جاءه صوت والدته من مصر عبر الهاتف إلى حيث يعيش فى أمريكا تخبره أن أباه قد مات، استقبل الأمر ببرود شديد وكأن شيئا لم يحدث ، هذا هو أول ما تدهمنا به رواية أحمد القرملاوى «نداء أخير للركاب» الفائزة بجائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب فى يوبيله الذهبى-2019
ربما، ومنذ فترة طويلة، أغوص في رواية ممتعة إلى هذا الحد، ولدرجة أنها استغرقتنى تماما فنسيت كل شىء إلاها، والسبب الأساسي كمية البوح والاعتراف والصدق والتجربة الخاصة والكتابة الحقيقية التي تهيمن على كل سطر من سطورها.
أحمد القرملاوى يوقع رواية نداء أخير للركاب
المنسي
دائما ما نتحسس مسدساتنا تجاه الروايات الحائزة على جوائز، إلا أن هذه الرواية تختلف، فهى ذات طابع فريد في رحلة البطل «الأدونيسية» لجمع شتات العالم وبالتالي لملمة شتات نفسه الممزقة، والد لا يعرف عنه شيئا، وربما ينفر منه، هذا الرواي المقبل على الأربعين ويعيش حياة باردة في أمريكا -كمهاجر- بين زوجة تكبره بست سنوات لا تهتم إلا بمكياج وجهها وعمليات التجميل، ودائما ما تصوب إليه نظراتها المرتابة التي تتابعه بها في كل حركة يتحركها، بل وتحمله بردود أفعالها مع كل كلمة ينطق بها، وفي الجهة الأخري ابنة ذات ثلاثة عشر عاما لا تعرف عن أبيها شيئا وتزداد الفجوة بينهما.
هذا التمزق الذي يعيشه – الراوي – البطل – هاني، هو أيضًا ما يصلنا نحن كقراء، وهو ما جعلنا نكمل الرواية، لنعرف كيف نلملم أنفسنا المشتتة ونتصالح مع العالم حولنا.
لا يهتم هانى بموت والده وكأنه أمر عادي، لأنه نسيه في الأساس، لكن الوالد كان قد وضع له الخطة لاكتشافه واكتشاف العالم ونفسه، فعندما يهبط في قبو بيته الأمريكي لاستخراج الحقيبة الباهتة، يبدأ السرد في عمق الرواية وقوتها، متذكرًا هذا الماضي المنسي في أعماقه، والده الذي لا يعرفه ولا يوجد معه صورة له، لكن هذا الأب المنسى يفرد العالم ويكشفه أمام ابنه، كي يتعرف عليه –كأب- ويتعرف على نفسه كإنسان.
تضعنا الرواية في كثير من جغرافيا الأماكن التي مر بها البطل، من صقيع وبرودة أمريكا إلى دخان القاهرة الرمادي وثقله، وزحامها وخربشات جدرانها، ثم نذهب معه لأسخن مكان في العالم وهو الكويت، بعدها ننطلق إلى النمسا حيث البرد والأشجار والجبال التي لا نراها إلا في الأفلام والصور الفوتوغرافية، بعدها ننتقل إلى واحة سيوة حيث نهاية المطاف.
الحقيقة والرؤية
لم يكن الكاتب ساذجا كي يعرض جغرافيا صماءً أو أماكن على الأطلس بل نقل لنا كل خطوة وكل نَفَس في تلك التجربة الإنسانية الفارقة، ومع حب كبير يوزعه والده على العالم، يحتار البطل في هذه الشخصية التي تبدو له هلامية وتبدو له لغزا، لكن اللغز ينفك في الرحلة، تلك الرحلة التي يجب أن نخوضها جميعا، فكما يقول في أحد مقاطع الرواية الشىء الوحيد المندفع هو الزمان والباقي كله تروس تدور في فلكه وكلما سقطت عظام أحد أو طحنت تدور لتسحق ترسا آخر ثم تضع ترسا جديدا، ونحن تروس الزمان.
لكن الذاكرة الحية التي تفيض بالمشاعر لا يمسك بها إلا الكاتب الحقيقي، ذلك الكاتب الذي يرتد بنا لفترة حية وأمام عيوننا- وهى غزو العراق للكويت الذى لم يتناوله بالوصف والتقرير ولكنه أبدع لنا ما جعلنا نراه بعيوننا ولا نكاد نصدقه لنكره هذا الحدث. فالكتابة الحقيقية هي الصامدة وهي التي تعيش، فالكاتب حمَل كل ذلك الماضي بحثًا عن ميراثه، ودخل غمار التجربة ليأتي لنا بالحقيقة، فمثلا يروي عن ذلك الضابط العراقي الذي يزين رأسه بزبيبة صلاة في حجم ثمرة، ينهض كي يمارس الجنس مع الخواجاية التي تخطت الثلاثين ووجدها أحد الجنود عذراء، لكن الضابط يصمم أن يضع بصمته عليها، ويقوم بعد مضاجعتها بعد أن استدار الجنود والضباط بوضع جرح غائر على موضع عفتها بالموسى.
هو يبصم على جسد العالم فعلته، وسجلها أحمد القرملاوي بعذوبة نادرة، فلم نشعر إلا بقسوة وغشامة هذا الغزو والذي فتح في جسد الوطن العربي والعالم جروحا ما تزال تنزف حتى الآن. ولم يتذكر معنا رصاصات الغزو ومهاجمة الدبابات ومحاصرة المقاومة، بل عبر عنه برؤيته الإنسانية وكأنها شهادة، فهو يبوح في سرده بالحقيقة وبالرؤية التي تغفل عنها الأحداث التاريخية، وهي إحدي الأسس التي قام عليها الأدب حين يعبر بطريقته عن أزمات الإنسانية.
