جارية، نوبية جميلة، زوجة خليفة وأم خليفة، لم تجلس على عرش مصر، بشكل رسمي، ومع ذلك عبثت يداها في جميع الأحداث المصيرية بالمحروسة وبالدولة الفاطمية على مدار أكثر من نصف قرن،.
كانت القائد الحقيقي في حياة ابنها المستنصر بالله، ذلك الحاكم الذي حكم مصر لأكثر من ستين عامًا، منذ ميلاده في عام 420هـ، وقد أصبح وليًا للعهد وهو في سن الثمانية أشهر في 421هـ، ثم تسلم أمور الحكم وهو في السابعة من العمر في 427هـ وحتى في 487 هـ.
المستنصر بالله
من وراء الستار
«رصد، السيدة، مولاتنا، الجهة الجليلة، الستر الرفيع، الملكة»، كل هذه ألقاب كانت تلقب أو تنادى بها تلك السيدة، وهو ما يشير لموقعها في صدر الدولة في تلك الفترة، ونفوذها الذي امتد لكل شيء في مصر وفي ربوع الدولة الفاطمية.. إنها الجارية التي أنجب منها الخليفة الفاطمي «الظاهر لإعزاز دين الله» ولده «أبو تميم معد المستنصر بالله الفاطمي» الشهير بالمستنصر بالله، ثامن الخلفاء الفاطميين.
الظاهر لإعزاز دين الله
ونظرًا لحداثة سن «المستنصر بالله»، عندما تسلم أمور الحكم في عام 427 هـ، فقد كان عمره سبع سنوات، صارت أمه «رصد» وصية عليه، ولكنها أنفردت بالحكم وأمسكت بزمام الأمور بشكل كامل.
أدارت كل الأمور والأحداث من وراء الستار، حيث طالت فترة وصايتها وامتدت حتى رحيلها في نهاية الشدة المستنصرية وبالتحديد في عام 464هـ.
كانت رصد أحد أسباب الشدة المستنصرية الشهيرة. تلك التي أكل فيها الناس لحم بعضهم، ولا يزال حتى الآن ذكراها ذائعا في مصر وأهلها من هول ما حدث فيها.
الحنين إلى الجذور
هي جارية نوبية، اشتراها الخليفة الفاطمي «الظاهر لإعزاز دين الله» من التاجر اليهودي أبي سعد التستري، وكان هذا التاجر يتولي أمور بيت المال، وكان الفاطميون مولعين بشراء النوبيات، اللائي اشتهرن بالجمال وكان ذلك بموجب معاهدة «البقط» الشهيرة، والتي تعد من أطول المعاهدات في التاريخ، والتي كانت بين مملكة «المقرة وحكام مصر المسلمين» واستمرت نحو سبعمائة سنة، لذا تعتبر من أطول المعاهدات في التاريخ. وكان من بنودها أن تقدم ا«لمقرة» 360 عبدًا سنويًا إلى والي مصر. على أن يكون هؤلاء العبيد صحيحي الأبدان ليسوا من العجائز أو الأطفال، ويكونوا خليطًا من الذكور والإناث. يضاف إليهم أربعون عبدًا توزع على وجهاء ولاية مصر».
وكانت هذه المعاهدة تلزم النوبة بإرسال العبيد، مما يرمز إلى التبعية لولاية مصر، على أن تلتزم مصر بإرسال البضائع من القمح والعدس للمقرة.
وقد زاد عدد النوبيين في مصر – خاصة في عهد الخليفة المستنصر- تلبية لمطالب والدته «رصد» والتي كانت تناصر بني بلدها ضد الأتراك والروم.
أصبحت رصد الوصية على ابنها «المستنصر بالله»، وساعدها في ذلك التاجر اليهودي «التستري» والذي أصبح رئيس ديوانها.
نحن هنا أمام امرأة قوية تريد أن تثبت جدارتها، وعقل ومال يهودي، والاثنان يقودان المملكة، لأنها لم تتنازل عن الحكم عندما بلغ ابنها سن الرشد، فقد استمرت تحكم عوضًا عن ابنها. حتى بعد أن أصبح شاباً.
شهدت تلك الفترة الكثير من الاضطرابات السياسية والإدارية والاقتصادية، وكان للسيدة «رصد» ديوان خاص بها تدير فيه شؤونها المالية والإدارية، وكانت تتحكم فيه بمقدرات البلاد من خلال تأثيرها على الوزراء وقادة الجند وأصحاب رؤوس الأموال من التجار والولاة.
لكن خطورة ما فعلته رصد هو تقريبها لطبقة الجند والرقيق من النوبيين، والسعي الدائم لتغليبهم على طبقة الروم والأتراك في الدولة الفاطمية مما أدى إلى تصاعد حدة الصراع بين الفئتين.
كانت رصد تقيم في قصر اللؤلؤة والذي بناه زوجها الظاهر لإعزاز دين الله وكان من أجمل قصور ومتنزهات القاهرة، وامتلكت فيه «منضرة» وهو زورق خاص بها مُحلى بالفضة لتتنزه فيه وقد أهداه لها أبو سعد التستري سنة 436 هـ، ولقد قُدرت الفضة التي استعملت فيه بمئة ألف وثلاثـين ألـف درهم، كما امتلكت أربعة الآف سرج وآلات فضة فكانت حزائنها تشبة خزائن الخلفاء، حيث كان لها الكثير من الإيرادات المالية.
وكان المسلمون في ذلك الوقت يشعرون بالضيق من نفوذ التاجر اليهودي «التستري» وأهل ملته من اليهود والذين تشعبوا في أركان الدولة وزاد مالهم ونفوذهم، في مقابل إساءه معاملة للمسلمين، وقد عبر الشاعر «ابن البواب» عن إحساسه بالمرارة لدي المصريين قائلا:
يهود هذا الزمان قد بلغوا… غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم… ومنهم المستشار والملك
وكان هذا كله بسبب دعم ومناصرة رصد والتي أصبحت هي الحاكم الآمر في كل شيء، فقد أخذت علامة لنفسها للتوقيع على الأوراق الرسمية وهي «الحمد لله وليُ كل نعمة». وتمتعت بالكثير من الألقاب والامتيازات مما يدل على أنها تتحكم بالأمور.
كل هذه الأموال والإيرادات جعلتها تتصرف في جميع شئون الحكم، واستخدام النوبيين – أو أبناء جلدتها – فقد أكثرت من شرائهم وذلك بداية من عام 440 هـ، حتى صار عددهم حوالي خمسين ألفًا، وكانت تريد من وراء ذلك أن يسود النوبيون على الترك الذين كانت تكرهم بشدة خاصة بعد قتلهم صديقها وولي نعمتها «التستري» رئيس ديوانها المخلص،.
وخلال الفترة من عام 436هـ وحتى 463هـ كان تعيين الوزراء وعزلهم والانقلابات والمكائد هو السائد فيقول «ابن القلانسي» عن تلك الفترة: «وقلت الأقوات واضطربت الأحوال واختلت الأعمال».
ابن القلانسي
الشدة الأولى
وسط هذا الجو من المؤامرات، ضربت المجاعة مصر مرتين خلال فترة حكم المستنصر.
لذا تظل الشدة المستنصرية، معروفة في التاريخ، كسابقة لم تحدث في تاريخ مصر، ولم تشهد مثلها من قبل، بل لقد اعتقد كثير من الناس اقتراب قيام القيامة بسبب ما حدث، من هلاك للنبات وقتل للأنفس وجفاف لم تره مصر من قبل، وفقدان لقيمة العملة، وضياع أماني وأحلام الناس.
لم يكن المستنصر بالله حاكمًا ظالمًا كي تحدث تلك المجاعات في عهده، على العكس كان محبوبًا وعادلا في حكمه. وكان يخطب باسمه على كافة المنابر بطول وعرض الدولة الفاطمية وكان ختمه على الأوراق والمعاهدات بتلك العبارة شديدة الخصوصية: «بنصر السميع العليم ينتصر الإمام أبو تميم»
عملة ذهبية للخليفة المستنصر، مصر، 1055
لكن الشدة كان سببها معروفا، وهي أمه «رصد» تلك التي كانت تتدخل في كل شيء من شئون الحكم، ويذكر أن مصر في بدايات عهد المستنصر كانت في رخاء وازدهار كبيرين، ويذكر ان أبواب قصر المستنصر كانت مفتوحة للعامة والأدوية كانت توزع بالمجان على المرضي.
حدثت الشدة المستنصرية الأولى بالتحديد عام 444هـ، وحدثت بسبب عدم وعي المستنصر عندما سار خلف وزيره «أبي محمد علي البازوي» ولم يتبع ما كان يتم من تقاليد وهي أن يشتري الخليفة غلة بقيمة مائة ألف دينار سنويًا حتى يستطيع أن يسيطر على الأسواق وأسعار السلع، ويستطيع الخليفة بهذه المؤن المخزنة أن يواجه جشع التجار بالمنافسة ويحارب الاحتكار بوفرة الموارد لديه، وظلت هذه العادة قائمة لسنوات طويلة حتى أصبحت غير ذات جدوى لأن الأمور استقامت والأسعار أضحت قليلة وفي متناول الجميع.
وعندما جاء عام 444هـ وانخفض منسوب المياه اللازمة للزراعة في النيل، شحت الغلة وارتفعت الأسعار، كما زاد التجار من جشعهم لاستغلال المواقف العصيبة، وقد سارع التجار لتجويع السوق وتخزين الغلال ولم يعد هناك ملجأ سوي الغلة المخزنة في المخازن السلطانية التي لم يعد الخليفة يشتريها.
يقول المقريزي إن «البازوي» كان من أتباع «رصد» حيث قالت له: «لا يضيق صدرك فأني لا استبدل بك أحدًا» وتم ذلك بعد أن صرف الوزير أبو البركات الجرجرائي عن منصب الوزارة في عام 441هـ، واستمر البازوي في خدمه سيدته «رصد» ينفذ تعليماتها واوامرها.
امتدت تلك الأزمة لقرابة العام ونصف حتى بدأ النيل يأتي بالخير وعادت الأوضاع لحالها الأول.
الشدة الثانية (الكبرى)
وفي عام 457هـ حدثت الشدة المستنصرية الثانية والتي امتدت لسبع أعوام، وكان السبب الرئيس فيها انخفاض منسوب الماء في النيل، لكن السبب الذي جعلها أقسي وأبشع أزمة ضربت مصر خلال تاريخها هو «السيدة رصد» والده المستنصر بسبب تدخلها المستمر في أمور الحكم، فقد كان يتم تعيين الوزراء صباحًا وعزلهم في نهاية اليوم، فقد تم تعين حوالي أربعين وزيرا خلال فترة اربعة سنوات،.
وزاد من وطأة تلك الشدة الصراعات التي نشأت والقتال الذي ظل مستمرا بين الاتراك والنوبيين والروم.
فقد دارت الحرب بين الجنود وبعضهم البعض، وقد كان الجيش الفاطمي يتألف من الأتراك الذين تحالفوا مع جنود البربر وطردوا الجنود السودانيين من القاهرة إلى الصعيد، وحين وصل السودانيون إلى الصعيد عاثوا فيه فسادًا وعملوا على نشر الفساد وتعمدوا إفساد نظام الري، أما عن الأتراك فلقد غدروا بالبرابرة وطردوهم من القاهرة إلى الوجه البحري وسيطر الأتراك على القاهرة ونهبوا قصور الخليفة وأسرته وتقطعت أوصال المحروسة وانقطعت طرق نقل البضائع فبدأت المجاعة الكبري. كل هذه الأسباب بالإضافة إلى السبب الرئيسي وهو انخفاض منسوب المياه اللازمة للزراعة.
المستنصر المغلوب على أمره!
كان من الواضح أنه كان لأم المستنصر «رصد» الرغبة في السيطرة على كل شيء يحيط بالخليفة، فذات مرة تدخل الخليفة في أمر البلاد وذلك بمحاسبة الوزير القاضي ابن أبي كدينة وأراد أن يُعيد ذلك الوزير الفاسد المال الذي نهبه، فأمر بضربه ووضعه في آله التعذيب «العصارة» حتى كاد أن يتمزق ويموت، لولا تدخل «رصد» التي أمرت ابنها الخليفة بتركه باعتباره أقدم على شيء دون ان يخبرها، فقالت له: «ما تريد من هذا الرجل، فقال: المال، فقالت: ما هذه طريقة…. وأنا أقرر لله عليه ما تريده منه»، فغضب الخليفة ودخل قصره معتكفًا، لكن «رصد»، وأعوانها – ، انزعجوا من تصرف الخليفة فأرسلوا خلفه من يخوفه من عاقبة تصرفاته حتى يعود معهم فقالو له: «يا مولانا الله الله فينا وفيك، وأن لم ترجع الساعة إلى القصر، نُهب ونهب البلد جميعه، وتفاقم الأمر تفاقما لا يمكن استدراكه»، وعاد معهم المستنصر قائلا: «أنا مغلوب على أمري، ومدفوع عن أغراضي، وقد تركت الأمر لمن غلبني».
واستمر الوضع يتفاقم من سىء إلى أسوأ حتى ظهر القائد «ناصر الدولة بن حمدان» الذي أجبر المستنصر على إخراج ذخائر آبائه وعلى بذل كل ما يملك من مال لإصلاح الأحوال، ثم اتجه ناصر الدولة إلى رصد، فعمل على اضعاف نفوذها فصادر أموالها وممتلكاتها، وفرض عليها غرامات، وقدر ما أخذه منها بخمسين ألف دينار، فتراجع نفوذها، لكنها تمكنت من الفرار هي وبناتها سنة 464هـ إلى الشام، والبعض يقول إلى بغداد بسبب الجوع وضغط الازمة الاقتصادية الطاحنة بسبب الشدة المستنصرية.
لتنتهي حياتها وتذهب غير مأسوف عليها بعد أن تسببت في تلك الشدة القاسية التي ارتبطت بابنها – الذي كان دمية في يديها -وكان أحري أن توصم هي بها.
المصارد:
- الخطط المقريزية.
- السيدة رصد ودورها في الحياة السياسية للدولة الفاطمية، د. وسن سمين محمد أمين، كلية التربية ابن رشد جامعة بغداد