نقلا عن: صفحة الكاتب على فيسبوك
مجتمعات أمريكا الجنوبية في البر الرئيسي (الأزتك، المايا، الزابتوك، الأنكا) قبل وصول الأسبان، كانت مجتمعات متحضرة طورت أنظمة كتابة ومثلها تطورت نظم الحكم رافعة معها أشكال إجتماعية-إقتصادية معقدة، حتى إن وصف الأسبان لعاصمة الأزتك «تينوشتيتلان» ببيوتها الحجرية ذات الطوابق المتعددة وأنظمة تغذيتها المعتمدة على الزراعة المروية والتجارة وقنوات مائها العذب التي صُممت لإيصال ماء الشرب والإستحمام لكل منزل، وعدد سكانها البالغ عددهم 250,000 نسمة وهذا العدد يفوق الحواضر الأوروبية مثل جنوى وأشبيلية التي عرفها الأسبان بأربعة أضعاف، حتى إن الأزتيك إستطاعوا هزيمة الحملة الإسبانية بقيادة هرنان كورتيس 1519 وقتلوا 900 من أصل 1200 أسباني كانوا معه، وبالتالي لم يكن هنالك أي تفوق إسباني على السكان الأصليين للمنطقة حتى عسكرياً، فكيف دُمرت هذه المجتمعات المتطورة؟.
إذا سلمنا للرواية الأوروبية القائلة بإن الوباء هو من تكفل بتنحية هذه الأقوام من مسرح التاريخ تلك الرواية التي بلورها الفيلسوف جورج هيغل بعبارة «إن سكان العالم تلاشوا عندما لامستهم الروح -أوروبا-» فلماذا لم يفني وباء الطاعون الاوروبيين؟ وكذلك العرب؟ لماذا لم يستطع الناجون في أمريكا إعادة حياتهم كما فعلت بقية الأقوام في العالم القديم؟
ما حدث إن هذه المجتمعات «البكر» لم تكن قد أصطدمت بمرض الجدري الذي نقله الأسبان معهم، كان مرض الجدري مرض شبه طبيعي في أوروبا يصيب الأطفال فقط ويكتسبون منهم مناعة في حين بإمكان تحصين الأطفال الذين لم يصابوا به عبر «التشريط» بالفيروس الضعيف، وهي تقنية إبتدعها الصينيون في القرن الحادي عشر حيث لاحظوا إن الذين يصابون بالجدري يكتسبون مناعة منه وبالتالي مارسوا عدوى الأطفال بميكروب الجدري عن طريق القشور الناتجة من حالات الإصابة المتوسطة، هكذا كان للأسبان مناعة من المرض الذي نقلوه معهم، عاد كورتيس بحملة أخرى عام 1521 لمواجهة الأزتيك لكن الجدري كان قد وصل قبله عبر هيسبانولا-كوبا حالياً- وفتك بالأزتك فدخ كورتيس بنصر مظفر على الناجين من الوباء فقتل 40 ألف رجل وإمرأة وطفل في العاصمة وأباد الأزتك عن بكرة أبيهم، تابع الجدري طريقه بإتجاه الشمال نحو الإنديز العليا قلب حضارة الأنكى، الأكثر إتساعاً في العالم في ذلك الوقت، فأقتلع الآلاف من هذه الحضارة وتركها جاثية على ركبتيها أمام الفاتح النغل فرانسيسكو بيزارو الذي أكمل عمل الجدري بفولاذ طيطلة.
بالعودة إلى بؤرة الوباء هيسبنولا التي كان حظها التعس الذي جعلها أول من تصادف الأسبان الباحثين عن الهند، كان يقطنها شعب التاينو قُدرت أعدادهم بمليون نسمة أو أكثر، وبينما كان الأميرال كريستوفر كولومبس يعطي الأوامر ببقر بطون الحوامل وأغتصاب الفتيات وتقطيع أطراف الرجال وبعث الكتائب للبحث عن الفارين في الغابات كان الجدري قد بدأ عمله هو الآخر وبحلول العام 1550 أنقرض التاينو عن بكرة أبيهم.
بحلول العام 1605 تناقص عدد سكان أمريكا الوسطى والجنوبية من 25.2 مليون نسمة عام 1518 إلى 1.1، كان هذا التناقص مركب بدأ اولاً بالوباء الذي حمل الأوروبيين، ثم بالسيف الذي حمله الأوروبيين، ثم بأفكار عمل المناجم التي حملها الأوروبيين ايضاً، كان الأوروبيين يدخلون عشرين عامل من السكان الأصليين إلى مناجم البيرو فيخرج نصفهم كسيحاً وقد ترك النصف الآخر ميتاً داخل المنجم.
تعامل الأوروبيين من هذه الإبادة المركبة بحقيقة؛ وهي منحة من الله للأوروبيين ليستعمروا هذه الأرض، يكتب راهب إسباني شهد ما فعله الجدري بالسكان الأصليين «بالنسبة للطاعون الذي رأيناه بين (الهنود) لا يمكنني إلا أن أشعر إن الله يخبرنا: «إنكم تسارعون في القضاء على هذا العرق، وأنا سأساعدكم بحصدهم بسرعة أكبر».
بالتوجه إلى أمريكا الشمالية وبعد ما يقارب السبعين عام من فناء الشعوب على يد الأسبان كان الجدري قد واصل طريقه من أمريكا الجنوبية إلى الشمالية، وفي ماساشوستس الساحلية عند نزول الحجاج الأنجلوساكسون كان الجدري يفتك بشعب الباتوكست، كان ذلك مناسباً جد للحجاج فبدلاً من محاربي الباتوكست الذين قد يطردونهم ويعيدونهم للبحر كانت الأراضي شبه خالية، وفسر أحد الحجاج هذا «إن يد الله الطيبة تبارك بداياتنا من خلال حصد الأعداد الهائلة من السكان الأصليين عن طريق الجدري». في نيو انغلاند في وادي كونكتيكت فتك وباء الجدري بشعب البيكوت الذي كان يقاوم الجيش الإنجليزي في المنطقة، ومع هذه الفرصة الذهبية للبيض قامت القوات الإنجليزية بذبح كل من نجى من الوباء بهجمة خاطفة، تذكر أحد المرافقين للجيش الإنجليزي «لقد كان مشهداً مخيفاً أن نراهم يحترقون وتجري أنهار من الدماء، وكانت الرائحة مرعبة ولكن بدا إن النصر كان قرباناً لله تعالى».
كل ما سبق كان الأوروبيين يكملون عمل الوباء الذي جلبوه معهم، لكن في القرن الثامن عشر تغير الوضع صار الأوروبيون يرسلون الوباء على من لا يستطيعون ذبحه، بعد حرب خاضها زعيم قبيلة أوتاوا وأسمه پونتياك -والذي تحول إسمه ببركة البيض لماركة سيارة شأنه شأن العديد من أسماء السكان الأصليين التي يخلعها البيض على مصنوعاتهم بعد ذبح أصحابها- ضد البريطانيين وأخذ تسعة من حصونهم وحاصر الحصن المركزي في البحيرات العظمى ولو لا نقص الذخيرة الذي مني به پونتياك والقبائل التسعة التي بمعيته لما قُدر له الإنسحاب 1763 وإعلان الهدنة، بعد الهدنة قرر الجنرال جيفري أمهرست قائد الجيش البريطاني أن يتم إرسال بطاطين محملة بميكروب الجدري لتسرع في إباد القبائل التسعة، بل إن الأمر تطور إلى إن البيض صاروا يبيعون للقبائل صناديق محملة بالجدري على إنها صناديق مؤن. يذكر أحد زعماء القبائل التسعة بعد إن حصد الوباء شعبه «لقد كان الجدري الذي أحضروه -البريطانيين-من مونتريال خلال الحرب الفرنسبة مع بريطانيا العظمى يُباع لهم -الهنود- مغلفاً في صندق من القصدير وعندما يصلون إلى المنزل ويفتحون الصندوق يجدون بداخله صندوق قصدير اخر عندما يفتحوا الصندق الأخير يجدوا مجرد أشياء متعفنة، يختبره الكثيرون منهم بدقة ليروا ماذا يكون… وسرعان ما ينتشر بينهم مرض رهيب».
بالوباء ثم بالسيف ثم بالحرب البيولوجية أو بجحيم العبودية هكذا تربع البيض على عرش القارتين ثم العالم.