الجذور والهوية
علاوة على القاهرة يُطوّف بنا الروائى فى الكويت وأحراش الهند والبنغال، فهذه أماكن لا نعرف عنها شيئا، وكان يمكن لأي مكان أن يجذبه فيطيح بباقي أجزاء الرواية، وهنا تظهر براعة السارد مرة أخري حين يوزع الرحلة على جميع الأماكن، وكأنه يلقي لنا بالصور مثلما فعل – عندما اكتشف أن له أختا- مصورة وتعشق التصوير وتخبره بأن له صورة مع والده، وهو لا يتذكر أي شيء عنه، هذا الغامض الذي يُذكر كثيرا في الرواية على ألسنة من يلتقي بهم البطل، بداية من أمه والمحامي إلى أصدقاء الأب المنتشرين في أنحاء العالم.
حتى يصل للختام، وهو الصحراء، وكأنها المخلص الذى يلهمنا أن نغادر ليس الأماكن فقط، بل نغادر أنفسنا، أن نلقي كل هذه الأوجاع والمشكلات والحروب والغرف الصماء لنذهب إلى هناك، في الصحراء، حيث واحة سيوة وقلعة شالي البديعة بجوار الواحة.
هناك حيث يصل الراوى لغايته وللهدف من الرحلة، وليعثر في نهاية الرواية على صورته مع والده، والده الذي لا يتذكر ملامحه في بداية الرواية ولا يعرفه كإنسان ممزق مثلنا جميعنا، وكأنه يلقي له ميراثا ماديا يجب البحث عنه واسترداده، لكن الأمر ليس بهذه السذاجة، الأمر أكبر وأعمق، فالرواية تصعد بنا في كل خطوة درجة نحو البحث عن إنسانيتنا، اذا كنا في الختام نعلم إننا ترس في تلك الحياة، لكن من منا يعلم أنه ترس مهم وقادر ومبهج؟
البحث مستمر فى الرواية عن المكان والهوية رغم أن التجربة مكررة في كثير من الروايات، إلا أن البطل يضعنا في قلب الأزمة، حتى نصل إلى النتيجة وهي هنا الواحة أو الجنة الأرضية التي يذهب لها مدفوعا باكتشاف الحقيقة عن هذا الأب، وبالتالي اكتشاف جذوره.
والرحلة تم استخدامها كثيرا في الروايات، نتذكر هنا رحلة بطل رواية «الطريق» صابر الرحيمي والذي يبدو انه يبحث عن والده لكنه مثل بطل رواية «قلب الليل» والذي يبحث عن الله، رغم سوداوية محفوظ في العملين والفلسفة التي تغرق فيها الروايتان.
لكن أحمد القرملاوى في روايته «نداء أخير للركاب» يذكرنا هنا برائعة «صبري موسي» «فساد الأمكنة» حيث نشعر بأن البطل هو امتداد لنيكولا العجوز.. يجذبنا القرملاوي بلغته الخاصة والعذبة والتي لم ترتق به ولم تهبط منه إلى مستوي السرد العامي ،بل حافظ على السرد طوال الأحداث، في رهافة المغترب عن مصر، لكن بداخله جزء أصيل يشعره بالحنين، ذلك الحنين الإنساني الذي يدور به على كل دول العالم ليجذبنا الى تلك الجنة الارضية ذاكرًا بأنها الجنة الموجودة لذا خلق الله الأرض، وعلى الأرض يجب أن نخوض الرحلة.
منذ أول عتبات النص، وكأنه يخبرنا بـ«نداء أخير للركاب» للذهاب ليس للرحلة، بل للجنة، الجنة التي بداخلنا كي نتصالح مع أنفسنا وبالتالي مع الأشخاص المحيطين بنا ومع ماضينا الذي يبدو أحيانا كثيرة ثقيلا علينا أو ظلا لنا لا نستطيع الهرب والفرار منه.
بمزيد من البوح الذي يصل لحد الاعتراف يسير الراوي «هاني» طوال رحلته، بحثًا عن أب لم يره، ولا يعرفه فقط غير بالاسم، لكن الأب يظهر طوال أحداث الرواية، ويدمغ كل سطورها. وكأن البطل يذهب برحلته بجسده فقط لكن البطل الحقيقي هو الأب، هو التراث الذي – نريد أن نزيحه – لآنه يعيقنا مع أنه أول خطواتنا و أول درجات السلم في حياتنا.
إنها رواية الرحلة، والبوح، والاعترافات والمشاعر، والحب، والأماكن، ورحلة داخل أنفسنا، تعلم شمل العالم، يقول في أحد المقاطع: «انتبه جيداً حين تبحث عن تحررك، فأقصى ما ستحصل عليه هو المزيد من حتمية الاختيار، وسرعان ما ستدرك ميزة القيد، سعادة أن تكون مرغماً على الفعل، لا مُطلق الحرية». تلك الحرية التي ترقد عند قبر والده في واحة سيوة، حيث يعثر على الصورة، خلف مرآه، ليكتشف أنه قريب في ملامحه من والده الذي نسيه في خضم حياة باردة نهرب منها جميعا.
أحمد القرملاوي بعد فوزه بجائزة أفضل عمل روائي في معرض القاهرة الدولي للكتاب