«في السياق اليمني.. غالبا ما يتم النظر لرجال القبائل باعتبارهم غير متعلمين، ورجعيين، وجهلة، وغير مثقفين، ومرتبطين بالتقاليد، وغير عقلانيين، وغير متحضرين، ويتسمون بالعنف. هذه الآراء غالبا ما تكون أقوى بين سكان المدينة، والنخبة المتعلمة، وتكثر النكات السلبية حول جهل رجال القبائل وغبائهم، وكثيرا ما تستخدم صفة القبلية كمرادف للتخلف».. من كلمات المحلل الأمريكي دانيل كورستانج.
يعتقد المراقبون الخارجيون أن هناك حالة ما من التواطؤ فيما بين القبائل والتنظيمات الجهادية في اليمن، غير أن الباحثة البريطانية المتخصصة في الشأن اليمني «هيلين لاكنر» التي أُتيح لها التعرف على المجتمع اليمني على امتداد أربعة عقود متتالية تنفي هذا الإدعاء في كتابها القَيم «أزمة اليمن ..الطريق إلى الحرب» الذي صدر في لندن باللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية «دينا جميل» وصدر مؤخرا عن دار «المرايا».
في هذا الكتاب تتناول هيلين لاكنر تيار الإسلام السياسي وتتوقف عند طبيعة الدور الذي لعبته الجماعات الجهادية في اليمن وعلاقة تلك الجماعات بالقبائل اليمنية وعلاقتها بالنظام السياسي، وأثر انتفاضة 2011 على تنامي تلك الجماعات الجهادية في ذلك البلد العربي الذي لم يعد سعيدا.
البنية الاجتماعية
تخصص«هيلين لاكنر» أحد محاور الكتاب لتتناول تطور البنية الاجتماعية في اليمن، ومن ثم تطرح تعريفا للقبيلة يقوم على كونها: «مجموعة محلية تكون فيها القرابة هى الشكل السائد للتنظيم، ويتميز المنتمون لها بمجموعة من العادات، واللهجة أو اللغة والأصول، وعادة ما تكون القبائل موحدة سياسيًا، ولكن ليس بالضرورة تحت قيادة مركزية».. تضيف الباحثة أن التقديرات المتاحة حول السكان باليمن تشير إلى أن ما لا يقل عن 70% – وربما تصل النسبة إلى 80% – من السكان ينتمون إلى القبائل، وأن أهل القبائل مزارعون مستقرون، يمتلكون حيازات زراعية صغيرة.
وتتساءل هيلين عن الجماعات الاجتماعية الأخرى؟ وما هى طبيعة علاقتها بالقبائل؟.. ومن ثم تجيب على التساؤل بأن أعلى مجموعة من حيث المكانة الاجتماعية هى مجموعة «السادة» وهم أشخاص يزعمون أنهم ينحدرون من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبشكل عام يُنظر إلى «السادة» بوصفهم غير قَبَليين على الرغم من كونهم من أصول قبلية، ويحتل السادة مكانة إجتماعية عالية يليهم في المكانة الاجتماعية «القضاة»، وهم أيضا من أصول قبلية، إلا أنهم قد تمايزوا بتعليمهم وتوارثهم لمهنة القضاء.
أما المجموعات التي توصف بـ «الضعيفة» من حيث المكانة الاجتماعية، فتضم التجار والحرفيين ومقدمي الخدمات على إختلافها، ويأتي في قاع البنية الإجتماعية اليمنية من يطلق عليهم «الأخدام» أي «الخدم» الذين باتوا يُوصَفُون بالمهمشين. ومن جانب آخر فإن أهل القبائل هم الفئة الرئيسية في حمل السلاح في اليمن ومن ثم فإنهم يقومون بحماية من هم أعلى أو أدنى منهم في المرتبة الاجتماعية.
بن لادن وجهاديو اليمن
تروي «هيلين لاكنر» عن النشأة الأولى للجماعات الجهادية باليمن مشيرة إلى أن أول ظهور للجهاديين اليمنيين قد ارتبط بأوائل التسعينات عندما عاد اليمنيون «المقاتلون» إلى ديارهم بعد دعمهم للقوى الإسلامية المناهضة للشيوعية في أفغانستان، والذين نشطوا بتنظيم ودعم من أسامة بن لادن، ذي الأصول اليمنية، ومؤسس تنظيم «القاعدة» إضافة إلى بعض المقاتلين من دول أخرى، الذين خشوا من العودة إلى بلدانهم.
أسامة بن لادن
وعلى مدار السنوات المتتالية أدت سياسة الولايات المتحدة المنحازة والداعمة للمحتل الإسرائيلي إلى تحفيز أنشطة الجماعات الجهادية بالمنطقة العربية، وفي هذا السياق أعلن أسامة بن لادن في يوم 29 ديسمبر «1992» عن مسئوليته عن هجومين على فنادق في عدن استهدف خلالهما قوات البحرية الأمريكية الذين كانوا في طريقهم للصومال. كما هاجمت «القاعدة» السفينة الحربية الأمريكية يو إس كول في ميناء عدن سبتمبر «2000» وقد أسفر الهجوم عن مقتل سبعة عشر من أفراد البحرية الأمريكية.
من جانب آخر كان «الجهاديون» قد قدموا دعما حيويًا لقوات علي عبد صالح في حرب (1994) ضد الانفصاليين في الجنوب، وبالتالي ساهموا في انتصاره وكان من بينهم «أفغان» ومسلحون من شمال اليمن وجنوبه.
وتواصل تنامي الجهاديين باليمن –كما تشير لاكنر- حتى يونيو (2007) حين طالبت القاعدة من على عبد الله صالح «أن يفرج عن جميع أعضائها بالسجون، ويرفع القيود المفروضة على السفر للعراق، ويتوقف عن التعاون مع أعداء الإسلام، وخاصة الولايات المتحدة وأن يعود للشريعة الإسلامية» ومن ثم زادت وتيرة عمليات التنظيم باليمن، وكان من أبرزها عملية ضرب السفارة الأمريكية في مارس «2008».
ومع مطلع عام «2009» انتقل أعضاء القاعدة السعوديون إلى اليمن وتم دمج تنظيميْ البلدين رسميا لتشكل «القاعدة في الجزيرة العربية»، وتبع عملية الدمج تلك مجموعة من أسوأ الهجمات التي شنتها القاعدة في اليمن.
العلاقة بين الجهاديين ونظام على عبد الله صالح كانت علاقة شديدة الإلتباس، فكما دعم الجهاديون نظام صالح في حرب عام «1994م» ضد الإنفصاليين في الجنوب، وقعت العديد من الهجمات الخطيرة خلال الفترة من «2011» عام إندلاع الإنتفاضات العربية، حتى عام «2015».
تتوقف «هيلين لاكنر» عند هجمات تنظيم القاعدة في تلك الفترة، مشيرة إلى ضرورة التعامل مع إعلان القاعدة في الجزيرة العرب المسؤولية عن هذه الهجمات ببعض الحذر.. فإذا كان الجناة أفرادا مدربين من قبل تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، إلا أن هناك إحتمالا لأن يكون علي عبد الله صالح قد دعم بعضا من تلك الهجمات، كجزء من حملته لتشويه سمعة النظام الإنتقالي، في محاولة منه لكي يثبت لجميع الأطراف الداخلية والدولية أنه الوحيد القادر على أن يُبقِي اليمن تحت السيطرة، وأنه بدونه ستسود الفوضى.
تلفت «هيلين لاكنر» النظر إلى ما قالته الأكاديمية «سارة فيليبس» عن أن: «في اليمن من الصعب دائما –ربما من المستحيل– أن تعرف بدقة أين ترسم الخط الفاصل بين الأعمال التي يقوم بها تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، والتابعون له بشكل مستقل، وتلك التي يمكن أن تكون مرتبطة بصراعات السلطة داخل النظام».
الأكاديمية سارة فيليبس
تصور خاطىء
تتناول «هيلين لاكنر» العلاقة بين الجماعات الجهادية «القاعدة» و«داعش»، والقبائل اليمنية، فتشير إلى أن هناك من أهالي القبائل اليمنية من أنتمى لتلك الجماعات الجهادية، وأن هناك الكثير من الدلائل على انجذاب الفئات الاجتماعية ذات المكانة المنخفضة لتلك المجموعات الجهادية.
غير أن الزعم القائل بأن الجهاديين يعملون في تحالف تام مع القبائل، يعد زعما غير دقيق يعتمد على سوء فهم كامل لطبيعة الدور الذي تقوم به القبائل، ذلك أن القبائل تعد واحدة من عنصرين رئيسيين من عناصر المنظمات الاجتماعية والإدارية بالمناطق الريفية، ولدى القبائل قوات مسلحة وآليات إدارية فعالة على مستوى المجتمع، أما العنصر الآخر فيتمثل في إداريي الدولة البيروقراطية، المعتمدين على رواتب الحكومة ذات المستوى المنخفض.
في أعقاب إندلاع إنتفاضة 2011 زادت قوة وتأثير الجهاديين في اليمن، وخاصة بالمناطق الريفية، وهو ما دعا المراقبين من الخارج إلى المساواة ما بين الجهاديين والقبيلة. ولا تعني حقيقة أن أفراد من أهالي القبائل انضموا إلى الجهاديين أن قبائلهم كجماعات متماسكة تدعم الجهادية، كما أن هناك بعض القبائل التي باتت تحارب كمؤسسات متماسكة ضد الجهاديين.
تختتم الباحثة بالإشارة إلى أنه في اليمن لا يُظهر الوجود الجهادي سيطرة على السكان، ما يظهر هو أن المجتمعات وقادتها قد اختاروا أن يتحملوا وجود تلك الجماعات الجهادية، وكلما استفادت منطقة ما من الحكم الفعال من قبل سلطات الدولة، فمن المرجح أنهم يتوقفون عن تحمل وجود هؤلاء الجهاديين.
كما أن هناك العديد من حالات الوساطة التي قام بها زعماء القبائل بين تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، وبين السلطات أو القوات العسكرية الرسمية لضمان سلامة مجتمعاتهم، وفي كثير من الأحيان ساهم هؤلاء الزعماء في الإنسحاب السلمي للقاعدة من مجتمعاتهم.
بصفة عامة: فإن زعماء القبائل يسعون إلى ضمان أقصى قدر من السلامة والحد الأدنى من القتال لشعبهم، الأمر الذي يتعين معه ضرورة النظر بترو شديد عند وضع إستراتيجيات للحد من الإرهاب، فما يحتاجه اليمن الآن يتمثل في مواجهة مجمل الأسباب الإجتماعية والسياسية والإقتصادية الكامنة التي أفرزت تلك المجموعات الجهادية، وهذه الدولة المثخنة بالحرب وبالإرهاب في حاجة ماسة إلى الدعم الإنساني في صورة برامج تنموية إنسانية بكافة المجالات من تعليم وغذاء وصحة وبنية أساسية.. إلخ