ولد الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في العام 194 هجرية وتوفي في العام 256 هجرية، ودّون قبل ألف ومائتي سنة كتابه «الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه»، الذي نعرفه باسم «صحيح البخاري».
ثلاث فرق
من يوم شيوع الصحيح بين الناس وإلى يومنا هذا والكلام عنه لم ولن يتوقف، وقد تفرقت الأمة في النظر للبخاري ولكتابه العظيم إلى ثلاث فرق، فرقة لا شأن لنا بها ترفضه كله، وفرقة لا شأن لنا بها تقبله كله بل تكاد تقدسه، وفرقة ضئيلة تناقش وتحاور وتراجع مع تقديم الاحترام الواجب لرجل عظيم قام بمفرده بما تعجز المؤسسات الكبرى عن القيام به.
الفرقة التي تناقش تدرك جيدًا أن البخاري ليس عابرًا في كلام عابر، تعرف أن الشيخ الإمام هو أحد الذين ولدوا ليعيشوا إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا، فرقة النقاش هذه عليها أن ترفع صوتها حتى يصل لأولي الأمر الذين بيدهم صون صحيح البخاري من عبث العابثين.
تعاني فرقة النقاش من قصة وردت في صحيح البخاري، تقول تفاصيلها: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: «رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ».
انتهت القصة القصيرة جدًا لكنها فتحت بوجودها في البخاري بابًا للطعن عليه لم يغلق. الذين يرفضون البخاري كله وجدوها فرصة سانحة للتشهير والطعن والتقليل من إمام عظيم أنفق كل عمره في جمع وتدوين سنة سيد الخلق، والذين يقبلون بكل ما جاء في البخاري أصبحوا فريقين، فريق يلف ويدور ويعتمد التأويل الثقيل لكي تبتلع الأمة قصة، لن تكفر لو رفضتها، وفريق كان شجاعًا يقدم العلم والعقل على أي اعتبار آخر فرفض القصة دون تشنيع على الشيخ الإمام.
نعم هناك جماعة من العلماء ترفض بعض ما جاء في البخاري، فالحافظ ابن حجر العسقلاني، وهو أعظم وأهم شراح البخاري أحصى الأحاديث التي نقدها العلماء فوجدها 110 أحاديث. وحكم الألباني، وهو من هو، بضعف حديث واحد فقط في صحيح البخاري، هو حديث «نكاح الرسول عليه الصلاة والسلام لميمونة بنت الحارث»، وذكر ذلك تلميذ الألباني أبو اليسر، في تسجيل صوتي منشور على شبكة الإنترنت.
قبل الألباني بقرون كان هناك الإمام الدارقطني، وله كتاب مشهور جداً طُبع وحُقق أكثر من مرة اسمه «الإلزامات والتتبع»، انتقد فيه 199 حديثاً جاءت في الصحيحين، البخاري ومسلم، ما يعني أن نقد البخاري لا يخرج الناقد من الملة، والمطلوب فقط هو النقد المحترم لا السب والقذف الذي يسارع إليه بعض الصغار لستر ضعف منطقهم وقلة علمهم.
قصة عمرو بن ميمون
أعود إلى القصة التي تفتح ومثيلاتها بابًا للطعن على أحد أكابر علماء الأمة فأقول: بطل القصة هو عمرو بن ميمون، أحد التابعين، وبعض العلماء يقول إنه عاصر النبي ولكن لم يره، لذا خرج من جملة الصحابة. عمرو هذا لم يصفه أحد بالكذب وهو شاهد العيان الأول على حادث استشهاد الفاروق عمر بن الخطاب، ولولا شهادته لضاعت تفاصيل الحادثة التي هزت أركان التاريخ الإسلامي.
عمرو هذا الرجل البدوي الذي كان يرعى غنم أهله عندما كان يعيش في اليمن رأى موقفًا فتحدث عنه قائلًا: «كنت في اليمن في غنم لأهلي، فجاء قرد من قردة فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها، فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رفيقا وتبعته، فوقع عليها وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق، فاستيقظ فزعا، فشمها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم».
تلك كانت القصة بتمامها وبلفظ بطلها، فأين الرسول في الأمر كله؟. هذه قصة من القصص، لك أن تقبلها ولك أن ترفضها ولكن في كل الأحوال ليس لك أن تجعلها شبهة تُلقيها على سنة رسولنا الكريم.
الأثر
الأحاديث الشريفة أنواعها كثيرة جدًا، يهمنى هنا التوقف عند الحديث المرفوع، وهو معروف بهذه الصفة نسبة إلى مقام الرسول الرفيع، ومثاله: قال صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا أو رأيته يفعل كذا أو فعلتُ في حضرته كذا، فهل قصة القردة بها شيء من هذا؟. ثم هناك الحديث الموقوف، وهو ما يروى عن الصحابة من أقوال أو أفعال وهو على ثلاثة أقسام: القسم الأول الموقوف القولي مثل قول الراوي، قال علي بن أبي طالب: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله»، القسم الثاني الموقوف الفعلي: مثل قول البخاري: «وأَمَّ ابن عباس وهو متيمم»، القسم الثالث الموقوف التقريري: كقول بعض التابعين مثلاً: «فعلت كذا أمام أحد الصحابة ولم يُنكَر عَلَيُّ»، فهل في قصة القردة شيء من هذا؟.
إن كلام التابعين ـوعمرو بن ميمون منهم، يعرفه أهل العلم باسم الأثر، ولا يُدخله عالم واحد في الأحاديث الشريفة، وقد نقد هذه القصة أو هذا الأثر جماعة من أكابر العلماء، فقد قال عنها ابن عبد البر: «هذا عند جماعة أهل العلم منكر: إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم». وقال الألباني: «هذا أثرٌ منكرٌ، إذ كيف يمكنُ لإنسان أن يعلم أن القردة تتزوج، وأن مِن خُلقهم المحافظةَ على العرضِ، فمن خان قتلوهُ؟، ثم هبّ أن ذلك أمرٌ واقعٌ بينها، فمن أين علم عمرو بن ميمون أن رجمَ القردةِ إنما كان لأنها زنت؟».
وقد أحسن الشيخ الأستاذ أكرم حسن مرسي، فقد فنّد القصة كاملة في كتابه الطيب «رد السهام عن خير الأنام»، فكان مما قاله: «إن هذا الأثر ليس من كلامِ النَّبِيِّ؛ بل هو خبر عن رجل تابعي، وليس من أصحابِ النَّبِيِّ، رأى بعينه ما رأى فحكاه، وكان ذلك في الجاهليةِ (قبل الإسلام) بحسبِ الروايةِ التي تقول: قال عَمْروٌ بْنٌ مَيْمُونٍ: «رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ “فهذا الخبر ليس له علاقة بالإسلام، ولا برسولِ اللهِ وبالتالي: فلا مجال للطعن به على النبيِّ والمسلمين».
باب «القسامة»
وبعد نقد بل نقض القصة الذي قام به علماء أكابر، يبقى السؤال: لماذا أورد البخاري هذا الأثر في كتابه العظيم؟.. الذي يرجع لصحيح البخاري سيجد القصة مروية في باب «القسامة» وكل ما جاء في هذا الباب ليس فيه ذكر اسم النبي تصريحًا أو تلميحًا، فهذا الباب قائم على الآثار فقط. البخاري كان يدون لرجال زمنه الذين كانوا يعرفون أنواع الأحاديث ولا يخلطون بين كلام الرسول والصحابة والتابعين.
ثم هناك من العلماء أمثال القرطبي الذي قال إن البخاري قد أورد هذه القصة ليدلل على أن عمرو بن ميمون عاش في الجاهلية وفي الإسلام، ولم يهتم البخاري إلا بالناحية التاريخية ولم ينظر لمتن القصة. وهذا نص كلام القرطبي: «إن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية، ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية».
والآن ما هو الحل مع تلك القصة ومثيلاتها؟. حذفها من صحيح البخاري جريمة يجب ألا تتم، فلو فتحنا باب الحذف ما بقى لنا شيء، القصة تظل كما هى، لكن تقوم الدولة، وليس غيرها، بإلزام طابعي الصحيح بأن يضعوا في هامش الكتاب نقد العلماء لها، وبهذا يسلم الصحيح من الشبهات التي يلقيها البعض على هذا الكتاب العظيم.