«التطرف» ليس حكرا على دين بعينه أو جماعة إنسانية بعينها، كما أن أزمته لا تقتصر على «التطرف الديني» وفقط، غير أن تركيز وسائل الإعلام المختلفة عليه، جعل منه قضية الساعة، ومن ثم وجب على الباحثين -على إختلاف تخصصاتهم العلمية في مجال العلوم الإنسانية- الإهتمام بدراسة هذه الظاهرة بكل أنماطها وأبعادها سواء ارتبط ذلك التطرف ببعده «الديني أو الفكري أو الأخلاقي».
الدكتور «محمود كيشانه» الباحث المصري المتخصص في الفلسفة الإسلامية في دراسته «التطرف الديني .. الأسباب الخفية .. من انتصار العنصرية إلى غياب القيم الإنسانية» التي شارك بها ضمن أعمال كتاب «التطرف الديني .. في فكر الجماعات الإسلامية .. نحو مقاربة تفسيرية» الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود .. للدراسات والأبحاث» يطرح قضية التطرف الديني بالبلدان العربية، عبر ثلاثة محاور رئيسية تتضمن: الأسباب الخفية لإنتشار ظاهرة التطرف، وكيف أدى غياب منظومة القيم الإنسانية إلى تفشي تلك الظاهرة، وأخيرا رؤيته حول كيفية مواجه ظاهرة التطرف.
الأسباب الخفية
يتناول الدكتور «محمود كيشانه» طبيعة الأسباب التي أدت إلى انتشار ظاهرة التطرف الديني بالبلدان العربية مُشيرا إلى تعدد منابعها: منها ما يتعلق بالمؤسسة الدينية الرسمية وما يتعلق بما وصفه بجهل الشعوب الفقيرة وإنخفاض ثقافتها الدينية، ومنها ما يتعلق بإستبداد النظم الحاكمة إلى جانب فشل آليات مواجهة ظاهرة التطرف ذاتها.
د. محمود كيشانه
المؤسسة الدينية الرسمية بالبلدان العربية -وفقا لكيشانه- تعاني من الجمود والتقليد إضافة لرفض أي دعوة إصلاحية جديدة ظنا منهم أن الأولين قد وضعوا الأصل النهائي للعلم الذي ليس بعده علم، وهو ما نجم عنه شيوع روح الجمود التي امتد أثرها لدعم منظومة الجماعات المتطرفة. وقد نجم عن حالة الجمود تلك التي سادت داخل منظومة المؤسسة الرسمية الدينية شيوع حالة من محاربة العلم والعلماء الحقيقيين.
يتوقف كيشانه عند قضية الاستبداد السياسي بالعالم العربي في علاقتها بقضية التطرف الديني مُشيرا إلى أن فساد النظم السياسية واستبدادها يعد أحد اهم العوامل التي دعمت تفشي ظاهرة التطرف الديني في العالم العربي.
في هذا السياق يستشهد كيشانه بعدد من الكتابات التي تناولت فكرة الإستبداد بالعالم العربي، كان منها «طبائع الإستبداد» للكواكبي، و«حاضر العالم الإسلامي» لشكيب أرسلان، إلى جانب كتاب الأفغاني «العروة الوثقى» وهى تعد كتبا مرجعية في فهم كيف يلعب الإستبداد دورا حاسما في إفساد الطبقة الحاكمة التي ينجم عن فسادها إنهيار منظومة المجتمع ككل.
غياب القيم الإنسانية
دعا الكاتب الأمريكي «ديفيد إغناتيوس» بمقال له بإحدى الصحف الأمريكية، فيما بعد ثورات الربيع العربي، وما شهدته بعض البلدان العربية من أحداث دامية، إلى تنظيم مؤتمر دولي حاشد يتم فيه الإعلان عن إعادة رسم خرائط الوطن العربي الكبير، بما يخدم المصالح الأمريكية. علق على تلك الدعوة دكتور محمود كيشانه مُشيرا إلى أن «إغناتيوس» إنما استند في دعوته تلك إلى ما تعانيه البلدان العربية من حالة فوضى وإضطراب وصراعات فيما بين الأقليات الدينية، الأمر الذي حفز «إغناتيوس» على المطالبة بإعادة تقسيم العالم العربي وفقا لمناطق تمركز تلك الصراعات، بحيث يصبح العالم العربي مفتتا إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة المستقلة، مما يسهل مهمة أمريكا في السيطرة عليه.
ديفيد إغناتيوس
بذات السياق يلفت كيشانه النظر إلى ما قامت به صحيفة «نيويورك تايمز» مسبقا من نشر مجموعة من الخرائط للوطن العربي بعد التقسيم من وجهة نظرهم، يظهر فيها تقسيم عدد من البلدان العربية مثل «السعودية، العراق، سوريا، ليبيا، واليمن» وهو ما فسر طبيعة الدور الذي تلعبه أمريكا والبلدان الغربية في دعم منظومة التطرف الديني بالعالم العربي من وجهة نظر كيشانه، والتي نجم عنها تأجيج نار الطائفية والمذهبية فيما بين الشيعة والسنة والأكراد بالعراق، وبين السنة والشيعة في البحرين، و محاولات الفتنة فيما بين المسلمين والأقباط في مصر على سبيل المثال.
وقد لعب الإعلام الغربي دورا مؤثرا في تأجيج حالة الإحتقان بين أتباع الأديان المختلفة ولعل قصة الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم تعد نموذجا لتلك الحالة التي نجم عنها مزيد من أعمال التطرف التي وصلت حد الإرهاب إنتقاما لما تم تداوله من صور مسيئة.
يعود كيشانه ليؤكد على أن غياب القيم الإنسانية عن المجتمع الدولي، وما ينجم عنها من إختلال بالمعايير يعد رافدا رئيسيا من روافد التطرف بالعالم، ومن ثم يضرب مثالا بما تقدمه أمريكا من دعم للكيان الصهيوني وهو ما يساعدهم على قتل الفلسطينيين وتدمير قراهم.
كيف نواجه التطرف؟
يُجمع الباحثون المتخصصون في مجال دراسة التطرف الديني على أن تجديد الخطاب الديني يعد العلاج الناجع لمواجهة التطرف، ولكن كيف السبيل لتحقيق هذا الهدف؟
يجيب دكتور محمود كيشانه على هذا التساؤل مشيرا إلى ضرورة العمل على إعادة كتابة علوم الحديث في صيغة عصرية، إضافة لإعادة قراءة موقف الشريعة الإسلامية من عدد من القضايا منها على سبيل المثال الموقف من قضايا المرأة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة وغيرها من القضايا الأخرى.
رصد كيشانه عددا من الأهداف الجوهرية التي يجب أن يتبناها القائمون على منظومة تجديد الخطاب الديني، منها ضرورة العمل على «جانب المعاملات» للتأكيد على أن «المؤمن الحق تصبح معاملاته تطبيقا فعليا لعباداته» إلى جانب ضرورة أن يحرص الخطاب الديني على تأكيد وحدة المجتمع والمساواة بين الرجل والمرأة في العبادات والمعاملات، إلى جانب المساواة بين أتباع الديانات المختلفة في الحقوق والواجبات. كما يجب ان يتسم الخطاب الديني بالوسطية مع التركيز على ما يجمع الشمل من آراء واتجاهات ونبذ كل ما من سبيله النيل من وحدة الوطن.
من جانب آخر يُعد التواصل الثقافي بين الشعوب أحد أهم الآليات الداعمة لمواجهة التطرف الديني، ومن ثم فإن هناك ضرورة ملحة لتفنيد مقولة «الغزو الفكري» بما له وما عليه، مع الحديث عن النزعة العالمية وطرح فكرة «المواطن العالمي» في ظل واقع بعيد كل البعد عن فكرة «الدولة العالمية».
يختتم دكتور محمود كيشانه تقديم رؤيته حول آليات مواجهة التطرف في العالم العربي بالإشارة إلى أهمية الحرص على تطبيق فكرة «دولة المواطنة» بما تتضمنه من مبادىء «المواطنة والديمقراطية» ومن ثم العمل على تطبيق مبدأ تداول السلطة، في ظل إطار مجتمعي يتسم بقبول الآخر، ومن ثم يمتلك القدرة على التفريق بوضوح بين النص المقدس وفهم وتأويل البشر لهذا النص، فالمصدر شىء والمرجعية الفكرية المفسرة للنص شىء آخر، وبناء عليه فإن المجتمع إذا تمكن من الوصول لهذا الفهم فإنه بذلك يكون قد قطع شوطا كبيرا في التعامل مع أزمة التطرف الديني، التي تنجم بالأساس نتيجة غياب التواصل وقبول الآخر.