*فرحان زاهد
عرض وترجمة: أحمد بركات
على مدى السنوات الخمسة الماضية، وبينما اتجه جل تركيز الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين في مكافحة الإرهاب إلى الشرق الأوسط، خاصة بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عام 2014، كانت التنظيمات الإرهابية الإسلامية في جنوب آسيا يُنظر إليها باعتبارها مجرد تهديد ثانوي. رغم ذلك، تمثل منطقة جنوب آسيا موطنا أصيلا لتنظيمات إرهابية تفوق في عددها تلك الموجودة في أي منطقة أخرى في العالم بما فيها الشرق الأوسط.
من أفغانستان، خرج تنظيم القاعدة، كما يمتلك تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» جذورا عميقة في هذه المنطقة بوجه عام.لكن الجماعتين العالميتين تواجهان حاليا تحديات جسيمة، وهو ما يتمخض عنه سؤال مهم حول ما إذا كان بمقدور التنظيمين أن يتخطيا هذه الفترة المأزومة من مسيرتهما، في ظل ما يعانيانه من فراغ قيادي بعد مقتل كل من «أبو بكر البغدادي»، أمير تنظيم الدولة الإسلامية، و«حمزة بن لادن»، الوريث المعلن لتنظيم القاعدة.
أبو بكر البغدادي وحمزة بن لادن
قد يبدو الموقف الحالي سوداويا لكلا التنظيمين؛ لكن، من الناحية الأخرى، توجد مؤشرات قوية على أن الموقف الأمني المتغير في جنوب آسيا قد يوفر بيئة خصبة لبعث راديكالي جديد. في هذا السياق، يهدف هذا المقال إلى تحليل المشهد المتشدد في جنوب آسيا في عصر ما بعد البغدادي، وتقديم منظور حول الآفاق المستقبلية للجماعتين الجهاديتين العالميتين المتنافستين في المنطقة.
نهر التطرف
توغل «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» في جنوب شرق آسيا بعد وقت قصير من تأسيسه، وسقوط الموصل، والإعلان اللاحق عن قيام دولة الخلافة في يونيو 2014. قبل ذلك، كان التنظيم قد انفصل عن تنظيم القاعدة بعد صراع طويل وتنافس محموم على السلطة بين البغدادي وأبو محمد الجولاني، أمير جبهة النصرة – التي تعرف الآن بجبهة فتح الشام – وقرر زعيم تنظيم القاعدة «أيمن الظواهري» الانحياز إلى الجولاني على حساب البغدادي؛ وهو ما دفع بالأخير إلى الانفصال عن تنظيم القاعدة في عام 2013.
في هذه الآونة، كان تنظيم القاعدة يمتلك اليد الطولى على جميع التنظيمات الأخرى بسبب العلاقات طويلة الأمد التي أقامها مع الجماعات الإسلامية المحلية في فترة حكم طالبان في أفغانستان (1996 – 2001)، حيث سمحت طالبان للقاعدة بإقامة معسكرات تدريب في البلاد. كما سيطر التنظيم على بعض المعسكرات التي أقيمت بالفعل في سنوات الحرب السوفيتية الأفغانية (1979 – 1989)، مثل معسكر الفاروق ودرونته وخالد بن الوليد وغيرها، وأقام معسكرات جديدة في خوست وقندهار وهيرات وغزنة وغيرها من الولايات. إضافة إلى ذلك، فقد درب تنظيم القاعدة مجموعة من الأجانب في معسكراته، مما أدى إلى تعزيز علاقاته مع كثير من الجماعات الإسلامية المتشددة – خاصة في باكستان – التي سبق وجودها بداية الحرب الدولية على الإرهاب في أكتوبر 2001.
وعنما قرر تنظيم الدولة الإسلامية إنشاء فرعه في منطقة باكستان – أفغانستان، والمعروف باسم «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان»، وجد التنظيم صعوبة بالغة في أن يجد لنفسه موطئ قدم في أرض يسيطر عليها تنظيم القاعدة والجماعات الموالية له. وبرغم هذه العقبات، تمكن تنظيم الدولة من تدشين هذا الفرع بعد فترة قصيرة من إعلان دولة الخلافة في عام 2014. وقام عدد من الجماعات المتشددة التي كانت مرتبطة بالقاعدة، مثل «تحريك الخلافة – باكستان»، و«جند الله»، و«تحريك الخلافة – أفغانستان»، و«حركة أوزبكستان الإسلامية»، وبعض فصائل «تحريك طالبان باكستان» (TTP)، بمبايعة البغدادي والانضمام إلى «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان». كما طورت جماعات أخرى، مثل «جماعة الأحرار»، و«جماعة عسكر طيبة» المعادية للشيعة علاقات عمل مع «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» (ISKP).
لكن «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» سرعان ما أطلق العنان لعنفه في شكل هجمات انتحارية واغتيالات واستخدام عبوات ناسفة في كل من أفغانستان وباكستان. وقد أدى المشهد الأمني غير المستقر في أفغانستان الذي كانت تقوده حركة طالبان، ، إلى تمكين «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» (ISKP) من بسط سيطرته على مساحات كبيرة في الولايات الشمالية والشرقية من البلاد. أما في باكستان، فقد شهدت الأوضاع الأمنية تحسنا في ذلك الوقت بعد تدشين عدد من العمليات العسكرية وحملات إنفاذ القانون. كما قامت قوات الأمن الباكستانية بقمع «حركة تحريك طالبان باكستان» (TTP)، والجماعات الموالية لها بعد أن قتلت الحركة 149 طفلا في هجوم على «مدرسة الجيش» في بيشاور في ديسمبر 2014.
برغم ذلك، شكل «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» (ISKP) خلايا نائمة في جميع أنحاء البلاد، قامت بتنفيذ عشرات الهجمات، خاصة في أقاليم السند، وخيبر باختونخوا، وبلوشستان. وعلى العكس من ذلك، لم يتمكن التنظيم من ترسيخ أقدامه بالطريقة نفسها في أفغانستان، وذلك بسبب الغارات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة باستخدام الطائرات المسيرة، والتي استهدفت من خلالها قيادات التنظيم هناك. وقد قتل أول أربعة أمراء للتنظيم في هذه الغارات، ولم يتمكن التنظيم من تحقيق أهدافه في إنشاء بنية تحتية وبناء شبكات ممتدة في المنطقة بسبب الوجود العسكري الأمريكي. ونظرا لأن «التنظيم» لم ينجح في تجذير نفسه من ملاذاته الآمنة في أفغانستان، فقد ظل يكابد صعوبات بالغة في الحصول على موطئ قدم له في باكستان بسبب تصاعد العمليات العسكرية وحملات إنفاذ القانون منذ عام 2014.
ومع ذلك، سعى «تنظيم ولاية خراسان» إلى الاستفادة من اسمه وما يمتلكه من ’أصول‘ ليس أقلها دولة خلافة مستقرة لها عاصمة في الرقة، والتمويل المالي السخي، والحضور القوي على وسائل التواصل الاجتماعي، وماكينة الدعاية النشطة، وقاعدة الدعم اللوجستي، والملاذات الآمنة في أفغانستان. وبرغم مقتل أربعة من أمرائه، وتعرضه للهجوم من قبل «طالبان الأفغانية» وقوات الأمن الأفغانية، استمر «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» في اقتطاع الأراضي وانتزاع الأقاليم في أفغانستان، وتجنيد المسلحين من أفغانستان وباكستان وبنجلاديش والهند وسريلانكا، إلى جانب جذب عدد كبير من الهاربين من الجماعات المسلحة الأخرى، بما في ذلك «طالبان الأفغانية». وقد كان الأمير الحالي «لتنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان»، مولوي أسلم فاروقي، قائدا متشددا سابقا في جماعة «عسكر طيبة»، بينما تم تجنيد الأمراء السابقين من «حركة تحريك طالبان باكستان» (TTP) من مجموعات طالبان الأفغانية الأخرى. وفي أعقاب تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا في عام 2019، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية تأسيس فروع جديدة له في باكستان والهند كجزء من استراتيجيته لتمديد شبكته في جنوب آسيا. وفي سبتمبر، رشحت الجماعة «داود محسود»، وهو ضابط سابق في شرطة كراتشي، ليكون أول أمير في ولاية باكستان.
بيئة مواتية للعودة
بدا موت البغدادي خسارة فادحة لطموحات «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» في قارات العالم الثلاثة التي كان ينشط فيها، لكن، بدا واضحا في الوقت نفسه أن التنظيم قد عكف – حتى قبل موت قائده – على توسيع قاعدته العملياتية، على الأقل في جنوب آسيا، وكان تأسيس فرعيه الجديدين هناك دليلا دامغا على ذلك. رغم ذلك، كان موت زعيم التنظيم بعد وقت قصير من سقوط دولة الخلافة، التي بلغت مساحتها في وقت من الأوقات نفس مساحة المملكة المتحدة تقريبا، لحظة قاصمة للجماعة. بيد أن أحدا من الولايات المتحدة، أو حلفائها الأكراد، أو قوات سوريا الديمقراطية، أو روسيا، أو تركيا، أو إيران، أو غيرهم من أصحاب المصالح في هزيمة تنظيم الدولة لم يبذل جهودا جوهرية لتعزيز هذه المكاسب؛ وهو ما دفع كثيرا من المعنيين إلى توقع بعث داعشي جديد.
علاوة على ذلك، تشير تقديرات إلى أنه لا يزال هناك ما يتراوح بين 20 ألف إلى 30 ألف من مقاتلي تنظيم الدولة في كل من العراق وسوريا سيكونون قادرين على إعادة تجميع أنفسهم بمجرد أن تسنح لهم الفرصة في خضم هذا المشهد الأمني المتقلب. وفي أفغانستان، تقدر أعداد مسلحي تنظيم الدولة بحوالي 5000 إلى 6000 مقاتل، ويحتفظون بقواعد في الولايات الشرقية والشمالية. كما يمتلك التنظيم ميزة أخرى في المشهد الجهادي الثري في باكستان، حيث تنشط مجموعة كبيرة من التنظيمات الجهادية من جميع الأنماط، سواء المحلية، أو الإقليمية، أو الطائفية، أو العالمية، وتنفذ عددا كبيرا من الهجمات الإرهابية. وقد ناضل تنظيم الدولة من أجل ترسيخ أقدامه في المنطقة بعد الخسائر التي مُني بها فرعه في خراسان في صفوف القيادة، والتي نجمت عن الغارات الجوية الأمريكية بالطائرات المسيرة وضربات القوات الخاصة. والآن، مع احتمال سحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان في المستقبل القريب، فإن تنظيم الدولة ستتوافر له بيئة مواتية لنشر مخالبه في جميع أنحاء المنطقة. ربما يبدو استسلام ما لا يقل عن 300 مقاتل من «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» وعائلاتهم لقوات الأمن الأفغانية وكأنه انتكاسة حادة في مسيرة التنظيم، لكنه – رغم ذلك – لا يزال مهيأ للبقاء على قيد الحياة، واستعادة نشاطه الغابر برغم الخسائر.
(يُتبع)
* التعريف بالكاتب:حاصل على درجة الدكتوراه في دراسات الإرهاب من جامعة فريجي بروكسل في بلجيكا. له كتابات متخصصة في مكافحة الإرهاب، وتنظيم القاعدة، والجماعات الباكستانية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية،والأيديولوجيات الجهادية، كما ألف العديد من الكتب، مثل Roots of Islamic Violent Activism in South Asia (2014)، وFrom Jihad to Al-Qaeda to Islamic State (2015)، وThe Al-Qaeda Network in Pakistan (2015).
فرحان زاهد
هذه المادة مترجمة.. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا