في مأساة تراجيدية، تحولت حياة الزعيم أحمد عرابي قائد الثورة الذي حاصر بقواته سراي الحكم في عابدين، وواجه الخديوي توفيق وأجبره على الاستجابة لمطالب الأمة، إلى سلسلة من الانكسارات والهزائم بعد أن سيق هو ورفاقه إلى محاكمة هزلية قضت بإعدامهم في 3 ديسمبر من عام 1882، بتهمة العصيان بعد هزيمتهم أمام الإنجليز في التل الكبير، ثم تم تخفيف الحكم إلى النفي مدى الحياة في جزيرة «سرنديب» أو «سيلان».
اكتملت الدراما لتتحول تلك الجزيرة التي يطلق عليها أصحابها «جنة آدم» إلى «الجحيم»، فرفاق الثورة الذين تمردوا لرفعة الوطن وتحريره اختلفوا على توزيع المنحة الحكومية الشهرية المقررة. نال منهم المرض والعجز المبكر، وحلق الموت فوق الرؤوس ليحصد الأرواح، ولم يبق منهم سوى عرابي ورفيق السلاح محمود سامي البارودي، عادا إلى الوطن بعد نحو 20 عاما كهلين، ليكتشفا أن ثورتهم ضاعت، وأن نضالهم أهيل عليه التراب ،ليس من الإنجليز أو السرايا فقط، بل من أبناء جلدتهم الذين بدأوا حركة جديدة على أنقاض هزيمتهم.
أحمد عرابي. بريشة الفنان: سعد الدين شحاتة
مأساة الحصار والإبعاد
أمضى عرابي ورفاقه في «سرنديب» أسوأ أيام حياتهم، فقد كانوا «يعيشون فى حصار دائم، وانقطعت السبل بينهم وبين مصر، ولا ترد إلا أخبار السوء والجو رطب وموحش وكئيب، ولا أحد يدرى متى يعودون مرة أخرى، وتمتلئ القلوب التى عاشت معا أروع نبضات العمر بالأسى، وتتسلل إليها عواصف تزكم الأنوف، ويتزوج عرابى جاريتين كانتا تخدمان ابنه، وتتضاءل الأهداف الكبرى، ويعيش الرجال مأساة الحصار بكل أبعادها، فيتشاجرون كأطفال صغار حول أشياء لا معنى لها، وكأنهم ما وقفوا يوما معا يقاتلون من أجل انتصار الحياة، ومن أجل هزيمة الخبائث والتفاهات»، هكذا يصف الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى دراما حياة عرابي ورفاقه (محمود فهمى باشا، عبدالعال حلمى، طلبة عصمت، يعقوب سامى، محمود سامى البارودى، على فهمى) بالمنفى في كتابه «الثورة العرابية»، متسائلا: كيف يقتل الحصار نقاء القلوب، وكيف تتسلل إليها عفونة الموت فى غفلة عن أصحابها؟. ويجيب: ذلك شىء لا يفهمه إلا من كابده من الرجال.
أما الدكتورة لطيفة سالم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، فقد تناولت الواقع الذي عاشه عرابي ورفاقه في المنفى غرباء عن وطنهم بعيدا عن أهلهم، ووثّقت تفاصيل ما جرى في جزيرة سرنديب في كتابها «عرابي ورفاقه في جنة آدم». وقالت: «بعد مضي 4 أشهر من وصولهم إلى سرنديب قدم عرابي ورفاقه لحاكم الجزيرة عريضة موقعة منهم بينوا فيها أنهم يعترفون بما أقروا به، ويؤكدون تمسكهم بكلمة الشرف التي أعطوها، لكنهم أكدوا أن ذلك صدر منهم للحكومة البريطانية التي يمثلها مبعوثها «ديفرن»، الذي هو ليس مبعوث الخديوي توفيق، وبالتالي فهم في حل من هذا الوعد بالنسبة للحكومة المصرية، ثم أشاروا إلى انتصار الإنجليز على مصر، وأنهم أصبحوا أسرى حرب وعلى بريطانيا أن تبر بوعدها لهم والذي بناء عليه أقروا بعصيانهم خلافا للواقع».
رد «ديفرن» على المنفيين ودحض قولهم وبيّن أن الأمر لا يختلف سواء بالنسبة للحكومة البريطانية أو الحكومة المصرية، ومن ثم فشلت تلك المحاولة وأن اعتبرت نوعا من التمرد لم يكونوا ألفوه أثناء النفي.
