«بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير الجيوش الفرنساوية خطابا إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام، نُعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخالين من المعرفة وإدراك العواقب سابقا أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم الله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري سبحانه وتعالى أمر بالشفقة والرحمة على العباد، فامتثلتُ أمرَه وصرتُ رحيما بكم شفوقا عليكم».
نابليون يعطل البرلمان ثم يتراجع
بهذه الافتتاحية بدأ خطاب نابليون بونابرت إلى أهل المحروسة عندما قرر أن يُعيد تشكيل الديوان، الذي كان قد عطل عمله بعد أحداث ثورة القاهرة الأولى التي اندلعت في 20أكتوبر عام 1798م.
نابليون بونابرت
كانت مهمة هذا الديوان الوساطة بين شعب مصر والفرنسيين، ولما أخمد نابليون ثورة القاهرة الأولى، أشاع في البلاد التقتيل والتمثيل بقادة الثورة من المجاورين وصغار مشايخ الأزهر، فحكم على ستة منهم بالإعدام، أُقتيدوا إلى القلعة، حيث ضُربت أعناقهم وأُلقي بجثثهم في النيل، كما قتل الفرنسيون حوالي 2500 مصريًا، وفُرضت غرامات كبيرة على التجار و العلماء ورجال الدين ممن شجعوا و ساعدوا الثوار، كما عطل نابليون الديوان في نهاية أكتوبر عام 1798، عقابا لأهل مصر الثائرين.
نابليون بونابرت وثورة القاهرة الأولى
بعد مرور أقل من شهرين اكتشف نابليون أن تعطيل الديوان لم يكن بالقرار الصائب، فقد ظن أن المصريين يمكن أن يتعودوا، مع مرور الوقت، على التعامل مع الفرنسيين مباشرة دون واسطة من شيوخ الأزهر، لكن الأيام أظهرت له مدى كره المصريين للفرنسيين بسبب استمرار محاولة إخضاعهم بالحديد والنار، بإشاعة أعمال التنكيل والإرهاب، وفرض ضرائب جديدة، وجباية الغرامات المغالى فيها، ولم ينج من هذه السياسة أي فئة من أهل مصر، واكتوى بنارها التجار والعلماء ومساتير الناس والعوام وأهل القرى من الفلاحين على حد سواء.
وفى الوقت نفسه كان نابليون يُعِدُّ العدة لغزو سوريا واحتلالها، فكان عليه تأمين ظهره قبل أن يخرج في حملته لاحتلال سورية، ومن ثم لجأ إلى تهدئة خواطر المصريين، بإعادة تشكيل الديوان.
نابليون يخلط الدين بالخرافة
عندما قرر نابليون التراجع عن قرار حل وتعطيل الديوان، لم يكن يريد أن يشعر المصريون باضطراره إلى الرجوع عن قراره، فوجه خطابه «إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام». وفي هذا الخطاب حذا حذو كل من جاء قبله إلى مصر غازيا أو فاتحا أو حاكما، فاستخدم الدين وسيلة لمحاولة إقناع المصريين بصلاحه واهتمامه بمصالح البلاد والعباد، فدائما ما استخدم الطغاة والغزاة الدين لتمرير أغراضهم.
لكن نابليون تفوق على من سبقوه، فلم يستخدم الدين فقط، بل خلط الدين بالخرافة، وهو العالم بولع العامة بالخرافات وذوي القدرات الخارقة، فحاول إيهام الناس أنه يستطيع قراءة الغيب والاطلاع على مكنون النفوس، فأنهي خطابه على هذا النحو:
«واعلموا أيضا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد أن أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يرد، وإن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي، فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة والسلام».
البشتيلي يقود الثورة
بعد أن تسلم الجنرال كليبر قيادة الحملة الفرنسية، نتيجة اضطرار نابليون للعودة إلى بلاده بعد أن وصلته الأخبار بتأزم موقف فرنسا داخليا وخارجيا، اندلعت ثورة القاهرة الثانية ضد الاحتلال الفرنسي لمصر في 20 مارس عام 1800م، وقد انطلقت هذه الثورة من حي بولاق أبو العلا بقيادة الحاج مصطفى البشتيلي، أحد أعيان بولاق، ثم انتقلت الشرارة إلى باقي الأحياء، وكما انتقلت شرارة الثورة من حي بولاق إلى باقي أحياء مصر، تنوع أيضًا زعماء الثورة في أحيائها المختلفة، مثل السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، وكبير التجار أحمد المحروقي، والشيخ الجوهري.
ثورة القاهرة الثانية
في هذا الوقت، وعلى أطراف القاهرة، كانت تدور المعارك في منطقة عين شمس بين قوات الحملة الفرنسية بقيادة الجنرال كليبر وفرق من الجيش العثماني، وما أن وصلت أسماع أهل القاهرة أصوات المدافع في ميدان المعركة حتى دبت الثورة في حي بولاق، يقول الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»: «وأما بولاق فإنها قامت على ساق واحد، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة، وهيأوا عصيهم وأسلحتهم ورمحوا وصفحوا، وأول ما بدأوا به أنهم ذهبوا إلى وطاق «نطاق» الفرنسيس، الذي تركوه بساحل البحر «يقصد النيل» وعنده حرسية «أفراد حراسة» منهم، فقتلوا من أدركوه منهم، ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودايع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك «حصار» حوالي البلد ومتاريس واستعدوا للحرب والجهاد».
الثورة تعم أحياء القاهرة
بعد ذلك اتجه ثوار بولاق نحو قلعة قنطرة الليمون لاقتحامها، فردت حامية القلعة بنيران المدافع، ودار القتال بين الطرفين حتى انتهى بقتل 300 من الثوار، وكان من نتيجة ذلك أن هب بعض من أهالي الأحياء الأخرى لنجدة ثوار بولاق، ثم عمت الثورة أحياء القاهرة، خاصة بعد انتشار شائعات بهزيمة كليبر وجيشه في معركة عين شمس، فرغم عدم صدق هذه الأخبار، حيث إن الجيش الفرنسي كان هزم العثمانيين في هذه الموقعة، إلا أن انتشار هذه الشائعات زاد من حماسة المصريين وانتفضت معظم أحياء القاهرة وعمت الثورة أحياء المدينة كافة.
الجنرال كليبر
وعندما عاد كليبر إلى القاهرة كانت الثورة في أوجها، فحاول إعادة تنظيم قواته وتوزيعها للقضاء على الثورة التي وصفها قائلا: «استخرج الأعداء «يقصد أهل مصر» مدافع كانت مطمورة في الأرض، وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصب المدافع وعمل القنابل، وأبدوا في كل ناحية من النشاط ما أوحت به الحماسة والعصبية، هذه هي بوجه عام حالة القاهرة عند قدومي إليها «بعد معركة عين شمس»، وإني لم أكن أتصورها في هذه الدرجة من الخطورة».
معركة عين شمس
استمرت الثورة مشتعلة لمدة 33 يوما «من 20 مارس حتى 21 ابريل»، لجأ خلالها كليبر إلي محاولة عقد صلح مع الثوار مستعينا في ذلك بأعضاء الديوان من مشايخ وغيرهم، واستعان أيضا بالمماليك مثل مراد بك والبرديسي وغيرهم، لكن كل محاولات الصلح باءت بالفشل الذريع حيث رفض الثوار مبدأ التفاوض أصلا مع كليبر والفرنسيين.
مراد بك
التنكيل بأهل بولاق
واستمرت محاولات كليبر مرة بعد أخرى، يقول الجبرتي: «فكرروا عليهم المراسلة وهم لا يزدادون إلا مخالفة وشغبا، فأرسلوا في خامس مرة فرنساويّا يقول: أمان أمان سوا سوا، وبيده ورقة من ساري عسكر، فأنزلوه من على فرسه وقتلوه، وظن كامل أهل مصر أنهم «يقصد الفرنسيين» إنما يطلبون صلحهم عن عجز وضعف وأشعلوا نيران القتال، وجدوا في الحرب من غير انفصال… وظن أهل بولاق أن الباعث على ذلك نصرتهم، فصمموا على ذلك للحرب، واستمر هذا الحال بين الفريقين إلى يوم الخميس الموافق لعاشر برمودة القبطي، وسادس نيسان الرومي «أبريل»، فغيمت السما غيما كثيفا، وأرعدت رعدا مزعجا عنيفا، وأمطرت مطرا غزيرا، وسيلت سيلا كثيرا، فسالت المياه في الجهات، وتوحلت جميع السكك والطرقات، فاشتغل الناس بتجفيف المياه والأوحال».
الجبرتي
انتهز الفرنسيون انشغال الأهالي بإخراج المياه من المنازل التي أغرقتها السيول، وهجموا بقوة وعنف واخذوا يطلقون نيران مدافعهم على كل الأحياء. نال أهل بولاق ما لم ينله أي مكان آخر من أحياء القاهرة من تنكيل وتقتيل وحرق وسلب ونهب، يقول الجبرتي: «وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور… ثم استولوا على الخانات والوكايل والحواصل والودايع والبضايع، وملكوا الدروب وما بها من الأمتعة والأموال والنسا والصبيان والبنات ومخازن الغلال… وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذي وجدوه منعكفا في داره أو طبقته ولم يقاتل، ولم يجدوا عنده سلاحا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيّا…. وامسكوا بالحاج مصطفى البشتيلي ومن وجدوهم من الثوار، وأودعوهم بيت ساري عسكر، وفي اليوم الثالث أطلقوهم وجمعوا عصبة البشتيلي من العامة، وسلموهم البشتيلي وأمروهم بتجريسه في البلدة وأن يقتلوه بأيديهم، لدعواهم أنه هو الذي كان يحرك الفتنة ويمنعهم الصلح».
شيطنة البشتيلي
وعلى الفور بدأت مؤامرة شيطنة الزعيم الذي قاد أهل بولاق إلى الثورة على المحتل الأجنبي، بدأت أبواق الفرنسيين والخونة في إقناع أهل بولاق بأن ما نالهم من دمار لبيوتهم وموت أحبائهم وأقاربهم إنما هو نتيجة حماقة البشتيلي وإثارته للفتنة، وتحريضهم على رفض الصلح، وأن كل ما حدث لبولاق وأهلها إنما هو في رقبة هذا المارق المدعو البشتيلي.
حى بولاق أبو العلا
وهنا نحتاج إلى وقفة للتذكر… عندما احتل الفرنسيون مصر كان الحاج مصطفى البشتيلي تاجرا ثريا، يمتلك وكالة كبيرة لبيع الزيوت في بولاق أبو العلا، لكنه قرر أن يقاوم الاحتلال الفرنسي فشرع يخزن البارود في براميل الزيت استعداداً ليوم الثورة. يقول عبد الرحمن الجبرتي: «واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت سنة 1314ه «3 أغسطس 1799م»، وفيه قبضوا على الحاج مصطفى البشتيلي الزيات من أعيان أهالي بولاق وحبسوه ببيت قايمقام، والسبب في ذلك أن جماعة من جيرانه وشوا عنه بأنه بداخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة قدور مملوءة بالبارود، فكبسوا على الحواصل فوجدوا بها ذلك كما أخبر الواشي، فأخذوها وقبضوا عليه وحبسوه كما ذُكر، ثم نقلوه إلى القلعة.» ولم يذكر الجبرتي متى أفرجوا عنه.
مصطفى البشتيلي
لماذا نتجاهل زعيم الثورة؟
البشتيلي هذا نادرا ما يذكره أحد، بالرغم من دوره العظيم في تاريخ مصر، لم يُدرّس في كتب التاريخ المدرسية، رغم أن ما قام به أهم وأعظم قدرا مما قام به الكثير من الذين تمتلئ كتب التاريخ بسيرهم وأعمالهم وانجازاتهم. كان البشتيلي يعيش حياة مترفة مع أسرته، لم يكن ينقصه شيء، لكنه قرر أن يقاوم الاحتلال الفرنسي فشرع يخزن البارود حتى بعد أن قُبض عليه نتيجة وشاية بعض الخونة، خرج من الحبس بعد بضعة أشهر، لكنه قرر أن يستمر فيما يعتقد أنه حق لصالح بلده.
ويأتي مشهد النهاية دراماتيكيا بلون المأساة والعار لمن شاركوا فيه حيث وقف عسكر الفرنسيس يحملون أسلحتهم، يصوبونها نحو أهل بولاق، وهم يشرفون على تجريس وقتل الحاج مصطفى البشتيلي بالنبابيت……. بيد أهل بلده.