رؤى

التفسير اللاهوتي.. هل يصلح لفهم الخطاب الجهادي؟ (2-2)

جوناثان كول

ترجمة أحمد بركات

في الجزء الثاني والأخير من مقالته التي  جاءت تحت عنوان “السياسة واللاهوت والدين في العنف الجهادي“، يطرح “جوناثان كول” سؤالا محوريا حول أسباب ما يثار من جدل شائك وحساس عند الحديث عن “الثيولوجيا” أو (علم اللاهوت)، حينما يتعلق الأمر بالحركة الجهادية العالمية وما تنطوي عليه من عنف؟

 يكمن أحد تفسيرات ذلك – وفقا لكول – في طبيعة العلوم الاجتماعية المعاصرة؛ إذ تغشى هذه العلوم حالة من عدم الارتياح الواضحة والملموسة عند استخدام مصطلح “الثيولوجيا” بوجه عام، وهو ما يُعزَى إلى ما يطلق عليه جيسون بلوم “النزوع الطبيعي المنهجي الوجودي” لدى أغلب الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية، الذي يتمثل في “ضرورة تفسير الظواهر وفق أسباب طبيعية واقعية (دنيوية وليست دينية)”.

يتعامل النزوع الطبيعي المنهجي الوجودي مع الجانب الثيولوجي في موضوعاته باعتباره غير ذي صلة؛ حيث لا يعترف هذا المذهب بشيء اسمه “علاقة الله بالعالم”. “فالمفاهيم والخطابات الثيولوجية – إضافة إلى الممارسة والخبرة الدينية – يجب تفسيرها وفقا للأسباب والظواهر الطبيعية فقط، التي تكون بالضرورة خفية وغير واضحة في الموضوعات ذات الدوافع والأهداف الثيولوجية. أما السياسة – على عكس الثيولوجيا – فواقعية وملموسة وطبيعية؛ ومن ثم، تمثل تصنيفا مشروعا لتفسير الحركة الجهادية العالمية”. Image result for ‫الإسلام بعيد عن الإرهاب‬‎

 مشكلة العلوم الاجتماعية

 ويرد كول  في مقالته التي  نُشرت في فصلية Middle East Quarterly، عدد شتاء 2019، حالة التوتر التي تصيب الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية عند معالجة الحركة الجهادية العالمية إلى أن الأدبيات الجهادية مشبعة باللغة اللاهوتية. لذا يجد هؤلاء الباحثون أنفسهم مضطرين إلى القيام بشيء ما حيال اللاهوتية المعلنة للجهاديين. وفي مواجهة ذلك، توجد استراتيجيتان معروفتان في الأدبيات الأكاديمية والتعليقات العامة: تتمثل إحداهما في تقليل أهمية الثيولوجيا الجهادية وصولا إلى تجاهلها بالكلية، بينما تتمثل الأخرى في تفسير الثيولوجيا الجهادية على أنها “مجرد سياسة تنتحل اسما آخر”.

ويقدم “توماس هيجهامر”، الخبير البارز في الحركة الجهادية العالمية، صورة حية لاستراتيجية “التقليل – التجاهل”. فبينما يقر هيجهامر بأن الحركة “تمتلك بعدين أحدهما ثيولوجي والاخرسياسي، وبأنه يمكن تحليلها من كلا المنظورين”، إلا أنه يعود فيدافع بقوة عن التركيز فقط على البعد السياسي لأن البعد اللاهوتي – برغم كونه مفيدا لفهم “الأصول العقلية لبعض النصوص” – فإنه –فى رأيه- غير قادر على تفسير “التفضيلات السياسية” لدى الجهاديين. فالفكر الجهادي – بهذا المعنى – لديه بعد ثيولوجي، لكنه غير قادر على تفسير الأجندة السياسية الثورية العنيفة الخاصة به.

Image result for ‫توماس هيغهامر‬‎

توماس هيجهامر

جدل شائك

ومن جانبه، يؤكد عالم السياسة الفرنسي “أوليفر روي”، صاحب العديد من الكتب والكتابات التي تتناول الظاهرة الإسلاموية، أن عنف الجهاديين ينشأ عما يطلق عليه “أسلمة الراديكالية”، وليس “راديكالية الإسلام”. ويؤكد أن “الشباب المتمرد قد وجد ببساطة في الإسلام نموذجا لثورتهم الكاملة”. وبعبارة أخرى، كما يوضح كول، “يجب فهم الجهاديين حقيقة ًعلى أنهم ثوريون سياسيون يعبرون عن توجهاتهم من خلال الإسلام، ربما لأسباب تتعلق بالمواءمة، حيث أنهم ولدوا في أسر ومجتمعات مسلمة”.