وفي مارس 1884 انتشرت شائعات تفيد بأن عرابي وصديقه محمود فهمي يستعدان للعودة إلى مصر، وعلى الفور كتب كامبل مفتش البوليس العام بالجزيرة للحاكم وصرح بأنه لاحظ نشاطا غير معتاد بين المنفيين، فدائما ما يجتمعان في منزل عرابي، وأن لهما زائرين كثيرين ويتردد عليهما بحارة فرنسيون وبعضهم يبقى لوقت متأخر من الليل ومن الممكن اصطحابهما معهما بسهولة، وانتهى المفتش إلى قراره بأنه سيقبض على كل من يحاول الهرب.
الحج إلى منزل عرابي
مع ذلك لم تتمكن بريطانيا من تحويل المنفيين إلى أفراد عاديين خاصة عرابي، وكُسرت سياسة العزلة، وبدأت تفد على عرابي مراسلات من بعض حكام ممالك جنوب شرق آسيا (سيام، وسنغافورة، والملايو)، تفيض بالفخر به، وبعضها يشيد به ويركز على نسبه الذي يصل إلى ابن عبد مناف.
وكان من الصعب على شرطة سيلان منع الزيارات إلى منزل عرابي خاصة بعد أن اتسعت صداقاته وتوافد عليه الكثيرون فقد أصبح مسلمو الهند يمرون عليه أثناء رحلة الحج إلى مكة، وتعلق أحد الصحف على ذلك «أنهم جاءو ليعبروا عن تقديرهم للرجل الذي يعتبرونه بطل الوطنية المصرية، والذي ساقه القدر ليكون أحد سكان هذه الجزيرة، تلك التي تمتعت بمكانة دينية لهبوط آدم عليها».
ومما لا شك فيه أنه كان للمسحة الدينية التي كانت ترتسم على وجه عرابي أثرها، فارتباطه بالمساجد ومداومته على قراءة القرآن الكريم مسحت عليه طابعا دينيا خاصا لدى الناس فأقبلوا عليه وتقربوا منه، فكان له في قلوبهم مكانة كبيرة، حتى أن عددا كبيرا منهم أسلم على يديه، وتعلموا بعض الطقوس والاحتفالات الدينية مثل الاحتفال بليلة النصف من شعبان والمولد النبوي وليلة القدر.
ولمكانة عرابي الكبيرة في قلوب أهل الجزيرة كانوا يطلقون عدة طلقات من مدفع بجوار المسجد الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة كل أسبوع، وبعد مغادرته سرنديب وعودته إلى مصر قاموا بتشييد مسجد ومقام بإسمه لا يزال باقياً إلى الآن.
أنشأ عرابي هناك كلية «الزاهرة» لتعليم أصول العقيدة الإسلامية وتعليم اللغة العربية لأول مرة فى الجزيرة بجانب تعليم اللغة الإنجليزية، وكان عرابى أول من أدخل الطربوش للجزيرة فسرعان ما قلده المحليون فى إرتدائه.
المنزل الذي نفي إليه أحمد عرابي في سيلان
شاي ليبتون ومانجو هندي
وفي «سرنديب» التقى عرابي ورفاقه الكبار بالسير «توماس ليبتون» صاحب مزارع الشاي الشهير، فدعاهم ليتناولوا معه مشروب الشاي لأول مرة، فاستساغوه وأعجبهم وأصبح الشاي مشروبهم الأول فى المنفى، فأرسل عرابى باشا بعض هدايا من الشاى إلى بعض أصدقائه وأهله فى مصر ليجربوه، فأعجبهم الشاي كثيرا.
ويقول عرابي في مذكراته: «أرسلنا إلى صديقنا المرحوم أحمد باشا المنشاوي تقاوي لزرع 20 فدانا حتى يعم انتشاره، كما أرسلنا لهذا الغرض أحسن أنواع المانجة والموز الأحمر والأصفر المضلع أيضا وغيره من الأصناف المتعددة من الفاكهة الزكية الرائحة اللذيذة الطعم مما رجوت انتشاره في مصر،وبعثنا إليه بأنواع الحبهان والقرنفل والمنلا الطيبة الرائحة، ثم زرنا مصنع صديقنا السير ليبتون بجهة بيراسيا ومكثنا بها شهرا أيضا».
السير توماس ليبتون
مساومة عرابي
واستقبل عرابي صديقه الإنجليزي مستر بلنت، وكان من أشد المدافعين عنه، وكان له دور مهم في تخفيف الحكم الصادر ضده وضد رفاقه من الإعدام إلى النفي. وأخبر بلنت عرابي أن الخديو توفيق ضعيف ولن يبقى أكثر من سنتين وفي هذه الحالة ستخمد المعارضة ويعود المنفيون إلى بلادهم، وتوقع لو حدث ذلك أن يتولى عرابي رئاسة الوزراء.
وأبلغ بلنت عرابي في خطاب بعث به إليه في أبريل 1884، بأن الأمل في العودة للوطن أصبح أكبر منه في أي وقت مضى، والسبب في ذلك يرجع إلى أن «الحكومة البريطانية وجدت نفسها في مصر أمام صعوبات كبيرة، وفي مقدمتها اضطراب الحالة المالية، ثم مسألة المهدي في السودان، وبالتالي أصبحت شديدة الميل إلى الجلاء عن مصر، وترى أنه لابد لها قبل تلك الخطوة من أن تقوم في مصر حكومة ثابتة وأمير يستطيع أن يكون على اتفاق مع ثائر السودان، ولهذا فمن المحتمل أن تتخلى عن توفيق لعدم قدرته على الحكم لتضع زمامه في يد غيره قبل جلاء قوتها عن مصر».
وبين «بلنت» لعرابي الخطر المحيط بـ«جوردون» في الخرطوم، والمتمثل في الهزائم التي تتعرض لها القوات البريطانية على أيدي رجال المهدي، والذي قد يجبر حكومة بريطانيا على اتخاذ قرار سريع، وأنه اقترح عليه أن يذهب كمبعوث للمهدي للحصول على السلام، ولانقاذ حياة جوردون، وفي حالة قبول اقتراحه لابد من موافقتها على خطته بشأن وجود حكومة صالحة في مصر.
ويضع «بلنت» أمام عرابي عدة تساؤلات واستفسارات، فيطلب منه صراحة الشروط التي تمكنه من العودة إلى مصر ،وأنه يعلم أن في استطاعته قبول العمل مع الأمير حليم باشا، ويتطرق إلى مدى موافقته على العمل مع الخديوي إسماعيل في حال عودته إلى العرش، وأشار إلى موافقة إسماعيل على أن تكون قيادة الجيش من نصيب عرابي.
ويأتي رد عرابي على بلنت بعدها بأسابيع، ليسجل له أن إسماعيل شخص مخادع وصاحب سمعة سيئة لانعدام أمانته، وأنه السبب فيما حاق بمصر من انهيار، وأن الدين الذي يخنقها يرجع إلى أفعاله، وأنه لا يوجد في أسرة محمد علي من لديه المؤهلات المطلوبة لتولي العرش، لكنه يشير إلى إمكانية تولي حليم باشا الحكم، ويحلل أحقيته بأنه الوريث المباشر لمحمد علي، كما أنه يلقى الترحيب من المصريين، وتعرض لمحن جسيمة ووقع عليه الظلم، وأخيرا يصل إلى بيت القصيد، أنه بامكانيته عقد معاهدة بين المهدي والحكومة المصرية.غير أن كل هذه الترتيبات ذهبت هباء بعد ذلك، فمع انتهاء المواجهة مع الثورة المهدية، أُغلق باب التفاوض مع عرابي، واقتصرت مجهودات بلنت على عودة عرابي ورفاقه إلى مصر واستصدار قرار بالعفو عنهم.
ويلفريد سكاون بلنت، أحمد عرابي
خلافات الفقر
ونظرا لقلة المبالغ التي كانت ترسلها الحكومة المصرية للمنفيين، اضطر عرابي ورفاقه إلى التقدم بمذكرة لرفع المبلغ ونجحت وساطة الإنجليز في إقناع الحكومة بإرسال مبلغ 500 جنيه إضافية إلى حاكم سيلان على أن يقوم بتوزيعها علي عرابي ورفاقه وفقا لما يراه.
ونشأت مشكلة بعد إرسال تلك المنحة الجديدة، وتعقدت الأمور بخصوص توزيعها، ومما يلاحظ أن عرابي حصل على نصيب الأسد منها، «فهل كان هناك حرص على إرضائه بمنحه هذا المبلغ دون الآخرين رغم أن غيره كان يعول أكثر منه؟.. وهل جاء ذلك نتيجة لتوصية؟»، تتساءل لطيفة سالم في كتابها.
ويذكر حاكم سيلان أن مسألة التوزيع لم تكن سهلة لأن المنفيين يشكون من الفقر ومصادرة أملاكهم، وأن من معه عدد صغير من أسرته تبين أن وراءه عددا آخر مسئولا منه في مصر، ثم يعرض عليه المعلومات التي جمعها وهي توضح أن زوجتيْ محمود سامي وعلي فهمي لهما ممتلكات تسمح لهما بالعيش، وأن يعقوب سامي ميسور الحال، أما محمود فهمي وطلبة عصمت وعبد العال حلمي فليس لديهم الا معاشاتهم وعليه فقد خصص لهم المبلغ المتبقي بعد أن حجز منه 17 جنيها للطوارئ.
وولد هذا الوضع مرراة بينهم وتظلم يعقوب سامي معتمدا على أساس أنهم جميعهم في المنفى سواء، وكلهم يعتبرون فقراء ولابد من معاملتهم بالتساوي وتبعه من شعر أن الظلم وقع عليه ورفع الأمر إلى لندن، فأشارت بأنه بعد تخصيص المبلغ المقرر لعرابي من المنحة، تطبق المساواة على الباقي ما عدا محمود سامي حيث لا يستحق رفع معاشه لأن إيراد زوجته في مصر 3000 جنيه وأنه إذا تظلم أحد من الخمسة فعليه اثبات دخل الباقين حتى يمكن تمييزه عنهم.
وانتهى الأمر بأن تمتع بالزيادة ثلاثة منهم فقط، لكنهم عادوا ووافقوا على التنازل عن مبلغ من الروبيات لزملائهم ليتساووا معهم، ورفض عرابي إعطاءهم جزءا من الزيادة التي خصته.
وفي 1891 توفى عبد العال حلمي وقررت الحكومة صرف معاش لزوجته قدره 30 جنيها بناء على التماس الزوجة.
واتسع نطاق المشاحنات وبديهي أن يتعرض عرابي لنقمة البعض حيث دبت الغيرة بسبب تلك المكانة التي يتمتع بها في سيلان وهذه الشعبية اللتي أغدقت عليه، ووقع الخصام بينهم، وانتشرت أصداؤه داخل سيلان وخارجها، وأن جرت في البداية بعض المحاولات للصلح وآتت أكلها حينا، وجاء زواج عرابي ليخلق بعض الحساسية وترتب عليه حدوث مقاطعة، ونصح عبدالله النديم صديقه عرابي في رسالة بالارتباط كي إذا عادوا لوطنهم لا تساء بهم الظنون وتميل عنهم القلوب «فائتلفوا قبل الإياب، واقتلوا الضغائن بالعقاب، وحققوا لمن عندكم ترك العدوان حتى تتركوا لكم ذكرا جميلا في سيلان».
عائلة أحمد عرابي السيريلانكية
الموت يلاحق المنفيين
في 19 مارس 1891 توفى عبد العال حلمي نيتجة إصابته بحساسية في صدره، ودفن في كولومبو، بعد أن فشلت توسلات المنفيين في إقناع الحكومتين البريطانية والمصرية بالعودة نظرا لظروفهم الصحية.
تسببت وفاة حلمي في لفت الرأي العام البريطاني إلى الأزمة التي يمر بها المنفيون، وتقدم عضو بمجلس العموم البريطاني بسؤال لوزير المستعمرات عما إذا كان أثار انتباهه أن المتوفي قد شكا من معاناته لأزمة صدرية، وأنه كان يتألم كثيرا ويتوسل لنقله من المكان الذي يعيش فيه، وأن عرابي يعاني من الروماتيزم، ولفت نظره أيضا إلى حالة طلبة عصمت الذي لم يفارقه الربو، وأخيرا سأل عما إذا كانت الحكومة تعتبر أن الحاجة إلى نقلهم لمناخ جاف قد أصبحت أمرا ملحا.
عودة مهزومة
وفي مقابلة مع صحيفة إنجليزية طالب عرابي الرأي العام الإنجليزي بتبني موقفهم، «عشر سنوات في المنفى ضاعت فيها صحتنا وأصبحنا لا نصلح لأي شيء، وانا شخصيا غير قادر على الخيانة أو الإخلال بكلمة الشرف»، يقول عرابي، مشيرا إلى أن عينيه غطاهما السحاب الذي سيحجب عنهما رؤية الضوء إلى الأبد.
وعندما سأله الصحفي عن نظرته للمستقبل، أجاب أنه يريد الموت بين ناسه، ويشاهد مصر قبل أن تأتي ساعته الأخيرة، وفي حالة سماح الحكومة البريطانية بعودته فسيذهب كصديق لبريطانيا لا كعدو، وأنه يوافق على وضعه تحت رقابة البوليس، وأكد تمسكه بوعده الذي أعطاه بالأ يتدخل في السياسة بطريقة أو بأخرى، وانتهى به الحال إلى أنه طلب العفو والرحمة وأشاد بالإنجليز.
ودلت هذه المحاولة، بحسب الدكتورة لطيفة سالم، على الخضوع والاستسلام لكنها كانت أحد الأبواب التي طرقت.
وازدادت حالة عرابي ورفاقه سوءا بوفاة محمود فهمي في 17 يونيو 1894، وكشف التقرير الطبي الخاص بفهمي أنه أصيب بشلل في جنبه الأيسر وثقل في لسانه وجرت محاولات لعلاجه. وبذلك سقط اثنان من المنفيين، وأصبح كل واحد من الباقين ينتظر دوره حاملا فوق أكتافه مشقة التفكير في الموت بعيدا عن الوطن، وهكذا نطقت صورة حياة عرابي ورفاقه في جنة آدم بالعذاب الذي تجرعوه ظلما وبهتانا، لا ذنب اقترفوه سوى أنهم أرادوا الخير لمصر.
محمود باشا فهمي
ومن المفارقات أنه بعد صدور تصريح لطلبة عصمت بالعودة إلى مصر في يناير من 1899 نظرا لسوء حالته الصحية، وفيما يستعد الرجل للعودة توفى رفيقه يعقوب سامي بسبب الإهمال الطبي، و«هكذا سقط الواحد تلو الآخر ودفن ثلاثة في أرض سيلان بعد أن أعياهم المرض وقضت عليهم الغربة».
عاد طلبة باشا عصمت إلى مصر وتدهورت حالته الصحية حتى لقى ربه بعد شهور من وصوله للقاهرة ودفن بمدافن الإمام الشافعي. وبعد أن ضاع بصر محمود سامي البارودي تقريبا إثر إصابته بـ«جلوكوما» صدر الأمر العالي بالترخيص له بالعودة إلى مصر.
ولم يعد في «جنة آدم» سوى عرابي وعلى فهمي، وقد حدث في 12 مايو سنة 1901 أن زار الجزيرة دوق كورنول يورك ولي عهد بريطانيا (الملك جورج الخامس فيما بعد)- فاستقبل عرابي ورحب به وسأله عن صحته وعن حاله، وكانت هذه الزيارة سببا في عودة عرابي.
الملك جورج الخامس، عباس حلمي الثاني
ووصف عرابي ظروف عودته إلى مصر قائلا: «عرضت على سموه أني أعتبر تشريفه للجزيرة فكاكا من الأسر، فتكرم علينا بأنه سيسعى لدى الخديوي في تحقيق أمنيتنا، ثم دارت المخابرة بين سموه وبين الحكومة الإنجليزية والحكومة المصرية في هذا الشأن».
وفي 24 من مايو، والكلام لا يزال لعرابي، جاءنا تلغراف من حاكم الجزيرة يقول فيه: إنه قادم إلينا لبيلغنا شخصيا بصدور أمر الخديوي بالعفو عنا وعودتنا إلى وطننا العزيز، وعند حضوره توجهنا إليه وشكرناه على سعيه وعرضنا عليه أن لنا الحق في السفر على نفقة الحكومة التي حملتنا إلى تلك الجزيرة.
وفي أغسطس بارح علي فهمي باشا جزيرة سيلان، وبلغ القاهرة في أول سبتمبر من السنة المذكورة. ولحقه عرابي بعدها بشهر، «أما احتفال أهل الجزيرة بوداعنا فقد كان عظيما حتى أن أرصفة الميناء غصت بالمودعين».
هكذا قضى عرابي ورفاقه سنوات المنفى، أما عما جرى بعد العودة فلهذا حديث آخر.
المراجع:
«الثورة العرابية» – صلاح عيسى
«عرابي ورفاقه في المنفى» -لطيفة سالم
«أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» محمود الخفيف