هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن علي الخزرجي الأنصاري المرسي يتصل نسبه بالصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري (رضي الله عنه) سيد الخزرج وصاحب سقيفة بن ساعدة التي تمت فيها البيعة لأبي بكر الصديق بالخلافة..وكان جده الأعلى قيس بن سعد أميرا علي مصر من قِبَل الإمام علي كرم الله وجهه عام 36هـ.(656م.
فى حضرة الشاذلى
ولد السيد أحمد أبو العباس بمدينة مرسية بالمغرب سنة 616هـ.(1219م) ونشأ بها، وإليها نُسب، فقيل المرسي. كان والده تاجرا موثرا، وقد وهبه للعلم والمعرفة ثم ساعده في أمور تجارته حتى وقع حادث قلب الأمور رأسا على عقب، إذ اصطحب الوالد أسرته المكونة من الأب والأم و أبا العباس وشقيقه في رحلة بحرية مبتغيا الحج إلى بيت الله الحرام إلا أن ريحا عاصفة قذفت بالوالدين في جوف البحر، بينما استقبلت شواطىء تونس أبا العباس وشقيقه، وبينما كان أخوه يجيد أمور التجارة فاتجه إليها لم يكن طالب العلم أحمد، الذي بلغ الثانية والعشرين من عمره يستطيع سوى تقديم بضاعته المعرفية، فاتجه إلى تعليم الصبية القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وذاع صيته كثيرا.وحين وصل الولي الشاب أبو العباس إلى أرض تونس، لم يدر في خلده أن ثمة من بقي في انتظاره، فقد عاد الإمام أبو الحسن الشاذلي من زيارته الأولى لمصر إلى أرض تونس، معلنا سبب عودته بقوله (ما ردني إلى تونس إلا هذا الشاب)، فكان يعني ذلك الشاب «أحمد أبو العباس» القادم من مرسية ببلاد المغرب، ليصبح وريثه في منزلته من الولاية التي لا تتسع لأكثر من فرد في الزمن الواحد.
أما عن اللقاء الأول الذي جمع بين الشيخين، فننقله كما أورده تلميذ ابن عطاء الله السكندري تلميذ أبى العباس في لطائف المنن، قال: «يقول أبو العباس: لما نزلت بتونس حين وصلت من «مرسية» وأنا إذ ذاك شاب سمعت بذكر الشيخ «أبو الحسن الشاذلي» رضي الله عنه. فقال لي رجل. تمضي بنا إليه.فقلت: حتى استخير الله، فنمت تلك الليلة، فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل، فلما علوت فوقه رأيت هناك رجلا عليه «برنس أخضر» وهو جالس، وعلى يمينه رجل وعلى يساره رجل، فنظرت إليه فقال: عثرت على خليفة الزمان.
قال فانتبهت، فلما كان بعد صلاة الصبح، أتاني الرجل الذي دعاني إلى زيارة الشيخ فسرت معه، فلما دخلنا عليه وجدته على الصفة التي رأيته فوق الجبل فقال لي: عثرت على خليفة الزمان. ما اسمك؟ فذكرت له اسمي ونسبي فقال لي: رفعت إلىّ منذ عشرة أعوام».
إن العلاقة التي ربطت ما بين الإمام المؤسس «أبو الحسن الشاذلي» وأولياء مدرسته الممتدة تكاد تكون أكثر العلاقات التي تكشف طبيعة اختيار وترقي مراتب الولاية،وتحيل النظرة التقليدية إلى الولي باعتباره شخصا صالحا مجتهدا في العبادات، إلى نظرة أصيلة تجعل من الولاية وظيفة وتكليفا إلهيا مثلها مثل النبوة والرسالات- مع الفارق- وتكاد تكون نصوص ابن عطاء الله في لطائف المنن، أكثر نصوص المتصوفة وضوحا في هذه المسألة حيث يجيب على العديد من الأسئلة، كالسؤال عن لماذا توقفت الولاية، ولم نعد نرى الأولياء؟ فتكون الإجابة أن للأولياء عددا لا ينقص في كل زمن، كلما رفع أحدهم استبدل بآخر، وأقصى ما يقع هو أن يُحرم الناس من معرفتهم فالأولياء – على حد قول ابن عطاء الله- (عرائس الله ولا يرى العرائس المجرمون).
اقرأ أيضا:
مدرسة الإسكندرية في التصوف الإسلامي(1): أبو الحسن الشاذلي.. الشيخ المؤسس via @aswatonline https://t.co/dw0XTu3a5a
— أصوات Aswat (@aswatonline) October 31, 2019
بعيدا عن السلطة
ولنعود إلى أبى العباس المرسي الذي رافق شيخه أبا الحسن الشاذلي في رحلته من تونس إلى مصر، قال ابن عطاء (قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: لما قدمنا من المغرب إلى الإسكندرية نزلنا عند عمود السواري من ظاهرها، وكان وصولنا عند اصفرار الشمس، وكان بنا فاقة وجوع شديد، فبعث لنا رجل من عدول الإسكندرية طعاما، فلما قيل للشيخ عنه قال، لا يأكل أحد منه شيئا فبتنا على مانحن عليه من الجوع) لازم أبو العباس شيخه أبا الحسن الشاذلي الذي قام بتأديبه وتربيته ورياضة نفسه عن الاستغناء عن الخلق بالله، وإذا كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي قد اشتهر بالسير إلى الولاة في قضاء حوائج الناس حتى قال في ذلك الفقيه ابن دقيق العيد (جهل وٌلاة الأمر قدر الشيخ أبى الحسن الشاذلي رضي الله عنه لكثرة تردده في الشفاعات).
لكن الشيخ أبا العباس المرسي سيتبنى سياسة أخرى، فعندما كان يتشفع به أحد عند ولاة الأمر لقضاء حاجته كان الشيخ يجيبه (بل أدعو لك)، لقد كان للشيخ أبى العباس رؤيته ومواقفه الواضحة في ضرورة البقاء بعيدا عن السلطة، ومما ينقله لنا الشعراني صاحب الطبقات الكبرى في هذا الشأن ما رواه من أن (طلب نائب الاسكندرية أن يجتمع بالشيخ «أبو العباس المرسي» ويأخذ بيده فيكون شيخه فقال للقاصد لست ممن يٌلعب به، ولم يجتمع به حتى مات، وكان إذا نام في بلد في السفر، وعرف أن كبيرها يريد الاجتماع به يسافر منها ليلا قبل الفجر)
يعكس رد الشيخ أبى العباس المرسي سياسة قاطعة في مجافاة السلطة والبعد عن شراكها، وهو ما ينفي ما يشاع عن المتصوفة من مداهنات أو محاباة للسلطة، وقد ظل أبو العباس يقوم بواجب الدعوة إلى الله وتربية السالكين من المريدين بالإسكندرية، قبل أن ينتقل إلى القاهرة في حياة أستاذه، وما أن أوشك أجل أبى الحسن الشاذلي على مفارقة الحياة، حتى صار يكشف لتلامذته منزلة وارثه فكان يقول للناس (عليكم بالشيخ أبي العباس فوالله إنه ليأتيه الرجل البدوي يبول على ساقيه فلا يمشي إلا وقد أوصله إلى الله تعالى)، وكان يقول له (يا أبا العباس ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت).
مسجد أبو العباس المرسي
تسليم الراية
وقد كان أبو العباس أمينا على دعوة شيخه أبى الحسن الشاذلي و رفض نسبتها للمغرب أو للمشرق، وإنما اعتبرها طريقا من العباد يتصل من شيخه أبى الحسن وينتهي إلى الإمام الحسن بن علي، ومثلما تنبأ الإمام أبو الحسن بقدوم تلميذه ووريثه أبي العباس المرسي، فقد فوجىء مريدو أبى العباس ذات يوم بالشيخ يُعد عصيدة (خليط من اللبن والدقيق) في أيام الصيف بالإسكندرية، فقيل له: إن العصيدة لا تكون إلا بالشتاء، فقال هذه عصيدة أخيكم ياقوت ولد ببلاد الجبشة وسوف يأتيكم، وقد بيع ياقوت من سيد بالحبشة إلى سيد، حتى وصل إلى الإسكندرية ليقوم أبو العباس المرسي بتربية العبد الحبشي الذي سيصير وريثه وخليفته على مقام ولايته، ذلك الذي سيعرف بـ (ياقوت العرشي).
اقرأ أيضا:
مدرسة الإسكندرية في التصوف الإسلامي(2): أبو الحسن الشاذلي في رحاب المحروسة via @aswatonline https://t.co/jH4kKRJVMx
— أصوات Aswat (@aswatonline) October 31, 2019
(يتبع)