لسبب أو لآخر لم تحظ قضية المرأة وموقعها في مشروع طه حسين التنويري بالقدر الكافي من البحث، على الرغم من أنها كانت من القضايا الجوهرية التي ناضل من أجلها عميد الأدب العربي. فقد كان حريصًا على أن تنال المرأة في مصر حريتها وحقها في التعليم وتقرير مصيرها، ويتجلى ذلك في مواقف شتى يمكن رصدها من خلال سيرته الذاتية أو من خلال أعماله الإبداعية التي كانت تشغل قضايا المرأة حيزًا كبيرًا منها، وكذلك من السيرة التي كتبتها عنه سوزان زوجته، التي كان يصفها بـ«المرأة التي أبصرت بعينها»، أو في الحوارات التي أجريت مع حفيداته اللاتي كشفن فيها، كيف كانت أقوال طه حسين متسقة مع أفعاله فيما يخص المرأة.
نبله مع المرأة
تنقل «سوزان طه حسين» في سيرتها «معك» التي نشرت لأول مرة عام 1977، جانبًا من شخصية طه حسين، وكيف أن قضية المرأة كانت من أهم القضايا التي كانت تشغله بوصفه واحدا من رواد التنوير في الوطن العربي، تلك المرأة التي استمرت علاقتها معه لأكثر من نصف قرن، علاقة جمعت بين ثقافتين مختلفتين كانت بين مصري وفرنسية، بين إفريقي عربي مسلم، وبين أوروبية مسيحية.
سيرة تكشف كيف كان طه حسين يقدر المرأة، ونبله حتى ولو على حساب نفسه، فتذكر سوزان أنها عندما تعرضّت لمشكلة بسبب زواجها منه عرض عليها «الطلاق» حتى يحل تلك المشكلة، وعندما رُزق ابنه الثاني مؤنس وتمنى أن تكون أنجبت زوجته له بنتًا ثانية لا ولدًا.
شخصية متحررة
تحكي سوزان في سيرتها -التي تعد في الوقت ذاته سيرة غيرية للعميد- كيف أنها في كل اجتماع أو مؤتمر حضرته في مصر بصحبة طه حسين عادة ما تكون هي المرأة الوحيدة من بين الحضور، وتسرد هذا الموقف الدال على عقلية المشايخ عن المرأة مقابل عقلية طه حسين المتفتحة التي تسعى لأن تكون المرأة شريكًا للرجل في جميع مجالات الحياة. فأثناء نقاش في مجلس لإعداد حفلة لتخليد ذكرى الأستاذ الإمام محمد عبده، نجد أن ما يشغل طه حسين هو سؤاله للحضور: «هل ستشارك نساء في هذا الاحتفال»، فيرد عليه لطفي السيد «لا. لا نساء ولا فوضى ثم إني يا دكتور طه لا أرى ما يدفعك لطرح هذا السؤال؟»، وبعدها يلقى طه حسين هجومًا شديدًا من المشايخ الحاضرين في الاجتماع بسبب هذا السؤال، لأنه حسب زعمهم يريد أن يقلب القانون الأخلاقي. ويسأله أحدهم
-دكتور طه هل أنت متزوج؟
– نعم سيدي.
– هل ستصحب زوجتك؟
– لا يا سيدي؛ لأنها في فرنسا.
– في فرنسا وتركتها تذهب وحدها!
إنه حوار كاشف عن رجل متحرر مثل طه حسين يترك زوجته تسافر وحدها في أوائل القرن العشرين، في وقت لم يكن يُسمح فيه للنساء بأن يخرجن من البيت، فما بالك بالسفر وإلي قارة أخرى؟
وتحكي سوزان عن الطريقة المتمدينة التي كان الرجل يربي بها ابنته «أمينة» التي كانت تتمتع بقدر كاف من الحرية غير الشائعة في بلاد الشرق في هذا الزمن دون أدنى تمييز بين ولد أو بنت. وتروي حفيدته سوسن في حديث لها عن جدها: «جدى كان شخصية صعيدية، لكنها متحررة، بمعنى أنه كان يتمتع بكرم وحفاوة ونبل وشهامة وأدب الصعايدة وفى نفس الوقت اتسمت تلك الشخصية بالتحرر والمدنية والميل لفك قيود الرجعية، وتمثل ذلك مثلاً في أنه سمح لابنته «أمي» بالدراسة في الجامعة والسفر في رحلات، وأيضا أعطاها الحرية في العمل والتنقل لدرجة أنها كانت ضمن حملة تطوعية لعلاج مرضى الكوليرا التي تنقلت بين صعيد وربوع مصر وحدث ذلك في وقت لم تكن الفتاة حصلت على تلك الحقوق».
دخول المرأة الجامعة
ولطه حسين مواقف كان لها الفضل في أن تنال المرأة المصرية حقها في دخول الجامعة، فقد كان الدستور المصري يعطي لكل مصري الحق في دخول الجامعة، لكن نخبة هذا الزمن استغلت أن اللفظ الذي ورد في النص كان مذكرًا، من ثم فهو لا يعني النساء. لكن طه حسين دفع الأمر إلى الأمام كشأنه دومًا في مثل هذه الحالات وقال للطفي السيد «ألا تعني كلمة مصريون كل سكان ربوع مصر» فأجاب لطفي «دون شك» فقال طه «إذا لا يعني ذلك النساء أيضًا». وكان لطه حسين ما أراد ففي ديسمبر 1933 كان الاتحاد النسائي يحتفل بأول دفعة من خريجات الجامعة المصريات، وكان ذلك انتصارًا حقيقًا لمبادئ طه حسين وموقفه المبكر من المرأة. فخرجت من بين هؤلاء الفتيات الدكتورة الكبيرة سهير القلماوي التي تصفها سوزان بأنها «الابنة الروحية لطه حسين». كما تحكي سوزان في مذكراتها عن علاقة الصداقة التي كانت تربط العميد بهدى شعراوي، التي كانت أول من دعم مطالبته بحق المرأة المصرية في دخول الجامعة، وتنقل حزنه الشديد على وفاتها.
سهير الفلماوي
دفاعه عن المرأة في «الأيام»
قرأ طه حسين منذ كان يدرس في الأزهر كتابات قاسم أمين التي تدعو إلى تحرر المرأة وحصولها على حقوقها، وتظهر سيرته «الأيام» الإرهاصات المبكرة لوعيه بما كانت تعانيه المرأة المصرية في هذا الوقت – وحتى الآن – فيحرص على أن يسرد حكاية ظلت محفورة في ذاكرته ووجدانه منذ طفولته المبكرة، عن قصة فتاة صغيرة أصر أهلها على تزويجها وهي قاصر برجل يكبرها بنحو 30 عامًا. كان الطفل طه يذهب إلى مفتش قد جاوز عمره الأربعين وتزوج من فتاة لم تكمل 16 عامًا، كي يحفظ القرآن الكريم بالتجويد، ويسرد كيف كانت الفتاة تتنظره حين يأتي وتأخذه إلى غرفتها وتلعب معه كما يلعب الأطفال، وحين حكى طه حسين هذه الكلام لأمه رثت لحالة هذه الفتاة قائلة لأخت طه: «طفلة تزوجت من هذا الشيخ لا تعرف أحدا ولا أحد يعرفها، فهي ضيقة الصدر في حاجة إلى اللهو والعبث». فسرده لهذا الموقف يشي برفضه لعادات وتقاليد تسمح بتزويج البنات وهن أطفال قبل أن يكتمل نموهن العقلي والجسدي بشكل كامل.
قضايا المرأة في أعماله الإبداعية
كانت المرأة وقسوة المجتمع عليها حاضرة بقوة في أعمال طه حسين الإبداعية، وكذلك الاجتماعية، كانت أول رواية له، والتي نشرت مؤخرًا عن دار الوثائق «خطبة الشيخ» – وهي من أولى الروايات التي كتبت في الوطن العربي – تتميز بأنها ذات طابع تقدمي تنويري تبرز فيه قضية حرية المرأة واستقلالها المادي والمعنوي وعدم خضوعها لعادات وتقاليد المجتمع التي تفرض عليها، وتجري أحداث القصة عام 1913، ونشرت في مجلة و«السفور» عام 1916، ففي هذه الرواية تظهر شخصية «إحسان» كامرأة متعلمة مثقفة تجديد الفرنسية بالإضافة إلى العربية، تدافع عن قضايا المرأة وحقها في التعلم والعمل واختيار الزوج، كما أن يناقش في مواجهة تزمت رجال الدين.
وهناك رائعته «دعاء الكروان» التي تتحدث القهر والظلم على لسان «آمنة» التي تعاني وأسرتها من الفقر وضيق الحال، فتعمل عند مهندس الري ومن قبلها أختها هنادي التي تتعرض للغدر فتفقد ما تملكه من براءة، قصة استلهمها العميد من واقع الحياة في الريف المصري كاشفة عن الظلم التي تتعرض لها المرأة والاضطهاد الذي تعاني منه على يد الرجال وحقوقها التي تهضم.
وفي مجموعته «المعذبون في الأرض» نجد قصة خديجة التي تُجبر على الزواج، وفي حكاية «المعتزلة: هناك الابنة البلهاء سعدى التي تتعرض للاغتصاب على يد الذئاب البشرية، فتحمل منهم، وفي قصة «صفاء» يثير طه حسين قضية تعليم المرأة وما تتعرض له من ظلم وقمع يمحو شخصيتها وتفريق في المعاملة بين الذكر والأنثي، بالإضافة إلى إجبارها على الزواج. وفي عمله «الحب الضائع» يتجلى وهو يسرد أغلب حكايات في هذه المجموعة على لسان سيدات مثل «الحب الضائع، الحب اليائس، الحب المكره، بين الحب والإثم» أغلبهن سيدات أوروبيات تكشف بشكل غير مباشر عن الهوة بين واقع المرأة في الشرق والغرب.
والخلاصة أنه يمكننا المجازفة بالقول إن قضية المرأة ومعاناتها وضرورة حصولها على حقوقها كإنسان في مجتمعاتنا الشرقية، هى أحد أعمدة التنوير الأساسية في رؤية العميد، بل إنها تكاد تكون هي العنصر الأساسي والأبرز في أعماله الإبداعية بما في ذلك سيرته الذاتية، وكذلك في حياته الخاصة وهو الأمر الذي تبرزه حفيدته سوزان بقولها «كان جدي رقيقا جدا مع النساء راقيا في تعامله معهن جميعا، وبدا ذلك واضحا في كل كتاباته وتصرفاته، كان متحررا يبتعد عن فرض القيود على المرأة، محباً لإعطائها فرصة الحركة والتعبير عن نفسها، مقتنعاً بأنه بذلك يمكن أن تنتج شخصية ناجحة مفيدة للأسرة والمجتمع على السواء».