ربما لا يعرف كثيرون من الأجيال الجديدة في مصر من هي مفيدة عبد الرحمن، التي احتفى محرك البحث العملاق «جوجل» بذكرى ميلادها السادسة بعد المائة / الأثنين 20 يناير /، رغم أنها تعتبر واحدة من الرائدات المصريات الكبيرات والملهمات في التاريخ المصري الحديث.
فمفيدة عبد الرحمن التي كتبت أسمها بحروف مضيئة، في سجل الرائدات المصريات، كانت رمزًا مهما لنضال المرأة المصرية من أجل نيل حقوقها، وتخطى أي عقبات أمام طموحاتها في النجاح و التحققق، كما كانت واحدة ممن ساهموا في تمهيد الطريق لمن بعدها من النساء لإكمال ما بدأته. إذ كانت أول إمراة مصرية تمارس مهنة المحاماة في مصر، كما كانت أول محامية في مصر والعالم العربي تترافع أمام المحاكم العسكرية العليا، وأول محامية مصرية تقيد بمحكمة النقض، بالإضافة إلى كونها أول امرأة ترفع دعوى أمام المحاكم في صعيد مصر.
ولدت مفيدة عبد الرحمن في مثل هذا اليوم قبل 106 أعوام (20 يناير 1914)، بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، وكان والدها خطاطا للمصحف الشريف، حيث كتب المصحف 19 مرة. وفي مقتبل حياتها كانت تحلم بدراسة الطب، لكنها تخلت عن هذا الحلم من أجل الزواج والانجاب، غير أن الأقدار كانت تخبىء لها شيئا آخر.
فكما أن وراء كل رجل عظيم إمراة -كما تقول الحكمة الشائعة، فإنه وبالمثل، وراء كل إمراة عظيمة وناجحة رجل محب وزوج متفهم ومشجع. وهذا ما حدث مع الراحلة مفيدة عبد الرحمن، فقد شجعها زوجها محمد عبد اللطيف (الكاتب الإسلامي وتاجر المصاحف) على الالتحاق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) عام 1935، لتحصل منها على ليسانس الحقوق عام 1939.
عن دور زوجها في تشجيعها للالتحاق بكلية الحقوق، وقد روت مفيدة عبد الرحمن أنها فوجئت بعد تقديم أوراقها برفض عميد الكلية قبولها، بعد علمه أنها زوجة وأم، حيث أصر على مقابلة زوجها للحصول على موافقة كتابية منه. ليظهر زوجها مساندا وداعما لها، وقد نجح في إقناع العميد، الذى استغرب من إصرار زوجها على دخولها الكلية، لتصبح مفيدة عبدالرحمن أول فتاة تدرس الحقوق في مصر، وأيضًا أول أم وزوجة تدخل الجامعة.
ولم تقف طموحات مفيدة عبد الرحمن عند الحصول على شهادة الحقوق، بل قررت، وبتشجيع من زوجها أيضا، أن تخوض غمار مهنة كانت حكرا على الرجال آنذاك، وهي مهنة المحاماة. ولم يمنعها الزواج ولا الأولاد الخمسة، من الاقدام على هذه التجربة التي كانت أقرب للمغامرة الاجتماعية والمهنية، في ذلك الزمان.
كانت أول قضية تولت مفيدة عبد الرحمن الدفاع والترافع فيها، هي قضية «قتل غير متعمد»، وقد استطاعت الفوز بها، وتمت تبرئة موكلها، لتنال بعد هذه القضية شهرة كبيرة في الأوساط القضائية والاجتماعية المصرية، لتتوالى عليها القضايا في القاهرة وغيرها، حيث كان الناس يطلبونها بالاسم. والطريف هنا أنها كانت تذهب أحيانا للترافع في بعض القضايا وهي حامل في شهورها الأخيرة.
لكن طموحات مفيدة عبد الرحمن لم تتوقف عند تحقيق حلم المحاماة والنجاح فيه، بل قررت أن تخوض مغامرة أخرى، وهي اقتحام عالم السياسة والحياة العامة والبرلمانية، فأنتخبت عضوا بمجلس الأمة المصري (مجلس النواب حاليا) عن دائرة الظاهرة والأزبكية بالقاهرة، وهي أم لتسعة أبناء، وكانت أول امرأة مصرية تحتفظ بعضوية مجلس الأمة طوال 17 عاما.
وخلال عضويتها بالبرلمان شاركت مفيدة عبد الرحمن فى أعمال لجنة تعديل قوانين الأحوال الشخصية في مصر، كما شاركت فى وضع وسن بعض القوانين المنظمة لشؤون، بما فى ذلك الزواج والطلاق وغيرها. ورغم الحياة العملية الشاقة التي اختارتها لنفسها، استطاعت مفيدة عبد الرحمن أن تحقق هذا التوازن الصعب – الذي تعجز كثير السيدات عن تحقيقه – بين واجباتها كزوجة وأم، وبين التزاماتها وعملها كمحامية وبرلمانية ومنخرطة في الشأن العام، لتنال عن جدارة، لقب «الأم العاملة المثالية». خلال لقاءاتها الصحفية والاذاعية العديدة كانت مفيدة عبد الرحمن كثيرا ما تعبر عن امتنانها وتقديرا لزوجها، الذي كان مصدر الدعم والتشجيع الذي دفعها للدراسة ثم العمل، وكان السبب الأول فى نجاحها في التوفيق بين مهامها المتعددة في الحياة.
وقد ترأست مفيدة عبد الرحمن الاتحاد الدولى للمحاميات والقانونيات بالقاهرة، وتعاونت مع الأمم المتحدة في القضايا الخاصة بالمرأة وتنظيم الأسرة، وقد أنشأت العديد من مكاتب توجيه ومساعدة الأسرة التي عنيت بالتصدي للمشاكل الأسرية، فضلاً عن اقامة عدد من بيوت الطالبات التي آوت مئات الطلابات المغتربات من خارج القاهرة.
كما شغلت عضوية مجلس نقابة المحامين، ودربت عبر مسيرتها المهنية الحافلة عشرات المحاميات الشابات. وقد ظلت تعمل بالمحاماة حتى بلغت الثمانين من عمرها لتتقاعد بعدها. وفي الثالث من سبتمبر 2002 رحلت مفيدة عبد الرحمن عن عمر ناهز 88 عامًا، بعد رحلة عطاء طويلة وتجربة ثرية ألهمت الآلاف من النساء المصريات للسير على نفس الدرب من أجل تحقيق أحلامهن وطموحاتهن.