عرض وترجمة: أحمد بركات
يعكس وجود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في جميع أنحاء سوريا حقيقة تحول البلاد الآن إلى رقعة فسيفسائية من السيطرة الإقليمية. فقد جاءت هزيمة التنظيم في سوريا على يد قائمة مطولة من الأعداء شملت قوات سوريا الديمقراطية بدعم من الولايات المتحدة والتحالف الدولي، والنظام السوري بمساعدة إيران وروسيا، ومتمردي المعارضة الذين تساندهم تركيا. وقد تقاسمت هذه القوى جميعا فيما بينها المساحة التي كان تنظيم الدولة يهيمن عليها، وتواصل كل قوة من هذه القوات تعقب فلول التنظيم في منطقتها. وتحتفظ كل منطقة من هذه المناطق بسماتها المميزة، ونظامها الأمني الخاص؛ وهو ما دفع بتنظيم الدولة إلى تبني نظام عملياتي يختلف من منطقة إلى أخرى، وتوعد جميع الأطراف بتلقينهم دروسا لن ينسوها.
موجة عمليات داعشية
في شمال غرب سوريا، بما في ذلك محافظة إدلب التي يسيطر عليها المتمردون، استهدفت خلايا تنظيم الدولة السرية المتمردين من خلال عمليات اغتيالات وتفجيرات. وبالمثل أعلن التنظيم مسئوليته عن هجمات في أماكن أخرى في سوريا، بما في ذلك في درعا بجنوب غرب سوريا، التي يسيطر عليها النظام. كما قام التنظيم بشن هجمات أكبر ضد قوات النظام في امتدادات صحراء البادية المفتوحة في وسط سوريا. كما أنشأ داعش معسكرا له في النتوءات الصخرية والكهوف المتناثرة في صحراء البادية، واستخدمه كقاعدة لشن غارات دورية على المواقع العسكرية السورية المفتوحة والمواقع المساعدة لها، التي تقع خارج مدينة تدمر. ويبدو أن وحدات تنظيم الدولة التي تتموقع في صحراء البادية تستطيع أن تجتاز الصحراء وتهاجم بأعداد لا تستطيع حشدها في أماكن أخرى، مثل شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، خاصة في ظل الدعم الذي تحظى به الأخيرة من سلاح الجو التابع لقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
وتضم منطقة شمال شرق سوريا الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية الكثير مما كان يطلق عليه في السابق «الإقليم السوري» التابع لتنظيم الدولة الإسلامية، والذي تحول الآن إلى المسرح الرئيس لانتفاضة التنظيم. رغم ذلك، حتى في داخل هذه المنطقة، ينوع تنظيم الدولة تكتيكاته من موقع إلى آخر. ويُعتقد أن التنظيم لديه شبكات سرية أكثر تطورا في محافظتيْ الرقة والحسكة، حيث تقوم بتنفيذ عمليات معقدة وطموحة نسبيا. ويعتبر السكان هذه المناطق آمنة نسبيا مع وجود بعض الاستثناءات. رغم ذلك، يشير الهجوم الذي نفذه تنظيم الدولة في مدينة الرقة في 9 أكتوبر الماضي إلى تدهور الوضع الأمني، وإمكانية أن يزداد الوضع سوءا في ظل التدخل التركي.
وعلى النقيض من ذلك، حافظ التنظيم في الريف الشرقي من محافظة دير الزور على إيقاع ثابت من العنف ’منخفض المستوى‘. وحتى في الوقت الذي كان يخوض فيه داعش معركة خاسرة للدفاع عن بلدة الباغوز في بداية عام 2019، كان التنظيم يُصعِّد انتفاضته خلف خطوط قوات سوريا الديمقراطية. ومع انتهاء القتال التقليدي، أطلق داعش موجة من العمليات، شملت زرع قنابل على جوانب الطرق، وإطلاق النار من السيارات، واغتيالات ضد المتعاونين المحليين. وكما هو الحال في العراق، ربما لا يكون تنظيم الدولة خلف جميع هذه العمليات، وقد يكون بعض العنف ناتجا عن صراعات محلية لا علاقة للتنظيم بها. ومع ذلك، فقد أعلن تنظيم الدولة مسئوليته عن معظم هذه العمليات، كما تؤيد شهادات السكان المحليين ذلك أيضا. وقد اتسمت هجمات التنظيم بالبساطة من الناحية الفنية، مثلما اتسمت بالكفاءة من الناحية التنفيذية وبالكثافة من الناحية الكمية. كما نفذ التنظيم أيضا عملية انتحارية بسيارة مفخخة ضد قاعدة تابعة لقوات سورية الديمقراطية في قرية الطيانة في يوليو 2019، وهو ما يشير إلى أن التنظيم ربما يعيد تأسيس قدرته على تنفيذ أعمال جماعية معقدة. وتركزت هجمات داعش في شريط بطول نهر الفرات بين بلدتيْ البصيرة والطيانة.
إرهاب الخصوم
وقد استهدفت هجمات تنظيم الدولة العناصر العربية تحديدا في قوات سوريا الديمقراطية. ففي ظل دعم الولايات المتحدة ودول التحالف، قامت «وحدات حماية الشعب الكردي» بحشد قوة كبرى متعددة الإثنيات ضمن قوات سوريا الديمقراطية، شملت العديد من العرب المحليين.
في هذا السياق، مثلت هجمات تنظيم الدولة محاولة واضحة لإرهاب السكان المحليين من العرب لضمان عدم تعاونهم مع «وحدات حماية الشعب الكردي»، وذلك من أجل إسقاط هيئات الحكم المحلي وحرمان وحدات حماية الشعب الكردي من أهم مصادرها لجمع المعلومات اللازمة لاستمرار جهود مكافحة الإرهاب. وقد أكد الشركاء المحليون من قوات سوريا الديمقراطية الموجودون في مناطق المواجهة أنهم يشعرون أنهم تُركوا نهبا لعمليات الاغتيال التي ينفذها تنظيم الدولة. وفي أول فيديو نشره تنظيم الدولة من دير الزور بعد خروجه من الباغوز (أطلق التنظيم على هذا الفيديو اسم «الخير»)، أعلن التنظيم أن رجاله «قد أثبتوا زيف مزاعم أئمة الكفر بشأن إسقاط الخلافة في سوريا»، وذلك من خلال «العمليات الأمنية التي اضطلعوا بها».
علاوة على ذلك، أججت شكاوى من عدم توافر الخدمات وتقسيم عوائد النفط المحلي الغضب الشعبي ضد قوات سوريا الديمقراطية، وزاد الطين بلة الأضرار التي نجمت عن الغارات الليلية التي شنتها ذات القوات ضد تنظيم الدولة. وقد حاول شركاء قوات سوريا الديمقراطية في التحالف الدولي المساعدة في تقديم الخدمات الأساسية وإعادة تشغيل الاقتصاد المحلي، لكن الموارد كانت محدودة، كما أن بعض المناطق مثل دير الزور تعد من المناطق النائية جغرافيا. وعلى أرض الواقع، عمل تنظيم الدولة على تبديد الثقة في قوات سوريا الديمقراطية والمؤسسات المدنية التابعة لها. من ذلك ما قامت به الجماعة من إعلان قوائم المجندين والموظفين المدنيين في المساجد في إحدى بلدات دير الزور، ومطالبتهم «بالتوبة».
مخاطر عديدة
من ناحية أخرى، عملت قوات سوريا الديمقراطية أيضا على استيعاب أعداد كبيرة من معتقلي تنظيم الدولة، سواء من السوريين أو الأجانب، لكن قدرتها على احتجاز المعتقلين بلغت حد الانهيار، وفي محاولة لكسب القبليين المحليين، عمدت قوات سوريا الديمقراطية إلى إطلاق سراح معتقلي تنظيم الدولة «الذين لم تلطخ أيديهم بالدماء» ممن توسط لهم زعماء القبائل. لكن هذه المنهجية أزعجت بعض السكان المحليين، لأن النتيجة كانت الإفراج عن عناصر مرتبطة بتنظيم الدولة دون أن يكون هناك برنامج واضح لإعادة دمجهم في المجتمع.
ويشكل الآلاف سواء من معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية في مراكز الاعتقال، أو غيرهم (بما في ذلك النساء والأطفال) في معسكرات النازحين التي تقوم قوات سورية الديمقراطية بتأمينها أحد أهم مصادر استنزاف هذه القوات. ومع ذلك، لم يكن شركاء قوات سوريا في التحالف الغربي قادرين على المساهمة بأكثر من بعض الأموال المحدودة لدعم مراكز الاعتقال القائمة وتحويل بعض المباني، مثل المدارس، إلى سجون. كان شركاء قوات سوريا الديمقراطية قلقين من أن يتمكن تنظيم الدولة من استهداف هذه السجون ’المؤقتة‘، أو أن يقوم المسجونون بأعمال شغب تمكنهم من الهروب الجماعي، وهو التهديد الذي سيصبح أشد خطورة الآن بعد دخول تركيا وحلفائها إلى شمال شرق سوريا، مما سيضطر قوات سوريا الديمقراطية إلى إعادة توجيه مواردها لمواجهة هذا الخطر.
إن نقاط الضعف في شمال شرق سوريا قد باتت واضحة للغاية، بما في ذلك الانتفاضة النشطة لتنظيم الدولة، والوضع غير المستقر بوجه عام في دير الزور، والسجون والمخيمات غير المؤمنة بما يكفي والمكتظة بمتشددي تنظيم الدولة والموالين له. ويبدو أن التدخل التركي والمواجهة بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية على الحدود الشمالية لسوريا سيؤديان على الأرجح إلى تفاقم هذه المشكلات. كما أن التحول صوب الشمال من قبل وحدات قوات سوريا الديمقراطية – التي تقوم الآن بتأمين المناطق الجنوبية المتأثرة بتنظيم الدولة وملاحقة خلاياه – قد يسمح لعناصر الجماعة، التي كانت تنفذ نشاطاتها من خلال خلايا صغيرة متناثرة ومتخفية، بإعادة تجميع صفوفها وتصعيد عملياتها. وقد ينهار النظام تماما، ليس فقط في دير الزور، وإنما أيضا في مناطق هامشية أخرى ذات أغلبية عربية، مثل الرقة، حيث يُصعد تنظيم الدولة من هجماته، كما قد يبدأ بعض السكان المحليين – الذين يعتقدون أن المد يتحول ضد قوات سوريا الديمقراطية – أيضا مقاومتهم الخاصة، أو ينضمون إلى داعش.
وبدون حراسة قد تتحول السجون والمخيمات التي تضم متشددي تنظيم الدولة إلى أهداف سهلة لعمليات اقتحام السجون. في هذا السياق يقول «مظلوم كوباني» قائد قوات سوريا الديمقراطية إن احتجاز معتقلي تنظيم الدولة قد بات «أولوية ثانية» حيث تتهيأ قوات سوريا الديمقراطية لمعركة دفاعية ضد تركيا. كما حذر مسئول أمريكي من أنه «إذا تراجعت قوات سوريا الديمقراطية تحت ضغط الهجمات التركية باتجاه الحدود، فإن تنظيم الدولة سينتفض مجددا لا محالة».
مظلوم كوباني قائد قوات سوريا الديمقراطية
(يتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية والمراجع من هنا