فى ظل حراك ثقافى نخبوى إستثنائى وتجاذبات فكرية خَلاّقة ونضال وطنى من أجل الإستقلال وجدل سياسى – فكرى حول علاقة مصر بالغرب من جهة، وعلاقتها بالدولة العثمانية من جهة أخرى، ووسط فوران إجتماعى وثقافى وسياسى، وُلد «قاسم أحمد أمين» فى الأول من ديسمبر عام 1863م لأب كردى عمل فى الجيش المصري حتى وصل إلى رتبة أميرالاى، وكان جده من أمراء الأكراد، وأم مصرية، وكان قاسم أكبر أبنائهما. وهو نفس العام الذى بدأ فيه حكم الخديوى إسماعيل، الذى قاد مرحلة تحديث فى مصر فى مجالات عديدة، كما أنه نفس العام الذى قاد فيه «إبراهام لينكولن» ثورة تحرير العبيد فى أمريكا.
أثرت نشأة قاسم أمين الأرستقراطية فى انشغاله بالقضايا الإجتماعية مبكرا، حتى صار واحدا من رموز التنوير فى مصر والعالم العربى. ورغم حالة الإنفتاح السياسى والفكرى فى تلك المرحلة.. ذلك الإنفتاح الحذر فى بداياته، إلا أن قاسم أمين واجه هجوما عنيفا وقاسيا، بمجرد أن طرح رؤيته لتحرير المرأة فى عام 1899- ولم يكن قد أكمل حينها عامه السادس والثلاثين – فى كتابه المُؤسِس «تحرير المرأة»، الذى خرج بدعم فكرى كبير من الإمام محمد عبده وأحمد لطفى السيد وتستمر معركة فكرية وإجتماعية لم تتوقف رحاها حتى الآن فى عالمنا العربى والإسلامى رغم مرور 120 عام من صدور «تحرير المراة»
فتح قاسم أمين جرحا ما يزال ينكؤه الكثيرون كل حين، وهو وضع المرأة فى المجتمعات العربية، وفى القلب منها المرأة المصرية وخاض حروبا فكرية شرسة دفاعا عن وجهة نظره.
دفاعا عن المصريين
إرتبط قاسم أمين منذ شبابه بكتيبة الإصلاح الدينى والفكرى التى شهدتها مصر فى تلك المرحلة ومن أهم رموزها الشيخ جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده وأحمد لطفى السيد إضافة الى زعيم الأمة سعد زغلول
وقد تخرج قاسم من مدرسة الحقوق والإدارة عام 1881، و كان أول خريج منها، وعمل بعد تخرجه بفترة قصيرة بالمحاماة ثم سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا والتحق بجامعة مونبلييه وأنهى دراسته القانونية بتفوق عام 1885، وأثناء دراسته بفرنسا توثقت صلاته مع جمال الدين الأفغاني ومدرسته الفكرية حيث كان المترجم الخاص بالإمام محمد عبده في باريس.
انضم قاسم امين إلى كُتَّاب جريدة «المؤيد» التى أسسها الشيخ على يوسف والشيخ ماضى أبو العزايم وكتب قاسم أمين 19 مقالا على صفحاتها كانت جميعها حول أهمية الإصلاح الإجتماعى وكيفية تحقيقه.
وبعد عودته من فرنسا بتسع سنوات وتحديدا فى عام 1894 ألف أمين كتابا بعنوان «المصريون» باللغة الفرنسية تولى فيه الرد على الدوق «داركور الذي كتب عن المصريين وجرح كرامتهم وقوميتهم وطعن فى الدين الإسلامي وبحث قاسم أمين فى كتابه العلل الاجتماعية التي انتشرت فى المجتمع وحمل لواء المصلح ودافع عن مصريته التى أساء إليها «داركور» والغريب أن قاسم أمين دافع فى هذا الكتاب عن الحجاب وانتقد تحرر المرأة الأوربية
وواصل أمين معاركه الإصلاحية لكنه خاض معركته الأكثر ثورية بل والأشد خطورة وهى معركة تحرير المرأة المصرية وما تمثله من تطور تقدمى هام فى مسيرة مصر والوطن العربى
وربما يعتبر الكثيرون من المتابعين والباحثين أن المعركة الفكرية التى خاضها قاسم أمين بكل جسارة، هى التى مهدت للخطوة التى أقدمت عليها المرأة المصرية بقيادة هدى شعرواى ورفيقاتها عندما قررن التخلص من غطاء الوجه الذى كان سائدا فى تلك الفترة.
إتهام بالكفر
كانت معركة قاسم أمين الكبرى عندما قدم كتابه «تحرير المرأة» عام 1899 والذى إشتبك فيه مع قضيتين شديدتى الحساسية حينذاك، وهما قضية حجاب المرأة بشكله الذى كان سائدا فى ذلك الوقت، وقضية تعدد الزوجات. وقد أثار الكتاب جدلا أظنه لم ينته بعد، وصنع تطورا أظنه لم يستكمل بعد رغم كل ما تحقق. فبمجرد أن خرج الكتاب للنور تبارى رموز المجتمع من جهة وعدد من رجال الدين من جهة أخرى فى الهجوم على أفكار الكتاب، بل والهجوم على الكاتب نفسه وتوجيه سهام النقد التى بلغت حد التكفير فى بعض الأحيان. حيث اتهم الشيخ عبد العزيز جاويش قاسم أمين قائلا «لقد كاد قلم قاسم أمين أن يجلب البلاء على الأمة الإسلامية فى موضوع المرأة لولا أن تنبهت لكتاباته القوى الإسلامية فجعلت تطارد تعاليمه وتحارب إرشاداته». وتواصلت الحملة العنيفة على كتاب «تحرير المرأة» ومؤلفه حتى أن الزعيم الوطنى مصطفى كامل إعتبر ما طرحه قاسم أمين من أفكار إنما يخدم الإحتلال الإنجليزى ويروج لأفكاره. فى حين كتب الإقتصادى الكبير طلعت حرب كتاب «فصل الخطاب فى المرأة والحجاب «ردا على كتاب قاسم أمين، وأيضا كتب محمد فريد وجدى ردا على تحرير المرأة كتاب «المرأة المسلمة»
وبعد عامين من كتابه يصدر قاسم كتابا جديدا بعنوان «المرأة الجديدة» الذى يكمل فيه ما طرحه فى كتابه السابق. ويقول قاسم أمين فى مقدمته «إذا كان فى المسألة قولان فمن الصواب أن يرجح القول الموافق للحرية الإنسانية وللمصلحة العامة.
ويضيف فى المقدمة «إنما نكتب لأهل العلم وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التى هى مستودع أمانينا فى المستقبل».
الكتاب الأخير
واصل قاسم أمين إصراره على موقفه حتى آخر كتاباته، وذلك فى كتابه الذى ربما لا يسمع عنه الكثيرون والذى تم طبعه بعد وفاته بعنوان «حقوق النساء فى الإسلام»، وهو الكتاب الأخير لمحرر المرأة. وقد قام «على أفندى الحطاب» وهو ناشر شهير بالإسكندرية فى هذا العصر بطبعه على نفقته الخاصة وكتب على غلافه «تأليف سعادة المرحوم قاسم بك أمين المستشار بمحكمة الإستئناف الأهليه المصرية سابقا».
فى هذا الكتاب واصل قاسم أمين تقديم الأدلة والبراهين الشرعية التى تؤكد مكانة المراة فى الإسلام ومساواتها فى كافة الحقوق الإجتماعية. كما رد على من انتقدوه ووصفوه بأنه يدعو للسفور والإنحلال ويهدم قيم المجتمع المسلم وقال «وأما خوف الفتنة الذى يطوف فى كل سطر مما يكتب فى هذه المسألة فهو أمر يتعلق بقلوب الخائفين من الرجال وليس للنساء مطالبة بمعرفته، وعلى من يخاف الفتنة من الرجال أن يغض بصره». ويضيف قائلا «إن المرأة لا تكون ولا يمكن أن تكون ذات وجود تام إلا أذا ملكت نفسها وتمتعت بحريتها الممنوحة لها بحكم الشرع».
لم يتوقف دور قاسم أمين عند دوره الثورى فى قضية تحرير المرأة، لكن دوره الإجتماعى امتد لمناحى كثيرة حيث كان عضوا فى جمعية العروة الوثقى التى أسسها الشيخان «محمد عبده وجمال الدين الأفغانى». كما كان سكرتيرا للجنة إنشاء جامعة القاهرة وأبرز الداعين لضرورة إنشاء جامعة مصرية.
كما خاض قاسم أمين معارك فكرية مطالبا بتجديد اللغة العربية وتخليصها من التكلف والمبالغات اللغوية، ساعيا إلى البساطة فى التعامل مع اللغة لكن هذا المطلب واجهته مصاعب عديدة وتحديات بالغة ربما تشبه إلى حد كبير ما واجهه بعد عقود الدكتور طه حسين.
رحل قاسم أمين فى 23 أبريل 1908 عامه قبل أن يكمل عامه الخامس والأربعين بشهور تاركا أفكارا تثير الجدل حتى الآن، فقد كان بحق مفكرا سابقا لعصره.
صورة المقال بريشة الفنان سعد الدين شحاته
الفيديو
نص: بلال مؤمن
تحريك ومونتاج: عبد الله محمد