منوعات

داعش في ليبيا (2 -2): البقاء والتمدد..من المحلية إلى القارية

*داريو كريستياني – مستشار المخاطر السياسية، وزميل زائر في المركز الدولي لحفظ النظام والأمن في جامعة ساوث ويلز (بريطانيا)

*عرض وترجمة: أحمد بركات   

 تؤكد حالة الانتعاش والفورة التي ميزت النشاط العملياتي لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، واتساع نطاق تأثير هذا النشاط في أعقاب اندلاع الصراع في الجزء الغربي من البلاد ضد قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، وتغير ملامحه الاستراتيجية والتنظيمية، أن التنظيم يتمتع بقدرة فائقة على التكيف والمرونة. كما تمثل التطورات التي شهدها التنظيم مؤخرا انعكاسا جليا لأولوياته الاستراتيجية وأسلوب عمله، وإدارته لموارده البشرية من وجوه عدة.

اقرأ أيضا:

بيئة حاضنة للإرهاب

تمثل التجربة الليبية لتنظيم الدولة تطبيقا كلاسيكيا لمبدأ ’البقاء والتمدد‘. ففي أعقاب انهيار مرحلة ما بعد القذافي الانتقالية، واندلاع حالة الاستقطاب بين قوات حفتر في شرق البلاد وعدد من القوى المتنوعة في الغرب في عام 2014، انتقل مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق إلى ليبيا. كان الهدف هو الاستفادة من حالة التصدع الاستراتيجي والسياسي المتفاقمة في البلاد عن طريق تأسيس قاعدة عملياتية هناك.

وعلى عكس سوريا والعراق، كان المشهد الليبي خلوا من أي توترات طائفية يستطيع التنظيم استغلالها والبناء عليها، برغم وجود أنواع أخرى من الانقسامات، سواء على المستوى السياسي، أو حتى بين المناطق والمحافظات. ومن ثم، اتجهت قوى مختلفة وكيانات إقليمية، مثل المقاتلين الجهاديين في درنة ومجموعات صغيرة من الموالين السابقين لنظام القذافي في سرت، إلى البحث عن حلفاء لإدارة مصالحها. لكن التعاون الوثيق بين قوى محلية فاعلة، خاصة في مصراتة، وقوى خارجية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت دعما جويا، أدى إلى هزيمة تنظيم الدولة بعد صعوده وترسيخ قوته الإقليمية في سرت.

من المحلية إلى القارية

لكن، برغم الهجمات التي تعرض لها التنظيم، إلا أنه لم ينجح فقط في المحافظة على نشاطه العملياتي داخل ليبيا، وإنما أيضا في إعادة انتاج نفسه إلى حد ما. وفي الوقت الحالي، يتألف تنظيم الدولة الإسلامية من مقاتلين جاءوا محملين بتجارب متنوعة، سواء كانوا ليبيين ارتبطوا بالتاريج الجهادي داخل البلاد، وبخاصة في معقله التاريخي في درنة، أو مقاتلين عرب من خارج ليبيا ارتبطوا بالموجة الأولى لتمدد تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا في الفترة من 2014 إلى 2016، أو جهاديين إقليميين ينتمون إلى خلفيات وطنية وإثنية متباينة بدءا من شعب التبو في تشاد والنيجر، ومرورا بالسودان، ووصولا إلى منطقة الساحل الإفريقي.

ويعد هذا المكوِن الأخير الأكثر أهمية على الإطلاق، حيث يشير إلى تطلع تنظيم الدولة ليس فقط إلى الاستمرار في ليبيا، وإنما أيضا إلى التمدد منها إلى بقية أنحاء القارة. يؤكد هذا التوجه أيضا التأبين المطول الذي نعى به تنظيم الدولة في ليبيا مقاتله السوداني محمد بن أحمد الفلاتة (المعروف أيضا باسم أبو عاصم المهاجر، وأبو عاصم السوداني). كما أن التنظيم – حتى منذ مراحل تمدده الأولى في الداخل الليبي – كان حريصا للغاية على تجنيد مقاتلين من التبو وغيرها من القبائل في جنوب ليبيا ليظهر أنه منفتح على الجميع، وليس قاصرا على العرب دون غيرهم. يتناغم هذا الطرح أيضا مع ما يشهده التنظيم في المرحلة الراهنة من تمدد قاري في إفريقيا، خاصة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق.

التوترات الإثنية والوطنية.. القاعدة نموذجا

يميز هذا التوجه بشكل عام تنظيم الدولة الإسلامية عن غيره من الجماعات الجهادية التي تحرص في العادة على وحدة أعضائها على المستوى الخطابي، لكنها تواجه على أرض الواقع مشكلات عديدة بين المجموعات الإثنية والوطنية المتباينة. وتعد تجربة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي نموذجا حيا لهذه الإشكالية.فقد قادت التوترات العرقية وعدم توافر ما يمكن أن نطلق عليه ’التعددية الإثنو وطنية‘ في المواقع القيادية بالتنظيم إلى حدوث انقسامات داخلية، وهو ما نتج عنه ظهور حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وكان بداية لسلسلة من الانقسامات داخل التنظيم لم يتعاف منها إلا بعد سنوات.

لكن.. في ظل درايته بخطورة التوترات الوطنية والعرقية على وحدة الصف الجهادي داخل الجماعة الواحدة، والدور الذي لعبته هذه التوترات في الماضي في تفكيك عدد من الجماعات، تُظهر استراتيجيات تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في القارة الإفريقية، أن التنظيم شديد التدقيق في التعامل مع هذا التنوع العرقي، وأنه يسعى إلى تحقيق أقصى درجات الاستفادة منه، بدلا من أن يتحول إلى معول هدم يتسبب في انهياره ذاتيا.  

السودان.. المسرح القادم

إضافة إلى ذلك، يشير  أحتفاء قيادة التنظيم  بالسوداني أحمد الفلاتة، وهو ما بدا في التأبين المطول له، إلى أن ليبيا لا تمثل مجرد قاعدة عملياتية فحسب، وإنما نقطة انطلاق إقليمية لتنظيم الدولة للتمدد في العمق السوداني. ففي أول ظهور له بعد سنوات في مقطع فيديو تم نشره في أبريل الماضي، حث أبو بكر البغدادي الشعب السوداني على الجهاد.

أبو بكر البغدادي

إن الاحتفاء بحياة واستشهاد مقاتل سوداني لقي حتفه في معركة في ليبيا ،يمثل على هذا الأساس ’حيلة إنسانية‘ من أجل تعزيز التواصل بين كوادر التنظيم في ليبيا والجماعات الراديكالية في السودان، حيث تتشابه ديناميات الصراع في السودان إلى حد كبير مع حالة عدم الاستقرار التي انتعش فيها التنظيم في الماضي في ليبيا. ومن ثم، يصبح تعزيز وجود تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا عاملا فعالا في مرحلته القادمة للتمدد في السودان.

وإجمالا.. فقد هيأ الصراع في في غرب ليبيا فرصة كبرى لتنظيم الدولة الإسلامية لتعزيز وجوده العملياتي وتوسيع نطاقه. وقد جاء هذا التطور متناغما بدرجة كبيرة مع توجه عام يمكن ملاحظته بسهولة منذ نهاية عام 2017، أدى إلى حضور متزايد للمكون الليبي في قيادة التنظيم في الفترة الراهنة عما كان عليه في مراحل ظهوره الأولى. وقد أعاد هؤلاء القادة تنظيم الجماعة من خلال إنشاء وحدات صغيرة في الصحراء، تقوم بتنفيذ مهام عسكرية تعتمد في المقام الأول على أساليب حرب العصابات ونظام الكر والفر.

رغم ذلك، لا يزال تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا يمثل مؤسسة جهادية متعددة الجنسيات تضم مقاتلين من جميع أنحاء العالم. كما يتمتع المكوِن القادم من منطقة الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء الكبرى بأهمية بالغة داخل التنظيم، كما يتضح من التأبين الذي نشره التنظيم في مناسبة استشهاد الفلاتة. على هذا الأساس، فإن تنظيم الدولة الإسلامية ينظر إلى وجوده في ليبيا ليس فقط باعتباره مهما لتنفيذ استراتيجيته القائمة على البقاء والتمدد على المستوى المحلي، وإنما أيضا على التوسع والانتشار على المستوى القاري. وتؤكد التطورات التي تشهدها جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق أن هذا التوسع القاري يمثل الهدف الاستراتيجي الجديد. كما تمثل السودان – خاصة في ضوء دورها المحوري في تاريخ الحركات الجهادية، إضافة إلى الاضطرابات التي تجتاحها في الوقت الراهن – هدفا بالغ الأهمية للتنظيم. ومن ثم يصبح تعزيز وجود التنظيم في ليبيا واستقراره واستمراره عاملا مهما لتعزيز حضوره العملياتي في السودان، وفي أجزاء أخرى من القارة الإفريقية.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock