رؤى

سعد إدريس حلاوة.. صرخة البسطاء في وجه التطبيع

كان الرئيس الراحل أنور السادات يستعد، لاستقبال “الياهو بن اليسار” لتقديم أوراق اعتماده، أول سفير لدولة “إسرائيل” التي اعتادت أجيال متتالية فيما بعد حرب 1948، على تسميتها “الدولة الصهيونية” أو “العدو الإسرائيلي” أو غير ذلك من توصيفاتٍ، لكيان استيطاني قام على الأراضي العربية، بدعم غربي بدأ من بريطانيا ثم واصلته الولايات المتحدة الأمريكية.

لم تكن مصر –الشعبية– قد استوعبت بعد، صدمة الزيارة المفاجئة التي قام بها السادات للعاصمة الصهيونية، لتمثل إعلانا بأن إسرائيل أصبحت صديقا! وبدت الخطوة بمثابة بداية مرحلة جديدة، وبخطوات متسارعة نحو سلام منفرد أغضبت أرواح الشهداء في سكينتها، وأثارت جدلا بين مصابي الحروب، ونساء ترملن وفتيات صرن يعانين اليتم بعد أن قصفت الحروب أعمار ذويهم.

كان نصر أكتوبر المجيد على بعد سبعة أعوام فقط؛  حين استعد القصر الجمهوري لاستقبال أول سفير صهيوني تطأ قدمه أكبر دولة عربية بعد عقود من العداء والحروب والدم الذى هو “الأصدق” وفقا لتعبير شاعرنا الكبير فؤاد حداد حين قال “غير الدم محدش صادق”.

في  نهايات فبراير عام 1980، كان كورنيش النيل يتأهب متشحا بالحزن؛ لاستقبال سفير “دولة العدو” كما كانت تصفها البيانات الرسمية. على حي الدقي وقع الاختيار ليكون مقرا للسفارة التي خصصت لها وحدة سكنية داخل بناية آهلة بالسكان، وكان هذا الاختيار لدواعي أمنية؛ حتى يحتمى رجال السفارة بين المصريين!

لا تصالح..

في ظل تلك الأجواء المثيرة للمتابعة دائما، وللغضب والدهشة أحيانا كثيرة، كان الشاب “سعد إدريس حلاوة” البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاما، والذى يسكن قرية «أجهور الكبرى» مركز طوخ، بمحافظة القليوبية– يسيطر عليه الغضب؛ فلم يعرف عن إسرائيل –طيلة حياته– سوى ارتكابها مجازر بشرية، وأعمالا وحشية واعتداءات متكررة على الأرض العربية في فلطسين ومصر وسوريا والأردن ولبنان.. لا يعرف أن الصلح جائز على الدم، دم الشهداء الذي يلطخ تلك الأيدي التي سنصافحها، ونصفح عنها.. كان لسان حاله يردد رائعة أمل دنقل “لا تصالح”

لا تصالح

في الصباح كان الشاب الثلاثيني المولود في 2 مارس 1947 في أسرة ريفية متوسطة، وهو أخ لخمسة أشقاء وشقيقة واحدة جميعهم تلقوا تعليمًا عاليًا وتولوا وظائف حكومية باستثناء سعد الذي اكتفى بالمرحلة الثانوية واتجه إلى مساعدة والده في زراعة الأرض– يحمل بعض أمتعةٍ هي عبارة عن جهاز كاسيت وأشرطة لكل من الزعيم جمال عبد الناصر، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والفنان عبد الحليم حافظ.. هي أدواته وأسلحته المعنوية التي سوف يستخدمها لإعلان رسالته الصوتية لأهالي القرية الهادئة التي عرفت سعدا فتى طيبا مسالما يزرع أرضه.

بين اعتصامه ومصرعه

توجه سعد نحو مبنى الوحدة المحلية للقرية،  لما تمثله من رمزية السلطة –من وجهة نظره– واختار هذا المكان ليعلن من خلاله رفضه لما أقدم عليه نظام السادات ورفضه لوجود سفارة للعدو الصهيوني على الأراضي المصرية.

قرر الاعتصام في مبنى مجلس القرية، وبدأ يبث عبر إذاعته الداخلية “مكبر الصوت” القرآن الكريم، ثم أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ، ثم خطب الرئيس جمال عبد الناصر، وعندما تجمّع أهالي القرية حول المبنى؛ تلا “حلاوة” بيانه بعفوية شديدة مخاطبا الروح الوطنية لمواطنيه –وفق ما ذكره الكاتب الصحفي شفيق أحمد على في كتابه «من الملف السرى للسادات والتطبيع: عملية اغتيال سعد حلاوة» قائلا: “بسم الله الرحمن الرحيم، يا أهالي أجهور، أنا سعد إدريس حلاوة، أنا منكم وعارفين إنني فلاح زيكم بازرع أرضى بإيدى وبعرقى، ماسبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت أو أستلف علشان أشترى تذكرة سفر أو عقد مزور في ليبيا أو السعودية، كل واحد فيك عارفنى وعارف بيتى وعارف عيلتى، عارفنى وعارف أخلاقي، وعارف إني وارث من المرحوم والدى ثلاثة فدادين، وعايش في حالي ومستور والحمد لله، يعنى مش محتاج، لكن العار والمهانة اللى بيتعرض لها شرفنا النهاردة، تخلينا ما نلبس طرح الستات ونسكت، أو نخاف على بيت أو جاموسة أو زرعة، تخلينا لازم نتحرك، لازم ندافع عن شرفنا بدمنا، لازمتها إيه العيشة وشرفنا بينداس وينباع قدام عنينا، مصر هي شرفنا، مش هي الخديوى السادات وحاشيته علشان يبيعها للصهاينة والأمريكان، مصر هي أنتم وأنا وكل الشعب الشقيان اللي الخديوى لاهيه في الجري ورا لقمة عيشه، علشان هو وعصابته يعرفوا يبيعوها ويقبضوا وينهبوا كويس، يا أهالي أجهور النهارده 26 فبراير 1980، والنهارده بالذات السادات فتح لإسرائيل سفارة في الدقي، ورفعوا عليها علمهم، رفعوه يدنس أرض مصر وسماها…”.

سعد حلاوة

هذا جزء من بيان “حلاوة” الذى قرر أن يحتجز بعض الرهائن داخل مبنى الوحدة المحلية؛ كي يضغط على نظام الحكم للتراجع عن قراره بفتح سفارة لدولة “العدو” لكن نظام السادات كان متمسكا بالتطبيع أكثر من أي شيء آخر.

توجّه عمدة القرية وهو في نفس الوقت عم سعد؛  إلى مركز شرطه طوخ لتقديم بلاغ ضد ابن شقيقه الذى احتل مجلس القرية، متهما إياه بالجنون.

بدأت أجهزة الدولة وإعلامها في الترويج، أن سعدا مختل عقليا.. تلقى الرئيس السادات الخبر بغضب شديد وأمر وزير داخليته بإنهاء هذا الموقف فورا.

حاصرت قوات الشرطة مبنى الوحدة المحلية بتعليمات ومتابعة من اللواء “النبوي إسماعيل” وزير الداخلية حينذاك ووفقا للكاتب الصحفي “سعيد الشحات” في كتابه “ذات يوم” قال: استعان النبوي بوالدة سعد للتأثير عليه، فرد سعد على توسلاتها بأغنية «ست الحبايب يا حبيبة» وذلك بواسطة جهاز التسجيل الموجود معه، ولما رجته أن يرحمهم من البهدلة رد: «افتحى قبر أبويا واعتبرينى من الشهداء».. كما رفض توسلات خاله «نور حلاوة» صاحب التأثير الكبير عليه، فأعطى «النبوي» أوامره لتنهال الرصاصات والقنابل من كل اتجاه على نافذة الحجرة. قبل أن تفيض روح سعد كتب بدمائه على الحائط: «اطردوا السفير الإسرائيلي من القاهرة، ولتحيا مصر حرة، ولتحيا مصر عربية”.

أشارت مصادر صحفية  أن ثلاثين طلقة رصاص  قد استقرت في جسد سعد، بعد أن أصيب في ساقه، وجلس في أحد أركان الحجرة التي لاذ بها،  فنادى أحد الرهائن على قوات الأمن ليخبرهم بمكان حلاوة؛  ليصلوا على الفور فيجدوه جريحا، فينهالوا عليه بالرصاص حتى يسقط قتيلا .

انتهت معركة سعد إدريس حلاوة التي كانت من طرف واحد.. وتوثق سجلات مستشفى القصر العيني وصول جثة شخص “مختل عقليا“ لكنه رغم هذا بقى نموذجا في الوجدان الشعبي الرافض للتطبيع.. بقى ملهما لشباب جاءوا من بعده مثل سليمان خاطر وأيمن حسن وغيرهم الكثير الذى أعلنوا بطرق مختلفة، وأدوات متعددة رفضهم للوجود الإسرائيلي على الأراضي المصرية.

شهادة نزار قباني

بعد مصرع سعد إدريس حلاوة كتب الشاعر الكبير نزار قباني شهادته حول الحدث وحول دلالاته.. قال فيها: سعد إدريس حلاوة هو مجنون مصر الجميل الذي كان أجمل منا جميعا، وأجمل ما به أنه أطلق الرصاص على العقل العربي الذي يقف في بلكونة اللامبالاة في يوم 26 فبراير 1980، ويتفرج على موكب السفير.. ولكن العقل العربي لا يصاب. فهو عقل مصفح ضد الرصاص وضد المعارضة وضد الاحتجاج وضد النابالم وضد القنابل المسيلة للدموع.. العقل العربي عقل متفرج واستعراضي وكرنفالي لذلك كان لابد من ولادة مجنون يطلق الرصاص على اللاعبين والمتفرجين جميعا في مسرح السياسة العربية. ومن هنا أهمية سعد حلاوة فقد أرسله القدر ليقول جملة واحدة فقط ويموت بعدها: هذه ليست مصر.. هذه ليست مصر.. والقصة انتهت كما تنتهى قصص كل المجانين الذين يفكرون أكثر من اللازم ويعذبهم ضميرهم أكثر من اللازم.. أطلقوا النار على مجنون الورد حتى لا ينتقل جنونه إلى الآخرين. فالجنون يتكلم لغة غير لغة النظام لذلك يقتله النظام وأضاف قباني: إذا كان سعد حلاوة مجنونا فيجب أن نستحى من عقولنا، وإذا كان مختلا عقليا فيجب أن نشك في ذكائنا.

“أجهور الورد ” 

وقد قدم الشاعر الكبير محمود الطويل “صرخة حلاوة الاحتجاجية” وهو نص شديد الروعة عميق التأثير بعنوان “أجهور الورد” استعرض فيه بشكل درامي أحداث اعتصام “حلاوة” ومصرعه داخل مبنى الوحدة المحلية.

والآن وعلى بُعد أكثر من أربعين عاما من دماء حلاوة.. أصبح التطبيع هو السائد وتحولت إسرائيل إلى صديق لعدد كبير من الأنظمة العربية.. ورغم تلك الهرولة ما تزال غالبية الشعوب العربية ترى في دولة إسرائيل عدوا يحتل أرضا عربية ويستبيح الدماء العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock