نتوقع -ونرى- تراجعًا، في المدى القريب، في مشهد الإرهاب المعولم، على مستوى القدرات والجاذبية، لكن لماذا؟ ليس فقط لفعالية الحرب الدولية على الإرهاب وتجفيف روافد التحريض عليه، التي تشارك فيها مختلف دول العالم شرقًا وغربًا؛ لكن أيضًا لأزمات بنيوية عميقة تخترق جسد الإرهاب بتشكلاته وتنظيماته وأفكاره على السواء، فَقَدَ فيها بوصلة العدو البعيد والعدو القريب معًا، وتحولت صراعاته البينية لتكون ملمحًا أكبر لتحركاته، ربما باستثناء شكله الطائفي -القُطري- والطائفي المدعوم بشكل خاص من إيران الذي تستثنيه هذه الحرب الدولية على الإرهاب من استراتيجياتها.
لكن يبقى الإرهاب المعولم مأزومًا، خاصة ممثّلَيْه الكبيرَيْن «داعش» و«القاعدة»، وهو ما يتضح في تراجع معدل عملياته، وكذلك في شتات خطابه وجاذبية أفكاره وحضوره.
ورغم أزمات العالم الكثيرة، دوليًّا وإقليميًّا ووطنيًّا، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، والتي مثلت في الماضي فضاء متاحًا تتحرك فيه التنظيمات المتطرفة والعنيفة لتطرح أيديولوجيتها وشعاراتها بديلًا لما هو قائم، وتمارس التجنيد على أساسها؛ إلا أن أزمة هذه التنظيمات المختلفة صارت أعمق من هكذا توظيف، أزمة تفقد معها البريق والجاذبية والحضور، بل والحفاظ على ما هو قائم، وفقدانه بشكل كبير في المدى القريب.
الصراع على التطرف.. بينيًّا وداخليًّا
تتصاعد الخلافات داخل التنظيمات المتطرفة صراعًا على التوجهات، والتي تتجلى في خلافات الشباب والشيوخ التي وصلت لدرجة الفضائحية والاتهامات المتبادلة داخل جماعة كالإخوان المسلمين، التي أسقطتها التجربة ويجمدها الجمود النظري المستمر منذ أكثر من ثمانين عامًا، مع أدبياتها التأسيسية الأولى التي وضعها «حسن البنا» أو الثانية التي وضعها «سيد قطب» في «فكروية» «شعاراتية» عنيفة، لكن الأهم هو حصاد الفشل والتجربة الذي تراجع معه التعاطف من جانب المواطن، ليبقى التأثير إخباريًّا وإعلاميًّا ينشط في العالم الافتراضي بشكل رئيس.
أما ملامح التراجع -في الجانب التنظيمي- في مشهد التطرف العنيف عالميًّا فتتمثل في غياب القيادة والرمز الملهم الذي تجتمع عليه الفصائل المتعارضة والمختلفة، وكذلك في كثرة الانشقاقات والخروجات والصراعات البينية، ونشوء جماعات أخرى جديدة منفصلة عن تيارات الجهادية المعولمة، كما هو الحال في الساحل الإفريقي الذي تنشط فيه «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» بعيدًا عن توجيهات «القاعدة» و«داعش» معًا، رغم أنها تضم بعض الفصائل التي كانت مرتبطة بها.
هذا، فضلًا عن الارتباكات والتوترات التي تعانيها بعض الحركات الجهادية وكثرة تقلباتها، شأن «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقًا) التي تحولت من بيعتها لـ«داعش» إلى «القاعدة»، ثم انفصلت عنها، متحولة في النهاية -حسب بعض التقديرات- لمجرد وكيل لدى الحكومة التركية و«أردوغان» الذي يشترط عليه حليفه الروسي حلها لتنفيذ اتفاق سوتشي إدلب، كما نشرت وكالة الأنباء الألمانية في الأول من سبتمبر الجاري، وهو ما تمكن ملاحظته كذلك بسهولة في المشهد الليبي والدعم القطري والتركي المعلن لبعض الفصائل هناك.
وكما كانت التجربة حصاد الفشل المر لدى جماعة الإخوان، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا، كانت كذلك في مسار «داعش» وخلافتها المرة التي ساعدت على المزيد من النفور لدى الخصوم، والشك والتراجع لدى كثير من المنسوبين إليها، فضلًا عن اشتعال جذوة الغلو بين فصائلها وعناصرها داخليًّا، وفقدانها الكثير من الكوادر والمنظّرين الذين كان من الممكن أن يحصنوها أو يستروها من هذه العورة المكشوفة نظريًّا وعمليًّا. وليس غريبًا أن يفقد تنظيمها ثلاثة أرباع عناصره ومقاتليه خلال العامين الأخيرين فقط حسب بعض التقديرات.
-
القاعدة بعد الربيع العربي.. عِقدٌ من التمدد والخسائر والتطور (2)أكتوبر 23, 2021
-
كيف تعاملت الحركات النِّسْوية مع الإرهابديسمبر 1, 2020
أزمة الرمز و«الظواهري» الذي فقد ظله
وصف أحد نشطاء «داعش» زعيم «القاعدة» الحالي «أيمن الظواهري» في سنة 2015 بقوله: «الرجل الذي فقد ظله»، فلم تعد صورة «الظواهري» (خليفة زعيم «القاعدة» ومؤسسها «أسامة بن لادن» بعد مقتله في أبوت آباد الباكستانية في 2 مايو سنة 2011) ذات أهمية أو دور، وصارت «القاعدة» ومعها مختلف التنظيمات الجهادية بعده بما فيها «داعش» تعاني من أزمة الرمز والقائد محل الإجماع الذي يفض الخلافات ويجمع التوجهات كما كان «بن لادن».
من هنا، يمكن تفهّم رهان «القاعدة» -ثم خسارتها له- في صناعة نجومية «حمزة بن لادن» المولود سنة 1989، ثم مقتله في الأول من أغسطس من العام الجاري 2019، والذي خالف نصيحة والده الممهورة بقلمه ضمن وثائق أبوت آباد، بالاختفاء والتعلم في قطر، لكنه استعجل الحضور الإعلامي لضخ الحياة في تنظيم «القاعدة» واستعادته صدارته لمشهد الإرهاب المعولم، فكان سقوطه قتيلًا في ضربة أمريكية استهدفته بعد خروجه من إيران إلى باكستان.
بفقدان نجل بن لادن المرشح لخلافته، فَقَدَ تنظيم «القاعدة» رهانه للخروج من أزمته باجتماع عناصره والمتعاطفين معه على رمز وقائد جديد ينتسب لأسامة بن لادن زعيم التنظيم ومؤسسه ويستمد شرعيته منه، ويخرج بالتنظيم ومشهد الإرهاب العالمي من أزمته المستمرة وبقوة، فكريًّا وعمليًّا، منذ ثماني سنوات مع قيادة «الظواهري» له، فضلًا عما يُشاع عن شلل «الظواهري» وعجزه عن الحركة والخلافات العميقة التي صعدت مع قيادته بانشقاقات تنظيمات كبرى، كداعش، وأزمة التنظيم وفروعه في مختلف أنحاء العالم، التي انشق بعضها بالفعل عن «القاعدة» مبايعًا «داعش»، أو انفصل كلية عن قيادته المركزية بل وتلاشى بعضها الآخر، أو ذاب في جبهات أخرى كما هو الحال في ليبيا أو سيناء وأحيانًا في سوريا!! ولم يعد يعبر عنه سوى بعض المرتبطين السابقين به لكن دون ارتباط واضح وفعال في استراتيجية واضحة كما كان الحال في مرحلة «بن لادن».
«البغدادي» وترشيح الخليفة
تبدو «أزمة الرمز والقيادة» في تنظيم «داعش» الذي فقد بريقه وجاذبيته، مع استمرار اختفاء واختباء «البغدادي»، وعدم استطاعته ملء الفراغ الذي كان يمثله «أسامة بن لادن» أو حتى «أبو مصعب الزرقاوي» المقتول في عام 2006، ووضوح ارتباكه وأحاديته وخوفه على حياته، فلم يظهر إلا مرتين منذ ظهر اسمه مع إعلان خلافته سنة 2014 وإعلان انتقامه بعد هزيمته سنة 2019، على العكس من «أسامة بن لادن» الذي ظهر واحدًا وثلاثين مرة علنًا يخاطب أنصاره والعالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وتتضح أزمة الرمز والقيادة في «داعش» مثلًا في توجه «أبي بكر البغدادي» لتسمية خليفة ونائب له شبه مجهول وغير معروف في الأوساط الجهادية عمومًا، وهو «عبدالله قرداش»، مما يبشر بمزيد من الانشقاقات والانقسامات داخل التنظيم الذي شهد انقسامات وخروجات وخلافات حادة أيضًا. و«قرداش» هو من تركمان العراق، وكان معتقلًا مع «البغدادي» في سجن بوكا! وقد ألجأ «البغدادي» لتلك الخطوة فقدان التنظيم كثيرًا من مؤسسيه ومنظريه الأوائل خلال السنوات الثلاث الماضية، وفق استراتيجية المطرقة الصلبة التي تستهدف قيادات التطرف العنيف وكبار منظريه.
ورغم واقعية احتمال عودة «داعش» أقوى كما يقول بعض المراقبين الغربيين، مع فرصها في بعض بؤر الأزمات، خاصة ذات الصيغة الطائفية أو الضعف الشديد للدولة المركزية؛ إلا أن التنظيم لا يُتوقع له الحياة والتوسع عالميًّا كما كان في الفترة السابقة، نظرًا لمعاناته من أزمة الرمز والمرجعية العميقة، وغياب القدرة على تحقيق الإجماع الفكري بين المنتمين له، أو الإجماع التنظيمي حال رحيل «البغدادي» في أي وقت.
أزمة الفضاء الديني والأصولي معها
يزيد من أزمة الإرهاب المعولم والقطري معًا، واقع ثقافي ومعرفي عالمي جديد تشكل بعد تجاربها المرة ومعها وهو الثورة المعلوماتية التي تدور بوعي الناس وتستثيره أيضًا. ويمكننا تلخيص هذا الواقع أنه «رغم وجود المقدس وبقائه الأبدي إلا أن نزعة التقديس تراجعت»، وتراجعت معها نزعات التطرف الديني التي نشطت في عقود سابقة.
ونقصد بـ«تراجع نزعة التقديس» الالتحام به والتعاطي مع المقدس عالميًّا، حيث تحول من مكانة التلقي والسمع والطاعة عند الكثيرين إلى مكانة المساءلة والمناقشة، وهو ما ساعد عليه واقع المواقع التواصلية وفعالياتها المدوية في العالم الافتراضي. وقد شجعت أخطاء التجارب الأصولية وخطابها العنيف والمتطرف وحصادها الفاشل المر، في التحام المواطن العادي والمثقف العام بأفكار النقد والمساءلة والتفكيك للمقدس ورفض صبغة القداسة عن كل ما هو إنساني وأيديولوجي، وهو ما يمكن وضعه في سياق تراجع الأيديولوجيات بشكل عام.
كما زاد من واقع تراجع مكانة التقديس للشعارات الأصولية السجال والجدل الديني-الديني والصراع عليه، سواء بين تيارات وتنظيمات وأفكار داخل المذهب أو الطائفة نفسها أو من غيرها. كما زاد منه الانغماس الواقعي في الأزمات الحية بعد الانفصال الشعوري والنفسي والعدائي لتجارب الأصوليين التي خالفت كل شعاراتهم.
ختامًا، نرى أنه لم يعد للتيارات المتطرفة ما كان لها سابقًا، سواء في شكلها القطري أو العنيف، خاصة في إرهابها المعولم، ولم يبق سهلًا تجنيد انتحاريين للقيام بعملية كبيرة كتلك التي كانت في مانهاتن في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 أو في باريس في 13 نوفمبر سنة 2015. كما لم يعد سهلًا أن يقنع شعار مجزوء يتخذ قناعًا بأن جماعة ما ستُصلح العالم وتنال أستاذيته، أو يكون مقبولًا أو سهلًا انسرابه كما كان، فقد أثبتت التجربة السابقة والأحداث الواقعة أن العالم يتجاوز كل ذلك.