يرى المفكر الأمريكي «نعوم تشومسكي» الكيان الصهيوني نظامًا تدميريًا سواء لنفسه أو لكل من يقف أمام خططه في التوسع. ورغم من انحداره من عائلة يهودية، ورغبته في إحدى فترات حياته في الاستقرار في إسرائيل، إلا أن تشومسكي لم يتحمل ما رآه من عنصرية هناك.
ونظرًا لخطورة وتأثير الكيان المحتل ليس فقط على منطقة الشرق الأوسط وإنما العالم كله، نخصص هذا الجزء الثالث والأخير من قراءتنا لحوارات تشومسكي مع الإعلامي البارز ديفيد بار ساميان ضمن كتابه الذي صدر مؤخرا، لتحليل اراء وموقف تشومسكي من السياسات الإسرائيلية والخطط الممنهجة لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، والسر وراء الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، وانعكاس كل ذلك على مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
نعوم تشومسكي دايفيد بارساميان
إستراتيجية الاحتلال
وفقًا لـ «تشومسكي» فإن هناك خيارين أمام الاحتلال الإسرائيلي، إما القبول بحل الدولتين وفقًا للحدود الدولية المتفق عليها، أو استمرار إسرائيل – بمساعدة الولايات المتحدة – في السياسة المتبعة حاليا، حيث تفرض أمرا واقعا على الأرض بشكل تدريجي وهادىء دون الحديث عن خططها. ففي البداية فصلت غزة عن الضفة الغربية، على الرغم من خرق ذلك لاتفاقيات أوسلو، ولكنها كانت خطوة هامة جدًا لعزل أي حكومة مستقلة في الضفة الغربية – حتى وإن كانت محدودة – عن العالم الخارجي.
اقرأ أيضا:
سخط عالمي وديمقراطية في خطر (1): تشومسكي: السياسات الأمريكية أكبر آلة لانتاج الإرهاب في العالم via @aswatonline https://t.co/uDixI8foMO
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 18, 2019
ومع إبقاء غزة تحت حصار قاس، وسيطرة الاحتلال على وادي الأردن، تضع إسرائيل يدها كل عدة أيام على قرية جديدة وتحفر المزيد من الآبار مع تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وتدريجيًا وببطء سوف يسيطر الكيان الصهيوني على أكثر من 40% من المنطقة المتبقية خارج سيطرته، وحينها تكون إسرائيل قد قضت على العائق الوحيد أمام إقامة دولة واحدة وهي «المشكلة الديموغرافية» كما يطلقون عليها، وتعني وجود أعداد كبيرة من الفلسطينيين داخل تلك الدولة مما يجعلهم أغلبية، أما إذا استمرت خطة الاحتلال الممنهجة بنفس الوتيرة فسوف يكون هناك عدد محدود جدًا من الفلسطينيين في المساحات الشاسعة الخاضعة لسيطرة الاحتلال، ومن سيبقى من العرب سيكونون موزعين في أماكن متفرقة، مما سوف يضمن هوية الدولة اليهودية.
العلاقات الوثيقة مع أمريكا
يرى «تشومسكي» أن العلاقة المتأصلة ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل توطدت بالأساس لأسباب جيواستراتيجية، فضلًا عن العلاقات الإسرائيلية الوثيقة بالجيش والاستخبارات الأمريكية، ويستشهد «تشومسكي» على ذلك بأحد تسريبات «ويكيليكس» التي عرضت قائمة بالمواقع الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وكانت واحدة منها شركة «رافائيل لأنظمة الدفاع المتقدمة» ومقرها حيفا، حتى أنها من من قوة روابطها بأمريكا نقلت لاحقًا مقرها المركزي في واشنطن لتصبح أقرب لمصادر التمويل.
فضلًا عن ذلك يهتم المستثمرون الأمريكيون بإسرائيل اهتمامًا كبيرًا باعتبارها بالنسبة لهم، واحدة من أكبر مواقع الاستثمارات خارج الولايات المتحدة، حيث أسست – على سبيل المثال – شركة «إنتل» العملاقة مصنعًا في الأراضي المحتلة لتطوير أجيال جديدة من الرقاقات مستثمرة مليارات من الدولارات، وإضافة لذلك يوجد أيضًا روابط ثقافية بين البلدين، حيث تتوافق فكرة قيام إسرائيل مع المعتقدات الدينية لطائفة الصهاينة المسيحيين خاصة الإنجيليين الذين يشكلون جزءًا أساسيًا من قاعدة الحزب الجمهوري الأمريكي.
اختلال ميزان القوة
يرى أيضًا «تشومسكي» أن الدول الثلاث الأكثر دعمًا لإسرائيل (وهى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا) تُعد جميعها دولا استعمارية استيطانية بالأساس نجحت في إبادة السكان الأصليين واستعمرت بلدانهم، لذا فما يفعله الكيان الصهيوني يبدو متماشيًا مع تصورات هذه الدول القومية. وبالطبع ففي مقابل هذا الدعم تقدم إسرائيل خدمات ثانوية لأمريكا، كما أن تلك العلاقة تعني بطبيعة الحال أنه أينما تحط أمريكا بقدميها في أي مكان فإن على إسرائيل أن تطيع.
اقرأ أيضا:
سخط عالمي وديمقراطية في خطر(2): من هم حكام أمريكا الحقيقيون؟ via @aswatonline https://t.co/F046GozB3H
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 28, 2019
لكن مقابل ذلك تحصل إسرائيل على دعم غير مشروط من الولايات المتحدة، حيث تدعمها ماديًا بثلاثة مليارات دولار سنويًا، إضافة إلى الدعم الدبلوماسي باستخدامها لحق الفيتو في مجلس الأمن لحماية الكيان المحتل، وهو ما يعني أن إسرائيل تفعل كل ما يحلو لها حتى وإن اعترض العالم أجمع، فقط لأن أمريكا تدعمها، وإذا اعترض أحدهم فالاتهام حاضر بأن من يفعل ذلك معادٍ للسامية، على الجانب الآخر يفتقر الفلسطينييون لكل أشكال الدعم، فلا لديهم ثروات، ولا قوة، ولا حتى دعم من الدول الأقوى، وبالتالي فلا حقوق لهم ولا قدرة على مجابهة المغتصب.
التوسع على حساب الأمن
ولكشف النوايا الإسرائيلية الخبيثة عاد «تشومسكي» بالزمن إلى سنة 1971 حينما عرض الرئيس الراحل «أنور السادات» إقامة معاهدة سلام شاملة مع إسرائيل في مقابل الانسحاب من سيناء، إلا أن الكيان الصهيوني رفضها لطموحاته الكبيرة وقتها لاستيطان وتنمية سيناء من خلال بناء مدن يهودية وتهجير البدو من مساكنهم، حيث أعطى الصهاينة الأولوية للتوسع ولو على حساب أمنهم، على الرغم من أن معاهدة كتلك مع مصر التي كانت تعتبر القوة العسكرية الوحيدة في العالم العربي يمكنها أن تمنح إسرائيل أمنًا تامًا.
أنور السادات
ومن وقتها وعبر التاريخ فالسياسة الإسرائيلية واحدة وهي التوسع قدر المستطاع ورفض كل الحلول الدبلوماسية، وهو ما يجعل الكيان الصهيوني ينعزل أكثر فأكثر، ولكن هذا لا يعنيه بالمرة طالما أن الولايات المتحدة مستمرة في دعمه، وكلاهما سعداء بمشاهدة العرب يقتلون بعضهم البعض في سوريا والعراق واليمن وغيرها، إضافة إلى تعميق الصراع السني الشيعي، وهو ما يمزق المنطقة بأكملها، دافعًا بالدول الضعيفة لتصبح أكثر هشاشة، مع تحقيق المزيد من القوة للطرف الأقوى، وهو مشهد مؤسف يهدد الديمقراطية بطبيعة الحال في منطقة الشرق الأوسط، ويدق ناقوس الخطر بالنسبة لمستقبل الأجيال القادمة في تلك المنطقة.