Image result for ‫أوليفر روي‬‎

أوليفر روي

لكن الأدلة تجبر روي على استخدام مصطلح الدين بصورة مستمرة، بما يقوض أطروحته التي ترتكز بالأساس إلى أن الثيولوجيا لا تمثل ركنا ركينا في الفكر الجهادي. ويعترف بأن الجهاديين الأجانب من فرنسا وبلجيكا يبدون بشكل ساحق كمسلمين ولدوا من جديد، وأنهم “بعد أن عاشوا حياة علمانية متطرفة وفجة … يجددون فجأة احترامهم للدين”. ويخلص في النهاية إلى أنهم “مؤمنون صادقون”. لكنه يبدو بعد ذلك مرتبكا حيال حقيقة أن هناك “نقص في المعرفة الدينية لدى الجهاديين”. ويتخذ روي من هذا النقص في المعرفة الدينية الثيولوجية دليلا على أن الثيولوجيا ليست سوى أمرا عرضيا في الدافع الثوري الذي يقود الشباب المسلم المتمرد إلى استخدام العنف. ويمثل هذا النموذج مثالا واضحا على استراتيجية السياسة التي تنتحل اسما آخر.

ويرى كول أن تحليل “روي” يعكس إشكالية عامة ورائجة بين علماء الاجتماع المعاصرين، وهي عدم قدرتهم على حمل الخبرة الدينية المعلنة، أو حتى القابلة للرصد، على محمل الجد، حتى عندما ينطبق هذا على الشباب الذين اتخذوا قرارات حاسمة بالتوقف عن الحياة، وحمل أنفسهم على القتال، وربما الموت باسم الإسلام.

Related image

ويمثل العلماء المسلمون الغربيون – وفقا لروي – مصدرا آخر لهذا الجدل الشائك؛ حيث ينظرون إلى الأسئلة المتعلقة بالثيولوجيا الجهادية على أنها أسئلة معيارية لا يمكن تجنبها. لكن التوتر ينشأ من حقيقة أن الحركة الجهادية العالمية لا تطرح أسئلة ثيولوجية معيارية على العلماء غير المسلمين، أو – في واقع الأمر – على غالبية الغربيين. وبرغم ذلك، يخطئ بعض العلماء المسلمين تفسير عبارات وصفية صادرة عن علماء غير مسلمين بشأن المعتقدات الجهادية المعاصرة، ويفسرونها على أنها عبارات معيارية تتعلق بالإسلام بوجه عام، ثم يعارضون هذه التوصيفات.

ويحمل البعض هذه المعارضة إلى أقصى درجاتها. فعلى سبيل المثال، تؤكد الباحثة الإسلامية، أسماء أفسر الدين، أن “الذين يصفون أعمال هذه الجماعات المسلحة على أنها جهاد هم جزء من المشكلة”. وتذهب أبعد من ذلك، عندما تصفهم بأنهم ” من أنصار الإسلاموفوبيا   حيث يركزون على فكرة الجهاد كمعركة مسلحة”. هذه المعارضة لمجرد حتى الحديث عن “ثيولوجيا” جهادية تدفع بكثير من العلماء غير المسلمين إلى مياه التفسيرات السياسية الهادئة وغير المثيرة للجدل، التي يقدمها العلماء المسلمون من شاكلة أفسر الدين.Related image

أسماء أفسر الدين

لكن، كما يشير الفيلسوف الصيني، سون تزو “إذا كنت تعرف نفسك، ولا تعرف عدوك، فإنك ستقاسي مرارات هزيمة مع كل نصر تحققه”. من هنا يخلص كول إلى إن إغلاق الأبواب دون دراسات جادة وعميقة عن الفكر الجهادي سيتمخض لا محالة عن نتائج عكسية، وسيؤدي إلى سوء فهم جسيم لعدو يخوض الغرب ضده – على نحو صائب أو خاطئ – حربا ضروسا. ويجب على العلماء المسلمين، مثل أفسر الدين، أن يدركوا أن الإسلاموفوبيا ليست هي المسئولة عن وضع الجهاد موضع المناقشة والجدل العام، وإنما تتحمل الحركة الجهادية العالمية نفسها – على الأقل – جزءا من هذه المسئولية . فإذا لم يكن هناك جهاديون يصفون أنفسهم بهذه الصفة ويخوضون ما يصفونه بالجهاد ضد كثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة وحلفائها الغربيين، فإن قضية الجهاد ربما كانت ستنزوي – ولو بقدر- عن موائد النقاش كما كان الحال قبل هجمات 11 سبتمبر. ربما يجد العلماء المسلمون   مثل “أفسر الدين”  حساسية شديدة تجاه حقيقة أنه في الوقت الذي تبدو فيه قراءاتهم  للجهاد جديرة بالثناء، إلا أنها لا تسلط الضوء على حقيقة ما يعتقده الجهاديون، وهو ما يسعى صانعو السياسات والعلماء والعامة جميعا إلى فهمه.

Related image

“الفيلسوف الصيني “سون تزو

البعد الدينى

حسب كول، يمثل الدين البعد المفاهيمي الأكثر وضوحا في الفكر الجهادي، فكلمة “دين” تظهر على نحو متكرر في الأدبيات الجهادية. إضافة إلى ذلك، فإن الجهاد، كما يفهمه ويؤمن به الجهاديون، يؤخذ على أنه ركن أساسي في دين الإسلام. ويمكن التأكيد على أنه في العالم المفاهيمي الجهادي، فإن المفاهيم الثيوسياسية (اللاهوتية السياسية) مثل الخلافة والشريعة والحكم تُفهم، على نحو مناسب، على أنها مفاهيم دينية، أو بتعبير أكثر دقة إسلامية تقع تحت عنوان الدين.

لكن تصنيف “الدين” يخلق حالة من الارتباك الحقيقي في السياق الغربي، وهو ما يجعله تصنيفا غير فعال في تحليل الحركة الجهادية العالمية وما تنطوي عليه من عنف. ويكمن جوهر المشكلة في أن الدين في السياق الغربي يفسر بوجه عام على أنه ظاهرة جمعية شاملة وجماعية محدِدة على السواء، بمعنى أن هناك أديانا متعددة لكنها تتشارك جوهرا عاما. وتتجلى الرؤية الغربية لهذا الفهم للدين في انشغال الجامعات الغربية بالدين المقارن كمنهجية بحثية وكهدف للدراسات الدينية، وما يصاحب ذلك من هواجس تتعلق بتعريف وتحديد الجوهر الديني العابر للثقافات.

على سبيل المثال، يعرف الأكاديمي الأمريكي كينيث روز” الدين ” بأنه “البحث البشري للارتباط بالبعد غير المادي للسعادة والخلود”. بينما يعرفه المفكر الكاثوليكي الفرنسي الأمريكي، رينيه جيرارد “على أنه “أي ظاهرة ترتبط بأفعال تذكر وإحياء ذكرى وتخليد إجماع ينبثق عن قتل ضحية بديلة”. إلا أن هذه التعريفات تمثل تعريفات كلاسيكية تأصيلية للدين. لكن المشكلة هي أن الجهاديين يؤمنون بدين واحد فقط، هو الإسلام. وعندما يوظفون مصطلح ’دين‘، فإنه لا يكون ثم دلالات جمعية شاملة أو جماعية محدِدة، وهوما يقلل- إلى درجة كبيرة – من فائدة التعريفات العلمية للدين كأطر تحليلية لفهم الحركة الجهادية العالمية.

Image result for ‫كينيث روز‬‎كينيث روز

لا شك أنه لا يزال بالإمكان تطبيق تعريفات روز وجيرارد للدين بمعناه الواسع على الحركة الجهادية العالمية. لكن من غير المرجح أن يساعد البحث عن السعادة والخلود، أو تخليد ذكرى قتل ضحية بديلة على فهم الذهنية الجهادية وبرنامج العمل المنبثق عنها. إن أي بحث مثمر عن البعد الديني في الحركة الجهادية العالمية يجب أن يبدأ بالإسلام، وليس بما قد تتشاركه الحركة الجهادية العالمية مع البوذية مثلا

ويضيف كول أنه “ليس من المشروع، بطبيعة الحال، بحث ما إذا كان ثم روابط جوهرية بين الدين والعنف. لكن، يبقى هذا سؤالا منفصلا عن سؤال دور الإسلام في صياغة الفكر والعمل الجهاديين، كما أن الخلط بين الاثنين (الإسلام والفكر الجهادي) لا يساعد في فهم الأخير”. إن الحروب الصليبية المسيحية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر وتورط الكنيسة الألمانية مع الرايخ الثالث في القرن العشرين لا يمكن أن يفسرا فكر أو دوافع أو أهداف الجهاديين في القرن الحادي والعشرين. لكن هذ النوع من القضايا عادة ما يقحم نفسه – أو بالأحرى يتم إقحامه – في نقاشات الحركة الجهادية العالمية.

الخلاصة

لطالما ضللت ثنائية “الدين – السياسة ” تحليل ونقاشات الصراع الغربي ضد الجهاديين المعاصرين. وبدلا من التشبث بهذا النموذج السطحي العتيق، يتعين على الأكاديميين والصحافيين وصناع السياسات الغربيين – من وجهة نظر كول – أن يتخلوا عن إنكارهم طويل الأمد لدور الثيولوجيا الإسلامية في الحركة الجهادية المعاصرة. ويخلص إلى إن الاعتراف بأن الغرب يواجه لاهوتا سياسيا إسلاميا يرتدي مسوح حركة جهادية عالمية سيكون خطوة أولى ومهمة على طريق فهم الطبيعة الحقيقية لأحد أبرز التحديات الأمنية الجسيمة.

يمكن قراءة النص الأصلي للمقال باللغة الإنجليزية من هنا ?

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock