رؤى

قصة (الطليعة) بين ناصر وهيكل وخالد والخولي

عندما صدرت مجلة الطليعة اليسارية عن مؤسسة الأهرام في يناير عام ١٩٦٥ برئاسة الأستاذ ” لطفي الخولي ” كان ذلك الإصدار حدثاً كبيراً له أكثر من معنى …

فتلك المجلة الفكرية والسياسية الرائدة كانت تُعبٍرّ عن اليسار المصري بمعناه الماركسي ، مِمَّا يعني بداية مرحلة جديدة من التفاعل الخّلاق بين الفصائل والقوى الوطنية ، تلك القوى التي تتحالف في إطار تنظيم سياسي واحد ، هو الإتحاد الإشتراكي العربي ، وفي القلب منه ما يُعرف بالجهاز السياسي ، كما جاءت صيغته في ” ميثاق العمل الوطني ” الصادر في مايو ١٩٦٢ ، أو ماعُرف بعد ذلك ب ” التنظيم الطليعي ” والذي كان يضُم في صفوفه شخصيات وطنية تتعدد انتماءاتها السياسية والفكرية ، من فلاحين وعمال ومثقفين وعناصر من الرأسمالية الوطنية …

كيف أُسست الطليعة؟

الحديث في هذا الموضوع يطول وتتشعب تفصيلاته ، غير أنني أتوقف عند رأي الأستاذ ” خالد محيي الدين ” في تجربة انشاء مجلة الطليعة التي استضافت ذلك الحوار المُهم بين الأستاذ ” توفيق الحكيم ” وتلك الصفوة الرائعة من مفكري اليسار المصري بتنويعاته المختلفة …

خالد محي الدين
خالد محي الدين

التجربة بدأت بإنشاء صفحة ” الرأي ” في جريدة ” الأهرام ” المصرية في زمن رئاسة الأستاذ ” محمد حسنين هيكل ” لتلك المؤسسة الثقافية والصحفية العريقة …

وتم تكليف الأستاذ ” لطفي الخولي ” بتلك المهمة الخطيرة ، بعد أن أقنعه الأستاذ” هيكل ” بترك مهنته ك ” محامٍ ” والعمل في المؤسسة التي يرأس مجلس ادارتها ، فضلاً عن رئاسة تحريرها …

وبعد نحو عامين من تلك التجربة الثّرية ، واستكتاب العشرات من خيرة مفكري الوطن في كافة قضايا التحول الإشتراكي ، بات من الضروري إصدار منبر فكري وسياسي مُستقل لليسار المصري ، وخصوصاً ذلك التيار السياسي والمذهبي الذي مّرّ الكثير من عناصره وقياداته بتجربة تنظيمية ثرية ومتنوعة ، فضلاً عن تجربة ” الصدام في الظلام ” بين ثورة يوليو  والتنظيمات الشيوعية ، عَلى حد تعبير مُفكرنا الكبير ” أنور عبدالملك ” رحمه الله …

كان الأستاذ ” خالد محيي الدين ” قريباً من تلك التجربة ، فقد كتب أكثر من دراسة في صفحة الرأي بجريدة الأهرام ، وتوسع في تلك التجربة الفكرية والثقافية مع صدور ” مجلة الطليعة ” حيث كانت رؤيته تجمع ما بين التفسير اليساري المُعتدل ، والتجربة العملية في العمل الوطني ، خاصة في ظل  موقعه البرلماني كعضو  في أول برلمان بعد الثورة ، ثورة يوليو ، وهو مجلس الأمة ، فضلاً عن رئاسته لمجلس ادارة مؤسسة ” أخبار اليوم ” في منتصف الستينيات من القرن الماضي ، ومن قبلها تأسيسه لجريدة ” المساء ” الصادرة عن مؤسسة التحرير ، في السادس من أكتوبر لعام ١٩٥٦ …

الطليعة
مجلة الطليعة

لكن الموضوعية التي كان يتصف بها الأستاذ ” خالد ” في الحُكم على الأشخاص ، أو التجارب الإنسانية ، سواء السياسية والحزبية ، هي ما أثارت اهتمامي بل وحبي الشديد له ، فهو يرىّ في القدرات الفكرية والنظرية للأستاذ ” لطفي الخولي ” رغم أنه لم يكن من تلاميذه ، ما يؤهله لأن يكون أفضل رئيس تحرير في مصر ، وربما في الوطن العربي كله ، لمجلة فكرية وسياسية ونظرية يسارية ، فالذين عملوا معه تعددت توجهاتهم السياسية اليسارية ، ولم يكونوا من تيار سياسي واحد في الحركة الماركسية المصرية ، فضلاً عن فتح صفحات المجلة التي كانت تصدر في نحو مائتي صفحة لكثير من الأقلام العربية والمصرية التي لم تكن بالضرورة تتفق معه في الرأي أو الإتجاه ” !!

ويذكر الأستاذ ” خالد ” بكثير من الإحترام أكثر من تجربة وخطوة رائدة لدور ” لطفي الخولي ” والفريق الذي عمل معه ، وكان أشهرها وأهمها ، استضافة المفكر الفرنسي الكبير ” روچيه جارودي ” عندما كان المُنظر الأول للحزب الشيوعي الفرنسي وعضواً في مكتبه السياسي ، وزميله المستشرق الكبير ” ماكسيم رودنسون ” ، فضلاً عن دعوة أبرز المفكرين السوفييت ، أصحاب الرؤية التجديدية في الفكر الإشتراكي ، وكان أبرزهم ” أوليانو فيسكي ” صاحب نظرية ” التطور اللارأسمالي والأكاديمي والصحفي والسياسي السوفيتي الكبير ” يفيچيني بريماكوف ” وغيرهم وغيرهم …..

ولم يقف دور مجلة ” الطليعة ” ولا ” لطفي الخولي ” عند هذا الجهد النظري والفكري والفلسفي ، بل أضاف للسياسة العملية العربية الكثير ، فهو أول من فتح صفحات ” الطليعة ” لعشرات من الكُتّاب والمؤرخين والمناضلين والشعراء والأدباء الفلسطينين للحديث عن قضيتهم ، ودور المقاومة الفلسطينية المُسلحة في خلق ” الهوية الفلسطينية ” خصوصاً بعد هزيمة يونية ٦٧ ….

لقاء ناصر وعرفات..ودور الخولي

بيد أن أهم خطوة رآها الأستاذ ” خالد ” في الدور السياسي العملي للأستاذ ” لطفي الخولي ” تجاه القضية الفلسطينية هو قيامه بترتيب اللقاء التاريخي بين قيادات حركة فتح والرئيس ” جمال عبد الناصر “. !!

ويُلقي الأستاذ ” خالد ” الضوء عَلى تلك الخطوة التاريخية التي جمعت ما بين حركة مقاومة مسلحة والدولة المصرية :

” كانت المعلومات المتوفرة لدىّ أجهزة المخابرات ، بأن هذه الحركة التي انطلقت في الأول من يناير ١٩٦٥ هي حركة تابعة للإخوان المسلمين ، مما جعلها موضعاً للشك من الدولة المصرية ، غير أن صمود تلك الحركة المسلحة في وجه الجيش الإسرائيلي خلال معركة ” الكرامة ” وبالتعاون مع الجيش الأردني في يوم ٢١ مارس ١٩٦٨ ، قد قّرّبّ بين الجانبين ، وبدت الفجوة القائمة بين الطرفين ، تحتاج الى من يُقيم الجسور بينهما ، ولم يكن لطفي الخولي ، سوى هذا الرجل ” !!

كانت ثمة علاقة وطيدة ، نجح ” لطفي الخولي ” في نسجها في وقت مُبكر مع ” ياسر عرفات ” الطالب السابق في كلية الهندسة جامعة القاهرة ، ورئيس اتحاد الطلاب الفلسطينين في مصر ، والذي كان يعرفه الأستاذ ” خالد ” عندما عمل مُدرساً مُنتدبا من الجيش للتدريب العسكري في جامعة القاهرة قبل قيام ثورة يوليو ، وعرفه الأستاذ ” خالد ” فيما بعد أيضا  بتطوعه في كتائب الحرس الوطني المصري أثناء العدوان الثلاثي عَلى مصر في سنة ٥٦ ، باسم ” عبدالرؤوف القدوة ” …..

كانت رغبة ” عبدالناصر ” في تلك الفترة التي أعقبت عدوان يونية ٦٧ في بناء ما يُعرف وقتها بالجبهة الشرقية التي تضم العراق والأردن  وسوريا ، كانت هدفاً كبيراً ، يّشغل  كل تفكيره ، وبعد بروز حركة المقاومة الفلسطينية عَلى تلك الصورة المُبهرة أثناء معركة الكرامة ، بدا اللقاء بتلك الحركة أمراً حتمياً ” !!

لطفي الخولي وناصر والسادات وهيكل سنة 1969 أثناء زيارة ناصر لمبنى الأهرام واجتماعه بمحرري مجلة الطليعة
لطفي الخولي وناصر والسادات وهيكل سنة 1969 أثناء زيارة ناصر لمبنى الأهرام واجتماعه بمحرري مجلة الطليعة

يقول الأستاذ “خالد”:

” طلب الرئيس من هيكل ترتيب هذا اللقاء دون الإعتماد عَلى أجهزة الدولة المصرية ، وبدوره وجّدّ ” هيكل ” في ” لطفي الخولي ” الرجل القادر عَلى إنجاز تلك المهمة ، فالعلاقة التي كانت تجمع ، ” لطفي الخولي وهيكل ” قد تّشكلت منذ زمن صفحة الرأي في الأهرام  ، والثقة بين الرجلين كانت تزداد رسوخًا مع الأيام ، وقد تحقق الهدف ، وتم ترتيب ذلك اللقاء الأول بين الرئيس ، وقيادة حركة فتح ، وفي بيت الرئيس في منشية البكري ، كان اللقاء الذي ضم بجانب الأستاذ هيكل كُلاً من ” عرفات وصلاح خلف وفاروق قدومي ، وخالد الحسن وهايل عبد الحميد ” .

ويضيف:

”  لقد زارني لطفي في البيت في مساء هذا اليوم وكانت سعادته بالغة ، وتفاؤله بنتائج هذا إللقاء يصل الى عنان السماء ، كان يرىّ في هذه الخطوة الطريق الوحيد لحماية المقاومة من اسرائيل وأمريكا والرجعية العربية ، بل حمايتها من بعض الحسابات الحزبية العربية الضيقة ، وتحديداً البعث العراقي ، وحزب البعث السوري الّلذين كانا في حالة صراع سياسي وحزبي  عنيف ، فضلاً عن دور مصر وعبد الناصر شخصياً في حماية الثورة الفلسطينية الوليدة ، من نفسها ” !!

صوت الثورة

وعودة الى ظروف تأسيس مجلة ” الطليعة ” في نهاية عام ١٩٦٤ ، فقد فوجئت من حديثي مع الأستاذ ” خالد ” بتلك المعلومة البالغة الأهمية التي تُحسب لذكاء الأستاذ ” الخولي ” ووعي الرئيس ” جمال عبد الناصر ” ، ودور الأستاذ ” هيكل ” !!

فوفق ما أكده الأستاذ ” خالد ” : ” أن ” لطفي الخولي ، قّدمّ  مشروع المجلة بالتدارس مع ” هيكل ” قبل أن يذهب الأخير للإلتقاء بالرئيس ، غير أنه اقترح أن يكون ترخيص إصدار المجلة باسمه ، أي اسم ” لطفي الخولي ” ولا تّصُدر باسم مؤسسة الأهرام ، تلك المؤسسة التي يتوقف دورها فقط على طبع تلك المجلة ، وتوفير مكان لمحرريها في داخل مبنى الأهرام ، ولا  دخل لإدارة المؤسسة في الرقابة التحريرية عَلى ما ينشر في صفحاتها ” …

وعندما عّرضّ الأستاذ ” هيكل ” مشروع المجلة عَلى ” عبد الناصر ”  بادره الرئيس بالسؤال :

” لماذا لم يطلب بطرس غالي ، والذي تقترح أن يكون رئيساً لتحرير مجلة ” السياسة الدولية ” والتي من المقرر أن تصدر كل ثلاثة شهور من مؤسسة الأهرام في نفس التاريخ ، أي الأول من يناير من العام القادم ، يناير ٦٥ أن يتحدث أو يقترح ، نفس المطلب الذي اقترحه ” لطفي الخولي ” ؟؟

فأنا أوافق عَلى حقه في الإضطلاع بمهمة التحرير ، ولا دخل للمؤسسة في تلك المهمة ، وحقه في اختيار من يعمل معه ، وحقه في ضرورة توفير مكان لهيئة التحرير ، لكن لماذا يطالب بحقه في صدور المجلة باسمه ، لا باسم المؤسسة ” ؟ !

كان رد الأستاذ ” هيكل ” عَلى هذا النحو ، وهو ما أكده لي الأستاذ ” لطفي ” فيما بعد ، غير أنني أعتمد عَلى شهادة الأستاذ ” خالد ” :

” لطفي الخولي أقام وجهة نظره ، يا فندم ، عَلى ضرورة الفصل بين ما يصدر عن الأجهزة الرسمية للإعلام المصري ، من صحافة وتلفزيون وإذاعة وهيئة الإستعلامات ، وحتى مكاتب وزارة  الخارجية ، وما يصدر عن الثورة ، الثورة المصرية !!

فالقيود والإلتزامات الدولية تُفرض بصورة أو أخرى عَلى مؤسسات الدولة ، بينما صوت الثورة ينبغي أن يكون مُتحرراً من أية قيود ، فإذا كانت الدولة هي ” الإنجاز ” بشروط وقيود ، فان الثورة هي ” الْحُلْم ” الذي ينطلق بعيدا لا تمنعه حواجز ، أو تُكبل حركته التزامات إقليمية أو حسابات دولية ” !!

ذلك ما قاله ” هيكل ” للرئيس ، بيد أنه حجب عن ” عبدالناصر ” ما رَآه تجاوزاً ، لا يليق ، فقد قال ” لطفي الخولي ” له ” … يا أستاذ هيكل ، كل التحولات الإشتراكية التي تجري في البلد مرهونة بالرجل ، فما العمل اذا مات عبدالناصر ” . !!

مّرت سنوات ، ووقع الصدام المُنتظر بين الدولة والثورة ، فبعد أن منح عبدالناصر ، ل” لطفي الخولي ” حق إصدار مجلة الطليعة باسمه ، أصدر الرئيس ” السادات ” أمراً باغلاق مجلة الطليعة بعد أن تصدت بشجاعة ورجولة وبروح ثورية عظيمة لحملة الدولة المصرية وأجهزة اعلامها الرسمية بل والرئيس ” السادات ” نفسه في تشويه ” ثورة الخبز ” المصرية !!

فقد أطلق السادات  على  الإنتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧ ، كل الإتهامات والإفتراءات المؤسفة ، بل وأسماها ب ” انتفاضة الحرامية ” !!

أُغلقت المجلة ، وصار اسمها ” مجلة الشباب ” بعد أن كانت ” طريق المناضلين الى الفكر الثوري المُعاصر ” !!

ولأن ” لطفي الخولي ” كان يملك في سترة بدلته ترخيصاً باسمه لإصدار ” الطليعة ” مرة أخرى ، ولا يملك أحد  أن يمنعه ، فقد أعاد الإصدار الثاني للمجلة كأنها العنقاء ” التي تّنّهض من الرماد   فقد أعاد إحياءها  من جديد ، أعاد إصدارها من جيبه الخاص ، ومن تبرعات عشرات المناضلين ، وكان أولهم ” خالد محيي الدين ” الذي انتصر للثورة ، سواء كانت ثورة يوليو ، أو لمطبوعة فكرية وثقافية وسياسية كانت بحق ” طريق المُناضلين الى الفكر الثوري المعاصر.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock