فن

العمدة صلاح السعدنى.. أرابيسك الفن

مع بداية العرض السينمائى لفيلم «أغنية على الممر» فى فبراير عام 1972، نظمت كلية الآداب بجامعة القاهرة ندوة فنية عن الفيلم  حضرها صناعه وأبطاله، وقد كان لافتا أن تتوجه أسئلة الطلاب ونقاشاتهم إلى فيلم « خللى بالك من زوزو » الذى أنتج خلال تلك الفترة، أكثر من توجهها لأغنية على الممر، حيث انهال الطلاب بسهام نقدهم  على « خللى بالك من زوزو » دون أن يناقشوا أو يتعرضوا كثيرا للفيلم موضوع الندوة. كان صلاح السعدنى واحدا من الضيوف الحاضرين باعتباره أحد أبطال الفيلم وخاطبته إحدى الطالبات قائلة: لماذا لا تبدى رأيك وتشارك فى الحوار وتتحدث معنا عن رأيك فى فيلم «خللى بالك من زوزو» ؟ فأجابها بكل بساطة: «لأنكم تتكلمون عن فيلم آخر وعن موضوع مختلف عما جئنا من أجله». فردت عليه الطالبة بقولها: «شكلك خايف تتكلم، فيؤخذ الكلام ضدك، خاصة وأن شقيقك الأكبر محمود فى السجن ». وهنا انتفض صلاح السعدنى ليقول بغضب : مش مسألة خوف.. أنتم خرجتم عن جوهر الموضوع.. المجتمع كله من 67 ولغاية دلوقتى عايش فى كارثة.. التربة غير صالحة، ولابد من قلبها وتقليبها وإعادة غرسها علشان ينبت مجتمع جديد ». وحينما غادر السعدنى إلى بيته جاءه استدعاء من جهات الأمن للتحقيق معه بالتهمة الجاهزة دوما « محاولة أو الدعوة لقلب نظام الحكم

أغنية نبيلة

كان  فيلم «أغنية على الممر» أحد التجليات الناصعة فى تاريخ السينما المصرية.. فهو فيلم لم يأخذ حقه من الذيوع والانتشار والنجاح.. مع أنه استوفى كل مقومات النجاح، غير أنه استوفى بشكل أكبر كل مقومات البقاء والخلود.. هذا الفيلم الذى كتبه علي سالم وأخرجه على عبد الخالق، كان عبارة عن قصيدة شجن سينمائية، صرخة حزن مكتومة لما حدث فى يونيو  67، دفقة دموع نبيلة، ووصلة بكاء شفيفة، أغنية تنبش فى أعماق الإنكسار لتولد من رحمه كل دوافع الانتصار. كان صلاح السعدنى واحدا من أبطال هذا الفيلم، الذى يروى قصة شاويش وأربعة جنود يتولون الدفاع عن ممر جبلى بعد أن فقدوا معظم زملائهم، وفقدوا أيضا الإتصال بقيادتهم، ويبدأ طعامهم وشرابهم وذخيرتهم فى النفاد، فيصرون على الصمود حتى آخر نفس باستثناء واحد منهم «منير» أدى دوره الفنان الراحل صلاح قابيل، كان خائفا وضعيفا ومزعزع اليقين بأن الفجر قادم، وكأنه كان يرمز لفئة من المحبطين الذين كانوا يستبعدون النصر بعد الهزيمة، أما بقية الأبطال الشاويش محمد وشوقى ومسعد وحمدى، فقد كانوا على عهد التضحية والفداء والإيمان بالله والوطن. قام صلاح السعدنى بدور مسعد الشاب الذى يشارك فى الحرب ويرفض الهزيمة، و يتمسك بالنصر، ويعيش مع زملائه الأبطال ما بين الإرادة والعزيمة  والصبر والثبات والاستعداد للشهادة، وما بين استرجاع الذكريات الجميلة فى الحياة المدنية . 

اختراق الحصار

على المستوى الشخصى لم يكن صلاح السعدنى يعيش فى حالة طيبة، كان مهموما بدخول شقيقه الأكبر الكاتب الراحل محمود السعدنى سجون السادات، فقد كان السعدنى الكبير مغضوبا عليه وحبيس السجن، بعد أن قال نكتة مسيئة للسادات عبر التليفون، ومن سوء حظه أن الخط كان مراقبا. وقتها وربما قبلها بسنوات قليلة كان صلاح يعانى كثيرا من تضييق وحصار فنى، لم يكن فقط بسبب موقف السادات من شقيقه محمود، ولكن أيضا بسبب اكتساب السعدنى الكبير، عداوات عدد غير قليل من صناع السينما الذين كان يجلدهم بسوط قلمه اللاذع وهو يكتب زاوية صحفية بعنوان «هذا الرجل» فى صباح الخير التى رأس تحريرها فى عهد عبد الناصر. 

الكاتب: محمود السعدني

ورغم هذا التضييق نجح صلاح السعدنى في اختراق الحصار الفنى المضروب حوله بأدوار مبدعة وإن لم تكن كبيرة، مثل دور أبو المكارم الأخرس فى مسلسل «الساقية» الذى كان فيه أبكما لا يتكلم، لكن قدراته التمثيلية والأدائية أنابت عنه كممثل له حضوره وأسلوبه المختلف.

 بعدها قام السعدنى بدور رائع فى مسلسل «لا تطفىء الشمس»، من إخراج نور الدمرداش، وهو أول مسلسل فى تاريخ الدراما التليفزيونية فى مصر يصل عدد حلقاته إلى 30 حلقة، وقد ماتت شخصيته فى نهاية العمل، فانهالت آلاف الرسائل من المشاهدين على المخرج والمؤلف تطلب تغيير النهاية. 

حضور مسرحي وشغف سينمائى

كانت بداية السعدنى تليفزيونية بدور صغير فى مسلسل «الضحية» توقف بعدها عن التمثيل ليعود بعد 4 سنوات بدور أكبر نسبيا فى مسلسل «الرحيل». لكن خشبة المسرح كانت تناديه دائما فقام ببطولة مسرحية «الجيل الطالع» مع مديحة كامل ومشيرة إسماعيل ونجيب سرور وإخراج جلال الشرقاوى. وقد حققت المسرحية نجاحا هائلا، ثم قام ببطولة مسرحية اخرى مع مديحة كامل ايضا  هي «حارة السقا» لكنها لم تستمر طويلا. ويشارك صلاح السعدنى مع عادل إمام  وسعيد صالح وسهير البابلى وعبد الله فرغلى فى مسرحية قصة «الحى الغربى» التى شارك فيها أغلب نجوم مسرحية مدرسة المشاغبين بالإضافة إلى نجوم آخرين مثل حسن يوسف، لكن العرض شهد خروجا كثيرا عن النص من جانب أغلب الأبطال وتعرض بعضهم بالنقد للرئيس السادات، فحدثت مشاكل كثيرة وقيل إن بعض نجوم المسرحية تلقوا تهديدات فتوقف العرض.

وقد لا يعرف كثيرون أن صلاح السعدنى أدى دور بهجت الأباصيرى فى مسرحية «مدرسة المشاغبين» الشهيرة بدلا من عادل إمام لمدة ثلاثة أشهر، بعد مرض عادل بالتهاب الكبد الوبائى، عادل الذى رافقه صلاح منذ البداية طالبا بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، و صديقا له وزميلا بفرقة الكلية المسرحية.

https://www.youtube.com/watch?v=zXWo4VNJiT4

ومع هذا الحضور المسرحى المهم لا يتوقف صلاح السعدنى عن الولع والشغف بالسينما، فهى أيضا ميدانه الذى يعشق الركض فى جنباته، فنشاهده واحدا من أبطال يوسف شاهين فى رائعته «الأرض» حيث يقوم بدور علوان الذى يتهم بقتل فلاحة من أهل القرية.

 وقد تنوعت أدوار صلاح فى السينما ما بين شخصية الإنسان البسيط الذى لا يدرك العالم وما يحدث فيه، ولا يعرف شيئا إلا عالمه هو البسيط فى فيلم «المراكبى»، وما بين الشخص الذى تجعله الأحداث يعيش حالات تراجيدية وأخرى ساخرة وكوميدية من خلال فيلم «العصفور» مع هانى لاشين فى بداية التسعينات والذى ناقش أزمة غزو العراق للكويت، أو حتى الكوميديا الخالصة من خلال دور الشخص الذى يدعى أنه يسارى فى فيلم «فوزية البرجوازية».

وطوال مسيرته الفنية لم يفارق المسرح مخيلة صلاح السعدنى، وكلما ابتعد عنه عاد له، فبعد سنوات طويلة من الابتعاد عاد اليه بقوة من خلال مسرحية «الملك هو الملك» التى كتبها سعد الله ونوس وأخرجها مراد منير عام 2006.

https://youtu.be/yOa8B2AXgD0?t=2127

ليالى الحلمية ..أمجاد درامية

لكن الشهرة الأكبر والمجد الأهم حققهما صلاح السعدنى من خلال الملحمة الدرامية الأشهر فى تاريخ الدراما المصرية والعربية.. مسلسل «ليالى الحلمية» بأجزائه الخمسة التى عُرضت منذ منتصف الثمانينات وحتى أوائل التسعينات، ورصدت جزءاً مهما من تاريخ مصر السياسى والإجتماعى فى العصر الحديث، وهي من تأليف الرائع أسامة أنور عكاشة وإخراج المبدع إسماعيل عبد الحافظ، وقد أغفلتُ ذكر الجزء السادس، الذى أنتج حديثا لأنه كان تلفيقا لا يصح، ومحاولة فاشلة لاستثمار نجاح العمل الملحمى الكبير.

 
 فى ليالى الحلمية كان مقررا أن يقوم يحيى الفخرانى بدور العمدة سليمان غانم، وأن يقوم السعدنى بدور سليم البدرى، ولكن الفخرانى لم يتحمس لدور العمدة وشعر ببعض القلق من تأديته، وطلب من إسماعيل عبد الحافظ أن يسند إليه دور البدرى، ولجأ عبد الحافظ إلى صلاح السعدنى لكى يحل له المشكلة ففوجىء بأن السعدنى متحمس أشد الحماس، لدور العمدة سليمان غانم الذى أبدع فيه إبداعا منقطع النظير. لنجد أنفسنا أمام عمدة مصرى حقيقى من لحم ودم بحضور طاغ، وبإلمام كامل بأبعاد وتفاصيل الدور. وكانت مباراة درامية ممتعة بين السعدنى والفخرانى وصفية العمرى أو نازك السلحدار ومعهم المبدعون سيد عبد الكريم وسهير المرشدى وممدوح عبد العليم وهشام سليم ومحسنة توفيق وغيرهم. 

https://www.youtube.com/watch?v=Eqdbftp1cYg

  نجح السعدني في تجسيد هذه الشخصية ببراعة بعد أن جمع ملامحها وسماتها من «جديه » لأبيه وأمه، وكان كلاهما عمدة، كما أخذ من شخصية شقيقه الأكبر محمود الذى كان قريبا من شخص وشخصية العمدة أيضا، وقد نجح سليمان غانم فى أن يخلع على صلاح السعدنى لقب « عمدة الدراما العربية».

 وبعد ليالى الحلمية يبدع صلاح السعدنى مرة أخرى فى عمل لا يقل جمالا وروعة من خلال شخصية حسن النعمانى أو حسن أرابيسك في مسلسل «أرابيسك» من تأليف أسامة أنور عكاشة أيضا وإخراج جمال عبد الحميد، مع نخبة من النجوم. في هذا العمل تمكّن صلاح السعدنى من إحكام قبضته الفنية على ملامح البطل حسن، الذى يمتلك ورشة لصناعة الأرابيسك، المصرى ابن البلد الشهم الجدع المتصعلك، الذى لا يلقى للدنيا بالا، والذى يلجأ اليه الأستاذ الجامعى برهان العائد من أمريكا ليزين له الفيلا الخاصة به بالأرابيسك بحيث يبرز تاريخ مصر ومراحل عصورها المختلفة، لكن الفيلا تنهدم بفعل الزلزال، ويسجن حسن، لنصل إلى الرسالة التي أراد المؤلف إيصالها من خلال هذا العمل، وهي أن تاريخ مصر أكبر بكثير من محاولات تأطيره فى مراحل أو عصور ويبقى كلام حسن فى النهاية وتساؤله «إحنا مين» هو قضية المسلسل الحقيقية .. قضية الهوية المصرية.

https://www.youtube.com/watch?v=6u006Koz6qk

تاريخ السعدنى فى الدراما التليفزيونية طويل وعريض وحافل بالإبداع من عاطف فى مسلسل «أبنائى الأعزاء شكرا»، إلى عزيز محفوظ فى «الأصدقاء»، إلى عبد القادر عوف فى «كفر عسكر»، إلى نصر وهدان القط فى «حلم الجنوبى» . 

https://youtu.be/G1e0M7R6nhE?list=RDG1e0M7R6nhE&t=16

وحتى أعماله الرمضانية الأخيرة مثل «الباطنية»، وبنات الباشا وأخيرا القاصرات، وهو آخر أعماله الفنية على الإطلاق، كان السعدني ينطلق فى كل منها من إيمان عميق برسالة الفن وأهميته.. هذا الإيمان الذى انعكس على اختياراته الجادة المحترمة، يعانى صلاح السعدنى حاليا من المرض، ولكنه يقاومه بكل ما أوتى من قدرة على المقاومة، وكأنه مع ما جسد وأبدع من شخصيات كثيرة، يقف وهم معه يؤازرونه فى معركته مع هذا المرض، كأن سليمان غانم وحسن أرابيسك وحمدى ونصر وهدان وعبد القادر عوف وغيرهم يقولون له في عيد ميلاده «23 اكتوبر »، ونحن معهم وبكل حب: كل سنة وانت طيب، وسلامتك يا عمدة.                                                                                                                                        

الفيديو جرافيكس

نص: بلال مؤمن

تحريك ومونتاج: عبد الله محمد                                                   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock