لم يكن «عبد الرحمن الرافعي» مجرد مؤرخ فى مسيرة التاريخ المصري، لكنه يعد مؤسسا لمدرسة فى كتابة التاريخ، وأحد أهم الذين سجلوا ما يعرف بالحركة القومية الوطنية منذ الحملة الفرنسية حتى ثورة يوليو.. ولم يكن مؤرخا مهما ومؤسسا فقط، بل كان الرافعي سياسيا بارزا خاض معارك سياسية وبرلمانية كثيرة.
عبد الرحمن الرافعي
بدأ الرافعي فى أعقاب ثورة1919 – التى شارك فيها بقوة – توثيق تاريخ مصر الحديث بعد أن كان الأجانب يتولون كتابته، و كان أشهر هؤلاء الذين كتبوا تاريخ مصر المعاصر آنذاك كل من «كرومر» و«ملنر» و«بلنت» ومعظم هؤلاء الكتاب كانوا يروجون لرؤيتهم التى تُبرر الإحتلال بدعوى أن مصر غير مؤهلة بعد للإستقلال. من هنا فإن الدور المؤسس الذى قام به الرافعي كأول مصرى يوثق تاريخ الأمة جعله أحد صناع «التأريخ» المصرى الحديث.
اللورد كرومر
في مدرسة التاريخ
خلال ثلاثين عاما من عمره سجل الرافعي تاريخ مصر فى حلقات متتالية بدأ كتابتها عام 1929 عبر ستة عشر عنوانا يوثق مراحل الدولة المصرية القومية التى كان يؤمن بها دائما ويرى أنها حقيقة لا جدال عليها وأن الشخصية المصرية متفردة ومستقلة رغم كل أشكال الغزو والإحتلال.
ظهرت فى مصر حينذاك عدة مدارس للتأريخ كان من بينها مدرسة المنهج المادي، والذى كان يرى التطور وفقا لصراعات إجتماعية وإقتصادية ويعتبر «صبحى وحيدة» أحد رواد هذا المنهج وقدم كتابا «فى أصول المسألة المصرية» عام 1950 وكان قد سبقه بنشر عدة أبحاث ومقالات تنتمي لذات المنهج البحثى وأيضا مدرسة «الجغرافيون» الذين يفسرون وقائع التاريخ وفقا لحقائق الجغرافيا وغيرها من مدارس كتابة التاريخ التى يبعد معظمها عن التوثيق والإستعانة بالمصادر والحقائق فى كتابة تاريخ الأمم وهو ما يعرف بالمنهج «الغربي» أو الحديث والذى استخدمه «الرافعي» فى أحيان كثيرة.
النشأة والتكوين
كان الرافعي الذى ولد فى فبراير 1889م ورحل فى 3 ديسمبر 1966 ينتمي إلى أسرة كريمة ترجع أصولها إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وقد هاجر أجداده الأقربون من الشام إلى مصر في السنوات الأولى من حكم محمد علي، واشتغل معظم أفراد هذه الأسرة بالعلم والقضاء.
محمد علي
ولد عبد الرحمن الرافعي في حي الخليفة بالقاهرة، وكان والده يعمل في سلك الفتيا والقضاء بعد تخرجه في الأزهر. وكان الرافعي الثالث بين إخوة أربعة أشقاء، لمع منهم أمين الرافعي أحد نوابغ الصحفيين وتوفي شاباً سنة 1927م بعد حياة مليئة بمواقف الثبات والصمود والوقوف إلى الحق.
تلقى الرافعي تعليمه في المدارس الحكومية، حيث دخل مدرسة الزقازيق الابتدائية سنة 1895م وحيث كان والده يعمل بالمدينة آنذاك، فمدرسة القربية الابتدائية بالقاهرة، ثم مدرسة رأس التين الابتدائية سنة 1898م عندما انتقل والده إلى الإسكندرية حيث عمل مفتياً للمدينة، وفي الأسكندرية أمضى الرافعي سنين الدراسة حتى أنهى المرحلة الثانوية سنة 1904م.
الرافعي والحركة الوطنية
كانت الحركة الوطنية المصرية فى أوجها على يد مصطفى كامل عندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة، والتحق الرافعي بمدرسة الحقوق، فتأثر بأفكارها وانضم إلى الحزب الوطني بمجرد إنشائه، وفي سنة 1908م تخرج الرافعي من مدرسة الحقوق الخديوية.
مصطفى كامل
عمل الرافعي فى بداياته بالمحاماه، لكنه سرعان ما هجرها متجها إلى الصحافة مستجيبا لدعوة محمد فريد للعمل محررا بجريدة اللواء الصادرة عن الحزب الوطني، حيث بدأت معها حياته الصحفية واستمرت علاقته الوثيقة بالزعيم محمد فريد.
الزعيم محمد فريد
ثم عاد إلى المحاماة، وشارك أحد زملائه في مكتب للمحاماة بالزقازيق سنة 1910م، ثم افتتحا مكتباً آخر بمدينة المنصورة، وظل مقيماً بالمنصورة حتى سنة 1932م حين إستقر به المقام بالقاهرة.
في أثناء إقامته بالمنصورة شغل الرافعي أوقات فراغه بالتأليف، فأخرج كتابه الأول «حقوق الشعب» سنة 1912م وكان هدفه من تأليفه على حد قوله «التباحث في حقوق الشعب والنظريات الدستورية ونظام الحكومات الصالحة، وكيف تصل الأمم إلى إسترداد حقوقها، وكيف تضمن تمتعها بها»، ثم أعقبه سنة 1914م بكتابه الثاني «نقابات التعاون الزراعية» بهدف تنشيط الحركة التعاونية في مصر. ولم يكتف بذلك بل أسس سنة 1919م مع مجموعة من أصدقائه جمعية لنشر جمعيات التعاون الزراعية في قرى الدقهلية مساعدة للفلاح المطحون.
شارك الرافعي فى ثورة 1919م أثناء إقامته فى المنصورة وكان عضوا مهما في الجهاز السري للثورة.. هذا الجهاز الذى كان مسئولا عن تنفيذ عمليات عكسرية ضد قوات الإحتلال البريطاني، ولعل المهتمين بتاريخ مصر الوطنى قد أخذوا بقوة على الرافعى إصراره على عدم كتابة أى معلومات عن تلك المرحلة وعن تفاصيلها وكان مبرره فى ذلك انه أقسم على عدم إفشاء أسرراها بما يؤكد البعد الاخلاقى الذى تميز به الرافعى.
ثورة ١٩١٩
ضد عرابي
لم يكن الرافعى بعيدا عن السياسة فى يوم من الأيام، فقد انخرط فى صفوف الحركة الوطنية مبكرا وإنضم للحزب الوطني وكان من المقربين لمصطفى كامل ومحمد فريد، ويعتبر البعض أن علاقته الوثيقة بالحزب الوطنى وتأثره الكبير والواضح بأفكار مصطفى كامل قد ساهمت فى صياغة وجهة نظره من الثورة العرابية وقائدها «أحمد عرابى» فقد كان الرافعي من المؤرخين الذين يقدرون قيمة الشخص فى صناعة الأحداث، ويعتبرون أن التاريخ في ما يصنعه الساسة وانشغل فى معظم أعماله بجمع مواقف الساسة وما ترتب عليها من أحداث وطنية وحراك شعبى وهذا ما اتضح خلال كتابه «مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية» 1939 وكتابه «محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية» الذى صدر فى العام نفسه.
فى ذات الوقت تأثر المؤرخ الكبير بشدة برأى مصطفى كامل فى شخصية أحمد عرابى لدرجة أن الرافعي وصفه فى كتاب «الثورة العرابية والإحتلال الإنجليزى» قائلا «كان ذكاؤه محدودًا، وكان على جانب كبير من الغرور، والاعتداد بالنفس، وكان يعول كثيرًا على أقوال المنجمين والعرافين، وهذه جوانب ضعف كبيرة فى شخصيته» وهذا ما يكشف عن موقفه المعادي لعرابي وثورته التى يعتبرها الرافعى سببا فى دخول الإنجليز إلى مصر !!!
البرلمانى والوزير.. انتقاد عنيف
واستمرارا لدوره السياسي فإن الرافعي كان نائبا فى البرلمان المصري عام 1923 عن دائرة المنصورة ممثلا للحزب الوطنى. ثم ظل الرافعي بعيدا عن الحياة النيابية لمدة 14 عاماً، عاد بعدها نائباً في مجلس الشيوخ بالتزكية، وبقي فيه حتى انتهت عضويته به سنة 1951.
وأثار قبول الرافعى تولى وزارة التموين في حكومة حسين سري الائتلافية سنة 1949 جدلا واسعا حيث كان قد تزعم المعارضة في الحزب الوطني ضد رئيسه حافظ رمضان عندما قبل الأخير الاشتراك في الوزارة سنة 1937 باعتبار أن ذلك لا يتفق مع مبادئ الحزب الوطني التي لا تقبل الوزارة في ظل وجود الاحتلال ولم ينجح الرافعي فى إقناع منتقديه وظل فى الوزارة عدة أشهر.
وبعد الثورة اقترب الرافعى من رجال يوليو خاصة محمد نجيب وشارك فى إعداد مشروع الدستور الذى سعت الثورة لصياغته عام 1953. وتم تعيينه نقيبا للمحامين سنة 1954م بعد قرار حل مجلس نقابة المحامين المصرية نتيجة أزمة بين النقابة وقيادة يوليو عقب اجتماع عمومية المحامين في 26 من مارس 1954م التي طالبت حكومة الثورة بعودة الجيش إلى ثكناته وترك السياسة للسياسيين الأمر الذي رفضه رجال يوليو وإعتبروه إنحيازا للملك ونظام حكمه.
محمد نجيب
ورحل الرافعى فى 3ديسمبر 1966 بعد حياة حافلة بين المحاماة والصحافة والسياسة والنضال ضد الإحتلال والعمل الحزبي والبرلماني والحكومي تاركا للمكتبة العربية عددا كبيرا من الكتب التى تمثل مرجعا هاما فى التاريخ الحديث والمعاصر ومنها تسعة عناوين تؤرخ لمصر خلال قرن ونصف من الزمان بدأها من دخول الحملة الفرنسية حتى عام 1959 وتناول مسيرة كل زعماء الحركة الوطنية وحكم أسرة محمد على.