعاطى معها بالتقدم العلمي والتكنولوجي. فقد كتب سلسلة مقالات صدرت بعد ذلك في كتابين هما «هذا العالم» و«اهتمامات عربية». وقد كانت سلسلة المقالات هذه تحت عنوان جميل لم أنسه أبداً، هو «الكلامولوچيا والتكنولوجيا» وكان يقصد هنا أن ً «إحنا بتوع الكلامولوچيا، والعالم المتقدم هُما بتوع التكنولوجيا».

وعلى نفس النهج ولكن من منظور فلسفي ماركسي، كتب الأخ الحبيب والصديق الراحل الاستاذ «محمد سيد أحمد» سلسلة دراسات في صفحة الرأي بالأهرام ومجلة الطليعة اليسارية، كان عنوانها «أزمة الأيدولوجيا وآفاق التكنولوجيا» وكان نقدا رائدا وشجاعا ً للتجربة المصرية في التحول الاجتماعي.

اقرأ أيضا:

ثم يدخل العبقري «جمال حمدان» الميدان، فيكتب في الشهور الأخيرة من عام ١٩٦٧، عام الهزيمة، رائعته «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان» كاشفا عن المعدن الأصيل للشخصية المصرية، غير أنه تحدث عن قضية أساسية وخطيرة هي معالم التغيير الاجتماعي في مجتمع نهري، وهو الموضوع الذي لفت نظر واهتمام طائفة من المفكرين  الماركسيين المصريين وغير المصريين، عن موضوع «النمط الآسيوي للإنتاج»، أو مايسمى «الإقطاع الشرقي» وقد كتب وأسهم في ذلك نخبة من مفكري مصر والعرب، منهم «فؤاد مرسي وسمير أمين وأحمد صادق سعد وإسماعيل صبري عبد الله» و«مهدي عامل وحسين مروة» اللبنانيان و«صادق جلال العظم» و«جورج طرابيشي» السوريان.

حركة ثقافية ناهضة

 وإذا اكتفينا بإطلالة سريعة على تلك الدوريات الفكرية والثقافية التي واكبت سنوات التحول إلى الاشتراكية، لأدركنا قيمة ومعنى الإنجاز الثقافي للثورة. فقد ُكلف الأستاذ «لطفي الخولي» بإصدار مجلة «الطليعة» لتكون منبراً لليسار المصري، وتحديداً اليسار الماركسي، في الوقت الذي صدر عن نفس المؤسسة الصحفية، أي مؤسسة الأهرام، وفي زمن الأستاذ «هيكل» دورية ربع سنوية علمية وأكاديمية، تختص بشؤون الصراعات الدولية، وهي مجلة «السياسة الدولية»، وكان يترأسها مفكر ليبرالي كبير هو الدكتور «بطرس غالي».

وقد شهدت الفترة التي تولى فيها وزارة الثقافة الدكتور «ثروت عكاشة»، والذي يعد أهم وزير ثقافة في تاريخ مصر، صدور مجموعة من الإصدارات الثقافية والسياسية المهمة، كان منها مجلة «الكاتب» برئاسة الأستاذ «أحمد عباس صالح» لتكون المنبر المواجه لمجلة «الطليعة اليسارية» أو تحديداً استكمالاً لاجتهادات الطليعة، بينما كّلّف في الوقت نفسه الدكتور «زكي نجيب محمود» ويعاونه زميله وتلميذه الدكتور «فؤاد زكريا» بتأسيس وإصدار أول مجلة مصرية وعربية تناقش قضايا الفكر الفلسفي بكافة مدارسه، وهي مجلة «الفكر المُعاصر» لتلقي الضوء عَلى تلك العلاقة الغامضة والمُعقدة، بين الفلسفة ومجتمع يمر بمرحلة تحول اجتماعي شامل وخطير.

ولم تتوقف خارطة الثقافة وذلك الزخم الفكري والفلسفي عند هذا الحد، فى وطن يسعى للتحول، ويطمح إلى بناء «مجتمع الكفاية والعدل». فكان تطوير ما يُعرف الآن بالخطاب الديني، هدفاً لمؤسسة الأزهر العريقة، وشيخها في ذلك الوقت الدكتور «محمود شلتوت» صاحب ومؤسس «هيئة التقريب بين المذاهب الاسلامية»، فقد صدر عن «مجمع البحوث الاسلامية» في عهده أمهات الكتب والدوريات الإسلامية، و منها، أعمال رائدة مثل «الاشتراكية في الاسلام» للعلامة السوري الشيخ «مصطفى السباعي» وكذلك البحث الرائع «العسكرية الإسلامية» للفريق الركن «محمود شيت خطاب» ابن العراق الشقيق، فضلاً عما كانت تحمله وتنشره دورية الأزهر «منبر الاسلام» والتي قدمت اجتهادات كبار العلماء في الفقه الاسلامي، سواء مصريين أو من عموم العالم الإسلامي.

  لقد كانت ثورة يوليو  إنتصارا  لطبقات ظُلمت وقُهرت عبر عقود وعهود طالت وامتدت، فجاءت تلك الثورة لتفتح آفاقا للتحرر. كانت هذه الثورة قبل وبعد إندلاعها وخلال وبناء دولتها، تتويجاً لدعوة قادة الفكر وأعلام الإصلاح. فسارت في رفقة الفكر والأدب والإبداع، وحافظت على قوة «مصر الناعمة» وطورت من وسائلها وأدواتها ورجالها، وأضافت الى نخبتها المثقفة، عشرات الملايين من المثقفين والمتعلمين والعلماء والباحثين. فمع الثورة، تحققت دعوة طه حسين في كتابه الرائد «مستقبل الثقافة في مصر» حيث دعا في ثلاثينيات القرن الماضي إلى أن يكون «العلم ضرورة للمواطن المصري، كضرورة: الماء والهواء للإنسان».

رحم الله جمال عبدالناصر ورفاقه من قادة الثورة ورجالها.. أما قادة الفكر وأمراء الكلمة، فقد تركوا لنا ما نُفاخر به الأمم من إبداع صادق ونقد بناء، كان هادياً ومُرشداً للثوار في كل زمان ومكان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock