رؤى

التفسير اللاهوتي.. هل يصلح لفهم الخطاب الجهادي؟ (1-2)

جوناثان كول

ترجمة أحمد بركات

رغم الانتشار العالمي للعنف الجهادي على مدى العقود الماضية، لا تزال الغالبية الغالبة من المثقفين الغربيين تنظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها نتيجة مباشرة للتفسير المتشدد لمفهوم الجهاد، الذي لا علاقة له – في معناه الحقيقي– بالعنف، كما أن لا علاقة لروح الإسلام وتعاليمه بالعنف أيضا.

وبينما لا تؤيد غالبية المسلمين في جميع أنحاء العالم الحركة الجهادية العالمية، إلا أن “جوناثان كول”، الباحث في اللاهوت السياسي وكبير محللي الإرهاب في الإدارة الوطنية للدراسات التقييمية في أستراليا، يرى أن هذا لا يكفي للنظر إلى الحركة باعتبارها مجرد صورة مشوهة للإسلام فحسب. بل إنه يتجاوز ذلك ويؤكد أن “الأهداف المعلنة لهذه الحركة وبرنامجها العملي ينبعثان من نصوص وتشريعات إسلامية قاطعة الثبوت وقطعية الدلالة، ويعكسان حالة تاريخية ثابتة لا مراء فيها”.

وفي مقالته التي حملت عنوان “Politics, Theology and Religion in Jihadist Violence“(السياسة واللاهوت والدين في العنف الجهادي)، سعى كول إلى تقديم مزيد من توضيح المفاهيم للعلاقة المعقدة بين هذه التصنيفات الغربية الثلاثة: السياسة واللاهوت والدين، ودورها في فهم الحركة الجهادية الإسلامية المعاصرة.

حركة سياسية

في هذه المقالة التي نُشرت في فصلية Middle East Quarterly، عدد شتاء 2019، يعتبر كول الحركة الجهادية العالمية حركة سياسية بامتياز من وجهين: الأول أنها تطمح إلى إدارة الدول، مثلما فعل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الفترة الوجيزة التي أقام فيها دولته على أجزاء من سوريا والعراق، والثاني هو أن الجهاديين يسعون دائما إلى اكتساب سلطة سياسية عبر وسائل راديكالية عنيفة (ثورة في المقام الأول)، ويستعينون على ذلك بالإرهاب وتكتيكات أخرى.

فالعنف الجهادي – سواء كان موجها ضد أنظمة تحكم دولا ذات أغلبيات مسلمة، أو حكومات ومجتمعات غربية – هو بهذا المعنى عنف سياسي، لأنه يسعى إلى وضع الإسلام في السلطة في دول إقليمية، وتنفيذ أجنداته السياسية كهدف أولي. أما الهدف النهائي فيتمثل في إعادة ترسيم أو إزالة الحدود بين هذه الدول ذات السيادة بموجب القانون الدولي، وإقامة خلافة عالمية.

ويشير كول إلى أنه بالاتساق مع النظرة الأصولية الإسلامية، يرفض الجهاديون بشكل قاطع الفصل الوظيفي بين المجالين الروحاني الخاص والسياسي العام في الحياة الفردية والجماعية على السواء وذلك بسبب فهمهم الخاص لملمحين أساسيين في الإسلام؛ هما الكمال والشمول. ففي كتاب “نظام الحكم في الإسلام”، يشير مؤسس حزب التحرير، تقي الدين النبهاني، إلى أن رسالة الإسلام “كانت نظاما كاملا شاملا للحياة الإنسانية كلها، أوجبت على المسلمين تطبيقه وتنفيذه كاملا، في دولة حددت لها شكلا معينا يتمثل بنظام الخلافة” (ص14).

تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير، وكتابه “نظام الحكم في الإسلام”

في ضوء ذلك، أين تقع ’السياسة‘- بمفهومها الغربي – داخل هذا التصور الكامل والشامل للإسلام، الذي لا يفصل الدين عن السياسة ولا يفرق بين الدنيوي والمقدس؟  للإجابة على هذا السؤال يؤكد كول أن السياسة بمعناها الغربي “لا تمثل مفهوما قرآنيا، وهو ما قد يفسر أسباب عدم وجودها كمفهوم مركزي في الأدبيات الجهادية”. لكنه يعود فيؤكد أن هناك، من الناحية الأخرى، العديد من المفاهيم القرآنية المحورية التي تبرز بجلاء في الفكر الجهادي، ويمكن وصفها بـ”السياسية” وفقا للمصطلح الغربي. تتضمن هذه المفاهيم “الخلافة” و”الشريعة” …و”الحكم”،- وهو المفهوم الأقل شيوعا-. وتظهر النصوص القرآنية التي تتضمن مفهوما أو أكثر من هذه المفاهيم بصورة متكررة في الكتابات الجهادية وتشكل معا الأساس اللاهوتي للنظرية السياسية الجهادية.

فكلمة “الحكم” – كما يشير كول – تنطوي على كافة الأبعاد السياسية للكلمة الإنجليزية rule. وتقع صيغة الفعل منها “حَكَم” في ثلاثة مواضع متقاربة في سورة “المائدة،” والتي يُستشهد بها غالبا في الأدبيات الجهادية، لا سيما في النقاشات التي تهدف إلى إسباغ  صفة “الكفار” على الحكومات في الدول ذات الأغلبية المسلمة.

توجد الصيغة الأولى في الجزء الأخير من الآية 44: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، ثم تتكرر الصيغة في الآيتين 45 و47 بتغيير “الكافرون” إلى “الظالمون” و”الفاسقون”، على التوالي. ويفسر الجهاديون هذه الآيات كإشارة إلى أن الحاكم الذي لا يطبق الشريعة (كما يُعرفونَها) كافر، ومن ثم يجب الجهاد ضده، حتى لو بالعنف، وفقا لرؤيتهم الموسعة لمفهوم الردة وما يترتب عليها من عقوبات.

الخلافة والاستخلاف

أما كلمة ’خليفة‘ “successor”، من الفعل ’خَلَفَ‘، فيقصد بها خليفة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الحاكم السياسي الأول في الإسلام. وفي هذا السياق يشير كول إلى إعلان دولة الخلافة الإسلامية “داعش” عن خليفتها الأول في عام 2014 باعتباره “صورة حية لاستخدام المفهوم القرآني للخلافة من قبل الجهاديين لدعم أهدافهم السياسية”. فقد حمل البيان عنوان “هذا ما وعد الله”، وبدأ بالآية 55 من سورة “النور”: “وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا؛ يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون”.

واستنادا إلى هذه الآية، وغيرها من النصوص القرآنية التي تدور حول مفهوم ’الخلافة‘ و’الاستخلاف‘ يزعم بيان داعش أن الله قد وعد بقيادة إسلامية للعالم وبسيادة إسلامية على الأرض، لكن تحقيق هذا الوعد – كما يلفت كول – يظل رهنا بعبادة الله وفقا لعقيدة توحيدية خالصة. ومن ثم، فإن تمهيد الطريق لإنجاز موعود الله السياسي يمثل أحد المهام المركزية للحركة الجهادية العالمية.

Image result for ‫الإسلام بعيد عن الإرهاب‬‎

ويؤكد كول أن دراسة التفسيرات الجهادية توضح أنه “في الوقت الذي لا يعترف فيه الجهاديون ابتداء بالتمييز الغربي بين السياسة والدين، إلا أنهم لديهم ما يمكن أن نطلق عليه نظرية سياسية تقوم على أن الله يحكم الأرض، بصفته صاحب السيادة المطلقة، من خلال قانونه المعلن في شكل شريعة ’كاملة شاملة‘، وأن المهمة السياسية للمسلم تتمثل في ضمان تطبيق  الحكم السيادي الإلهي عن طريق إخضاع كافة العلاقات الاجتماعية البشرية لحكم هذا القانون المعلن “الشريعة””. ويفكك الجهاديون هذا التناقض الظاهري نتيجة عدم انفصال الدين عن السياسة عن طريق استدعاء فكرة أن الإسلام منهج كامل وشامل ينتظم جميع أوجه الحياة. فالإسلام – في الفكر الجهادي- يمثل “نظام حكم” (regime) و”منهج حياة” (program) يتعين تطبيقه بالكامل في المجالين العام والخاص على السواء. وبهذا المعنى، فإن النظرية السياسية الجهادية، وما ينبثق عنها من بيان سياسي عام (بالمعنى الغربي للسياسة) هما ببساطة بعدان جوهريان لتحقيق الإسلام على الأرض.

ويعتبر كول  أن هناك ارتباطا عضويا بين القتال، وإقامة الدولة الإسلامية وفرض الشريعة في الفضاء العام من جانب، والالتزامات والتكاليف الفردية الأخلاقية – مثل الصلاة – من جانب آخر،  “ويشكلون جميعا جزءا من نظام ومنهج  كلي واحدي”. ويضيف: “وبشكل  واضح ، يصف الجهاديون الجهاد بـ ’العبادة‘، في إشارة واضحة إلى اندماج الجهاد في مفهوم  كلي شامل ، وممارسة الإسلام كنمط حياة”. ويخلص كول في هذا الباب إلى أن الحركة الجهادية العالمية وما تمارسه من عنف هي حركة سياسية بامتياز.

لاهوت سياسي

لكن السؤال العالق هو ما إذا كانت السياسة وحدها قادرة على تقديم فهم كامل وشامل لهذه الحركة وما تنطوي عليه من عنف. بهذا السؤال يقودنا  كول إلى المفهوم الثاني ، وهو المفهوم الثيولوجي (اللاهوتي)، فعلم اللاهوت بمفهومه الغربي المسيحي لا يقع كطبقة في الفكر الجهادي، أو ربما في الفكر الإسلامي بوجه عام. فالإسلام يمتلك علومه الأصيلة ومفرداته العلمية الخالصة التي تقع جميعها تحت مظلة مصطلح جامع مانع يُعرف بـ “العلوم الإسلامية”. وتغطي هذه العلوم طيفا واسعا من التخصصات يرتبط بعضها بالأديان الأخرى، مثل علم التفسير الذي يوجد أيضا في الديانتين اليهودية والمسيحية، أما العلوم الأخرى فينفرد بها الإسلام دون غيره من الديانات، مثل علوم الحديث والسيرة النبوية وأسباب النزول.

رغم ذلك، يؤكد كول أنه “بإمكان الباحث أن يوظف المفهوم الغربي (أو المسيحي) لعلم اللاهوت بصورة مفيدة في تحليل الحركة الجهادية العالمية، وهو ما يبرز بعض ملامحها الأصيلة التي لا يمكن أن نضع أيدينا عليها من خلال تحليلها من المنظور السياسي (بالمفهوم الغربي) وحده، ويميزها عن غيرها من الحركات العلمانية والسياسية “التي غالبا ما توضع – على نحو مضلل – موضع المقارنة بها”، حسبما يؤكد كول.

Image result for ‫الإسلام بعيد عن الإرهاب‬‎

يحدد التعريف المسيحي التقليدي علم اللاهوت في “التعلم عن الله وعلاقته بالعالم من بدء الخليقة إلى منتهاها عبر منهجية متماسكة ومنظمة”. بهذا المعنى يخلص كول إلى أن الجهاديين يمتلكون بجلاء علم لاهوت يشكل رؤيتهم الكونية ونشاطهم السياسي. ومجددا، يؤكد كول أن إدخال علم اللاهوت في تحليل الحركة الجهادية العالمية يسمح أيضا للباحث بتحديد سمة فريدة تتعلق بالمفاهيم السياسية الجهادية الخاصة بالخلافة والشريعة والحكم. فهذه المفاهيم – من وجهة نظر كول – لاهوتية بامتياز من وجهين: أولا لأنها ترتبط بالتعلم عن الله وعلاقته بالعالم، ثانيا لأن مصدرها يكمن في نص إلهي يمثل حرفيا كلمة الله، ويُعبر عنه بمشيئته وإرادته للبشرية.

يمكن إذن وصف بعض المفاهيم الأساسية في الفكر والممارسة عند الجهاديين باستخدام تصنيفين غربيين متمايزين، هما السياسة واللاهوت. بعبارة أخرى، كما يصيغها كول، “يتطلب الأمر [من الباحث] تصنيفين غربيين لوصف (وليس لتفسير) الملامح الأساسية في الفكر الجهادي، التي تشكل مجتمعة “لاهوتا سياسيا””. فالمفاهيم الجهادية المركزية، مثل الخلافة والشريعة والحكم، يفضل النظر إليها باعتبارها مفاهيم ثيوسياسية (لاهوتية سياسية) ترتبط بعلاقة الله بالعالم من جانب وبإدارة الدولة من جانب آخر.

 وعلى ضوء ذلك يرى جوناثان كول أن فهم ما يسميه ” الإرهاب الجهادي العالمي” يتطلب ضرورة دمج السياسة واللاهوت. فالشرعية الأخلاقية لقتل مواطنين غربيين تضرب بجذورها في الثيولوجيا ؛ لأنها تقوم بالأساس على تفسير الأوامر الإلهية الواردة في القرآن، ونموذج الحرب الذي أطّر له النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه من بعده. لكن تحديد الأهداف الإرهابية غالبا ما يتم على أساس اعتبارات سياسية؛ فالأهداف لا يتم تحديدها على أساس الوحي، وإنما على أساس رمزيتها الاستراتيجية وقيمتها السياسية في الأجندة السياسية الجهادية الكبرى التي تتمثل في الوصول إلى السلطة وإقامة حكم إسلامي حقيقي.

يمكن قراءة النص الأصلي للمقال باللغة الإنجليزية من هنا ?

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock