*وليد الحوري – رئيس تحرير قسم «شمال أفريقيا وغرب آسيا» في موقع openDemocracy
عرض وترجمة: أحمد بركات
برغم مرور أكثر من شهر على خروج المحتجين إلى الشوارع في لبنان في 17 أكتوبر، إلا أن موجتهم الثورية – ككرة الثلج – آخذة في الاتساع والتمدد لتشمل قطاعات أكبر من المجتمع. ولا يزال المحتجون يفاجئون أنفسهم والآخرين بثورتهم التي كسرت جميع ’التابوهات‘ وتجاوزت جميع الصور النمطية وخرجت عن مألوف النظرة المركزية لبيروت في السرديات السياسية والاقتصادية والثقافية اللبنانية.
كشفت الثورة أيضا قصور السرديات الشائعة عن لبنان. على سبيل المثال، عندما تظهر ’لبنان‘ في الأخبار العالمية، فإنها عادة ما يتم تغطيتها وفهمها وعرضها كجزء من قصة عن الجغرافيا السياسية، والطائفية، والصراع العنيف. في الواقع، تخضع البلاد لحكم قوى سياسية مدعومة من قِبَل، أو متحالفة مع، دولة أو أخرى تشارك في العديد من الصراعات الإقليمية والدولية، بدءا من إيران، ومرورا بالمملكة العربية السعودية وقطر وسوريا وتركيا، ووصولا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وغيرهما.
كليشيهات
ومع اندلاع الثورة، خاضت وسائل الإعلام العالمية غمار صراع مرير من أجل تغطية هذه الاحتجاجات التاريخية الضخمة التي عمت جميع أرجاء البلاد. فعلى غرار أغلب الناس، بدت هذه الوسائل وكأنها أُخذت بغتة، وغلبت عليها حالة من الذهول جعلتها عاجزة عن فهم ما يجري على الأرض.
لا يعني هذا أن لبنان يتطلب مزيدا من الانفتاح والانكشاف أمام الإعلام، إذ كان لبنان ولا يزال ممثًلا بدرجة مفرطة في كل من الأوساط الإعلامية والأكاديمية مقارنة بجيرانه. فلبنان يتمتع بإمكانية وصولٍ عاليةٍ من قبل المراسلين الأجانب، ويحظى بإنتاج ضخم من الصور من داخل البلاد. رغم ذلك، فشلت التغطية الإعلامية في أغلب الأحوال في التخلص من «الكليشيهات» الشائعة التي توجه التغطية الإعلامية للبلاد.
لذلك يبقى السؤال: لماذا يصعب على وسائل الإعلام العالمية فهم حقيقة ما يجري على الأرض في لبنان؟
على مدى عقود، كان يُنظر إلى لبنان، ويتم تحليله، من خلال ثلاث ’كليشيهات‘ أو مناظير رئيسة، وهي:
- الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكس): الدولة عبارة عن فضاء للصراع بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، وأي حدث يقع في الداخل يتعلق بتوازن القوى في المنطقة. والأحزاب السياسية المحلية تقوم بدور وكلاء عن قوى دولية وإقليمية كبرى.
- الطائفية: يتمحور النظام السياسي والنسيج الاجتماعي والهوية الثقافية في لبنان حول عدد من الطوائف المتنافسة ذات المصالح المتنافسة.
- الصراع المسلح والحرب: يمثل لبنان ميدانا للصراعات المسلحة الداخلية، أو الحروب الإقليمية.
بينما تعكس هذه المناظير / ’الكليشيهات‘ بعض الحقائق على الأرض، إلا أنها تبقى ذات طبيعة اختزالية تقوض أي تحليل موضوعي لما يجري في البلاد بوجه عام، وبطبيعة الحال للحركة الثورية الحالية.
ومن المثير للاهتمام أن المؤسسة السياسية اللبنانية ذاتها تعاملت مع الأحداث الجارية من خلال هذه المناظير/ ’الكليشيهات‘ بغير زيادة أو نقصان ( وأعني بعبارة ’المؤسسة السياسية‘ هنا شبكة القوى السياسية / الطائفية التي يشير إليها شعار الثورة «كلن يعني كلن (كلهم يعني كلهم)» أي الطبقة السياسية الحاكمة وما يتبعها من شبكات فساد تضم المصرفيين ووسائل الإعلام الحزبية ورجال الأعمال، وغيرهم، بغض النظر عن عدم اتفاقهم على التفاصيل المتعلقة بالجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكس) والمصالح المحلية.
إفلاس سياسى
ومنذ اندلاع الاحتجاجات، بدت المؤسسة السياسية اللبنانية عاجزة عن التجاوب مع مطالب الشارع. ولم تبلغ حالة الفصام بين المحتجين وخطاب الأحزاب السياسية من قبل هذا القدر من الاتساع والتشتت، وهو ما جعل المشهد يبدو هزليا وكأننا بصدد «حوار طرشان»، أو وكأن كل فريق «يصرخ في واديه الخاص».
وقد أظهر هذا العجز عن النظر خارج المناظير/ ’الكليشيهات‘ سابقة الذكر إفلاس الأحزاب السياسية الطائفية التي استخدمت ما بدا فجأة أساليب عفا عليها الزمن لقمع الاحتجاجات، مثل البلطجية والشائعات والضغط الاجتماعي والتوترات الطائفية والابتزاز العاطفي والتخويف من الانهيار الاقتصادي والوعود بالإصلاح ونظريات المؤامرة والاتهام بالخيانة والتهديد… إلخ.
لقد فشلت الطبقة السياسية في مجملها في التجاوب مع الشارع بما يتناسب مع أهمية وخطورة الحدث الاحتجاجي ويتماشى مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أثارت ثائرته، والتي لم تكن سوى نتاج للسياسات الاقتصادية والفساد المتجذر الذي رسم ملامح لبنان ما بعد الحرب الأهلية على مدى عقود.
ولم تشذ عن ذلك خطب القادة السياسيين البارزين الذين تحدثوا منذ اندلاع الثورة، وعلى رأسهم الرئيس ميشال عون، ورئيس الوزراء سعد الحريري، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، حيث راحوا يؤكدون جميعا بكلمات جوفاء لم تتجاوز حلوقهم: «نحن رجال صالحون.. نحن معكم لكن المشكلة تكمن في الآخرين.. سندعم الإصلاح.. طالما أكدنا أننا بحاجة إلى محاربة الفساد.. فقط امنحونا فرصة أخرى وأخيرة.. لا بديل عن ذلك …إلخ».
على الأرض – برغم ذلك – كانت الدولة تدير بكل قوتها حملة ممنهجة ومنظمة لقمع الاحتجاجات بالعنف، وعبر الشائعات وترويج الأخبار الزائفة، ومن خلال الدفع باتجاه الانقسامات الطائفية لشق عصا الوحدة الشعبية، مستخدمة في ذلك كافة أدواتها (قوات الجيش والأمن الداخلي، ووسائل الإعلام الحزبية، والأحزاب السياسية المختلفة والميليشيات أو مجموعات البلطجية التابعة لها).
ومن ثم، تحولت جميع المحاولات لاحتواء الاحتجاجات إلى قوة دفع جديدة للمحتجين الذين لم تنطل عليهم تلك الأكاذيب القديمة. ومع انعدام الثقة في المؤسسة السياسية، كانت كل محاولة منها تظهر بما لا يدع مجالا لشك أن هذه القوى عاجزة عن القيام بأي إصلاحات، وأنها تسعى فقط لكسب مزيد من الوقت حتى يتسنى لها قمع الشارع.
ملامح جديدة للثورة
الحقيقة على الأرض الآن هي أن الحركة الثورية الحالية لا تشبه في تفاصيلها أي حركة احتجاجية سابقة شهدتها البلاد، وقد حققت بالفعل أكثر بكثير من مجرد استقالة حكومة، ويمكننا أن نقول إن الثورة اللبنانية هى:
- ثورة ضد الأيقونات: فمع تفشي السباب وما يمكن أن نطلق عليه «اللغة السوقية» في كثير من الشعارات، تحطمت قدسية القائد السياسي الذي لا يمكن المساس به. وكانت الشتائم جانبا مهما لكسر التابوهات، وعبرت عن حالة الغضب العضوي التي شكلت القوة الدافعة للثورة.
- ثورة الهامش: فهي ثورة لا مركزية وتقاد في الغالب من خارج بيروت، وربما كانت بيروت المكان الأقل أهمية في عمليات الحشد في دولة يعيش نصف سكانها تقريبا في العاصمة، والمناطق المحيطة بها، والتي تحتكر معظم الأنشطة التجارية والثقافية والسياسية.
- سردية وطنية جديدة: تخلق هذه الثورة سردية وطنية لبنانية غير رجعية؛ تلك السردية التي لم تعد تتحدد قياسا على الجاريْن الفلسطيني والسوري. وربما يساعد هذا أيضا على التخفيف من وطأة مستويات العنصرية القاتلة التي عرًفت «أن تكون لبنانيا» قياسا على العمال المهاجرين واللاجئين. ربما، يمكننا أن نأمل ذلك. تتشارك لبنان في هذا مع العراق، الدولة الأخرى التي تمزقت هويتها الوطنية بسبب سيادة الهويات الطائفية.
- المصالحة مع هوية وطنية ناشئة جديدة غير طائفية، وتنامي شعبية المطالبة بنظام غير طائفي بين الشرائح المجتمعية المتشككة سابقا.
- تضامن نادر متجاوز للأقليمية (المناطق داخل لبنان) كسر بصورة كبيرة حواجز الانقسام الطائفي والإقليمي في البلاد، وأسس للُحمة وطنية قوية ووعي طبقي، وكذا وكالة المحتجين في جميع أنحاء البلاد من خلال اتحادات مهنية ناشئة وحركة طلابية مذهلة وجماعات جغرافية واسعة النطاق.
- ثورة أخلاقية: في بلد بدا فيه أن الاعتداءات والعنف والفساد والعنصرية باتت هي القاعدة، يصبح من المذهل أن ترى جوانب متعددة للتنظيم الذاتي المرتبط بتقديم المساعدة والرعاية (مثلا: تنظيف الشوارع، وإعادة التدوير، ومطابخ الحساء، والمطالب الجماعية، ورعاية الفئات الأكثر ضعفا… إلخ).
(يُتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?