وافق شريف باشا على تولي الوزارة مع تعيين محمود سامي البارودي وزيراً للحربية وزيادة الجيش إلى 18 ألفا، لكنه رفض إقرار الدستور الذي سبق أن أعده منذ سنتين. وفي ديسمبر 1881 تألف مجلس النواب برئاسة محمد سلطان باشا، واتخذ موقف تأييد الخديوي، غير أنه تمسك بحقه في التصويت على الميزانية المصرية، مما دفع حكومتي بريطانيا وفرنسا إلى تقديم مذكرة مشتركة في 6 يناير 1882- لتشجيع الخديوي على الوقوف في وجه القوى الدستورية.
أثارت هذه المذكرة استياءً عاماً، وجعلت مجلس النواب يصر على أن حقه في التصويت على الميزانية، لا يمكن أن يكون موضع نقاش مع الدول الأجنبية. فاستقال شريف الذي كان قد قبل المذكرة واقترح على المجلس إجراء مفاوضات مع بريطانيا وفرنسا بشأنها، في 5 فبراير 1882، وتولت الحكم وزارة يرأسها محمود سامي البارودي وعُين أحمد عرابي وزيراً للحربية.[1]
مذكرة شق الصف
في 25 مايو 1882 قدمت بريطانيا وفرنسا مذكرة مشتركة ثانية مدعومة بمجيء الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، وهي المذكرة التي حققت أهدافها في شق التحالف الدستوري والعسكري، رغم أنها وجهت لضرب الفريق الثاني وحده، حيث اعتبرته سبب الاضطرابات في مصر، وطالبت بإبعاد عرابي عن مصر، وإبعاد عبد العال حلمي وعلي فهمي إلى الريف، بينما وعد القنصل البريطاني بأن حقوق البرلمان المصري ستراعى في هذه الحالة.
رفض الجيش ووزارة البارودي المذكرة،[2] بينما قبل الخديوي هذه الطلبات وأعلن اقالة الوزارة بعد أن كانت قد قدمت استقالتها يوم 26 مايو لقبول الخديوي للمذكرة. وهنا تحركت قوات الجيش وأرسلت حامية الإسكندرية يوم 27 مايو برقية للخديوي ترفض موافقته على الإنذار وتعطيه مهلة 12 ساعة للتفكير. وعقد كبار قادة الجيش والبوليس في القاهرة اجتماعات متعددة لبحث الموقف على ضوء احتمالات التدخل الأوروبي، واجتمع كبارهم في قشلاق عابدين حيث تعاهدوا على الدفاع عن الوطن. واستبد الذعر بالخديوي فلجأ إلى سلطان باشا الذي حاول إقناع الوطنيين بالطاعة، لكن ردهم كان المطالبة بخلع الخديوي الذي أصبح خاضعا للدول الأجنبية.
في مواجهة ذلك بدأ تنفيذ خطة كان صاحب فكرتها المعتمد البريطاني، وهي إثارة صدامات واضطرابات داخلية تكون ذريعة لتدخل خارجي مسلح، فحدثت يوم 11 يونية 1882 المشادة التي أطلق فيها المواطن المالطي – الذي كان يعمل في خدمة القنصل الإنجليزي بالإسكندرية – النار على الحوذي (العربجي) وهي الحادثة التي قُتل فيها 140 مصريا و 50 أوروبيا. لكن عرابي استطاع السيطرة على الاضطرابات وإعادة الهدوء إلى المدينة.
اتجه إلى الإسكندرية كل من الخديوي وكبار الأعيان مثل نوبار باشا ورياض باشا وانضم إليهم شريف باشا وسلطان باشا. وهناك ألف الخديوي وزارة برئاسة راغب باشا، بينما كانت القاهرة تحت سيطرة الوطنيين.
هاجم الأسطول البريطاني الإسكندرية يوم 11 يوليه فحوّلها إلى أنقاض.وأصدر عرابي أمراً بانسحاب الحامية من المدينة المحترقة وغادرها معه آلاف السكان، وأعدت خطة للدفاع عن الشمال أعجزت الإنجليز عن التقدم عند كفر الدوار، بينما أعد رئيس الأركان محمود فهمي خطة أخرى للدفاع عن الشرق، تقضي بتعطيل قناة السويس وسد ترعة الإسماعيلية، لكن فرديناند ديليسبس تعهد لعرابي بأنه لن يسمح للقوات البريطانية بالنزول في منطقة القناة، وقبل عرابي منه هذاالتعهد وكانت تلك غلطته الأولى حربيا وسياسيا كما يرى الكاتب أحمد حمروش. وحدثت موقعة التل الكبير يوم 12 سبتمبر بهجوم بريطاني مفاجئ، لاذ البدو بعده بالفرار ورموا عرابي بالحجارة. فهرع عرابي للقاهرة حيث عقد مجلس طوارئ مصرّاً على مواصلة النضال، مقترحا تشكيل تحصينات حول القاهرة وإغراق الوادي حول القاهرة. لكن كبار الملاك والأعيان صوتوا من أجل الاستسلام وخضع عرابي لهذا القرار، رغم وجود قوات سليمة في الشمال، وكانت تلك غلطته الثانية والأخيرة، وقد استسلم للبريطانيين يوم 14 سبتمبر نتيجة لخيانة شيوخ البدو وأعيان القاهرة[3].
جيش جديد بقيادة إنجليزية
وبعد خمسة أيام من احتلال القاهرة وفي 14 سبتمبر 1882، أصدر الخديوي توفيق مرسوماً بتسريح الجيش الذي أسسه محمد علي. وفي 24 أكتوبر أصدر أمرا بتجريد الضباط الذين اشتركوا في الثورة العرابية، من رتبة ملازم ثان وحتى يوزباشي (نقيب) من رتبهم وحرمانهم من معاش التقاعد وإقامة كل منهم في بلده ومعاملته أسوة بأفراد الأهالي، مع العفو عنهم في جريمة العصيان.
أما الضباط من رتبة صاغ (رائد) وحتى رتبة فريق، فقد حوكموا وصدر الحكم على بعضهم، وأما الذين لم تصدر بحقهم أحكام، فقد صدر أمر في أول يناير 1883 بالعفو عنهم في جريمة العصيان مع تجريدهم من رتبهم وحرمانهم من معاش التقاعد، وشمل ذلك كل من اشترك من هؤلاء الضباط في حادثة قصر النيل في أول فبراير أو في مظاهرة عابدين في 9 سبتمبر 1881، وكل من وجد تحت السلاح في تاريخ11 يولية 1882.
وقد حوكم العرابيون السبعة محاكمة صورية وحكم عليهم بالإعدام، قبل أن يخفف للنفي المؤبد، وصودرت أملاكهم وجُرّدوا من جميع الرتب والألقاب، وتم محو أسمائهم من سجلات الجيش.وبهذا تم القضاء على الجيش الذي أسسه محمد علي باشا ،والذي كاد أن يتحول لجيش مصري حقيقي بقيادة وسياسة مصرية تدافع عن إقليم الدولة المصرية الوليدة[4].
وبعدها تم تعيين السير إيفلين وود قائد جيش الاحتلال، ليكون قائداً عاماً للجيش المصري الذي تقرر أن ينخفض عدده إلى ستة آلاف جندي. وتبع ذلك إغلاق كل المدارس الحربية عدا مدرسة واحدة. كما أغلقت ترسانات الأسلحة والمدرسة البحرية، وعطلت الترسانة البحرية، وبيعت السفن الحربية[5].
التخلص من بقايا جيش عرابي في السودان
وفي أكتوبر 1882 أرسلت الحكومة البريطانية اللورد دوفرين Dufferin سفير بريطانيا في تركيا في بعثة خاصة إلى مصر، لإنشاء جيش جديد بقيادة إنجليزية لا يزيد عن ستة آلاف جندي. وقد تم استبعاد جميع الأجانب من ألبانيا و الأناضول وأي مكان آخر واستثنى الأتراك المتمصرون.[6] وفي بداية عام 1883 كان هناك 25 ضابطاً بريطانياً يتولون المناصب القيادية في الجيش المصري، أما صغار الضباط فكانوا يُختارون من الأسر الموالية للإنجليز والخديوي. وبذلك دخل العسكريون المصريون مرحلة جديدة لم تعد لهم فيها القيادة، كما أدخل الاحتلال البدل النقدي عام 1886 ليصبح التجنيد في الجيش قاصراً على الفقراء، ويعفى منه أبناء الضباط ورجال الدين وموظفو الحكومة وطلبة المعاهد الدينية. مما أدى إلى زيادة الفارق الطبقي بين الجنود والضباط، وقتل روح الجندية بين جماهير الشعب[7].
لم تشمل الإجراءات البريطانية الجيش المصري في السودان، فقد كانت الأولوية لتأمين الوضع الداخلي في مصر، وبناءً على ذلك اتبعت سياسة عدم إمداده بأية تعزيزات عسكرية بريطانية أو هندية لمساعدته في العمليات التي تجري هناك. وكانت ثورة المهدي مشتعلة هناك فاستفادت منها للتخلص من الضباط والجنود المصريين الذين اشتركوا في الثورة العرابية وما سبقها من تمرد وعصيان. فقد بعث اللورد دفرين رسالة إلى اللورد جرانفيل Granville وزير المستعمرات في نوفمبر 1882 ذكر فيها أن هناك فائدة ينبغي التفكير فيها ،وهي أن الخدمة في السودان ستستهوي كل عناصر الفتنة والاضطراب في مصر من الضباط والجنود الذي أعلنوا تذمرهم أيام الخديوي إسماعيل، والذين طُردوا من الخدمة أيام جيش العرابيين، والذين يمكن بهم دعم الموقف في السودان. وبناءً على ذلك، فعندما بعث عبد القادر حلمي باشا في طلب تعزيزات عسكرية من القاهرة، لم تعترض سلطات الاحتلال، وأخذت الحكومة المصرية بالفعل في إعادة تجميع جيش عرابي المنحل، وتجنيد الصالحين منهم للخدمة من هذا الجيش، وأقيم معسكر تدريب في القناطر الخيرية لهذا الغرض. وأمكن إرسال نجدة من 5 آلاف جندي للخرطوم، فوصلتها في ديسمبر 1882، كما تم تعيين الجنرال هيكس Hicks خلفا لعبد القادر باشا حلمي. وعندما وصل الخرطوم في 7 مارس 1883 كان قد أصبح تحت إمرته من فلول جيش عرابي 12900 جندي. وقد وقعت الكارثة عندما خرج الجنرال هيكس يوم 8 سبتمبر 1883 في حملته على كردفان، وكان جيشه مكون من 10 آلاف جندي، فلما وصل إلى غابة شيكان، فوجئ بالدراويش (أنصار المهدي) يحيطون به من كل جانب، بينما كان جنوده قد أنهكهم التعب والجوع والعطش والخوف، فأبيد هذا الجيش كله يوم 5 نوفمبر1883، ولم ينج منه إلا 300 كان معظمهم من الجرحى. وبذلك تحققت الأهداف التي تحدث عنها اللورد دوفرين. ومما يؤكد ذلك هو شن عمليات عسكرية كبيرة لمهاجمة المهدي في قواعده الحصينة في كردفان، بدلا من الاكتفاء بتدبير الدفاع عن الخرطوم.[8]
قد اكتملت أبعاد هذه الخطة بعد مصرع آلاف من جنود الجيش المصري، عندما طلبت الحكومة البريطانية من مصر بإخلاء السودان. وعندما رفض شريف باشا هذا الطلب، أرسل اللورد جرانفيل وزير المستعمرات برقية في يناير 1884 تفيد بأن من لا يريد اتباع نصائح الاحتلال، فعليه أن يتخلى عن منصبه ،فاستقال شريف باشا في 7 يناير 1884. ثم جاءت وزارة نوبار باشا في 10 يناير لتصدر تعليماتها بإخلاء السودان[9].
وعلى الرغم من أن تنفيذ مهمة إخلاء السودان كان يتطلب إرسال قوة عسكرية بريطانية لتأمين سحب القوات المصرية والمدنيين المصريين وحماية النساء والأطفال من النهب والقتل وهم يقطعون مئات الأميال، إلا أن الاحتلال البريطاني فضل ترك القوات المصرية في السودان تواجه خطر الإبادة. وقد كشف موقف الحكومة البريطانية إزاء القوات المصرية، رد اللورد كرومر «بأن الحكومة البريطانية ليس عليها التزام أدبي بإنقاذ الحاميات المصرية»، وذلك عندما قال جوردون «إن التخلي عن هذه الحاميات عار لا يمحى».[10].
وكان من نتيجة موقف الحكومة البريطانية أن أبيد أكثر من 33 ألف جندي مصري من حاميات المدن السودانية المختلفة، وأثناء سقوط الخرطوم وكسلا وسنار خلال عامي 1884 و1885.[11] في عام 1885 نجح المهدي في تحرير الخرطوم من الإنجليز وانتصرت ثورته وقُتل الجنرال جوردون الحاكم العام الانجليزي.
اقرأ أيضا:
(يتبع)
[1] – أحمد حمروش: نفس المرجع السابق، ص ص55-56
[2] – دكتور عبد العظيم رمضان: نفس المرجع السابق، ص ص 18-19
[3] – أحمد حمروش: نفس المرجع السابق، ص ص 56-61
[4] – دكتور عبد العظيم رمضان: نفس المرجع السابق، ص ص 30-31
[5] – أحمد حمروش: نفس المرجع السابق، ص ص 63-64
[6]– دكتور عبد العظيم رمضان: نفس المرجع السابق، ص 32
[7]– أحمد حمروش: نفس المرجع السابق، ص 64
[8] – نفس المرجع السابق، ص ص 48-52
[9] – أحمد حمروش: نفس المرجع السابق، ص 64
[10] – دكتور عبد العظيم رمضان: نفس المرجع السابق، ص 56
[11] – أحمد حمروش: نفس المرجع السابق، ص 66