«توماس راسل» ذلك الإنجليزي «المحتل» الذي قَدِمَ إلى مصر عام «1902» وقضى بها أربعة وأربعين عاما، متجولا في ربوعها كضابط شرطة، ثم كحكمدار للقاهرة، يروي في سيرته التي تم ترجمتها إلى العربية تحت عنوان «توماس راسل .. حكمدار القاهرة .. 1902/1946» عن مصر في النصف الأول من القرن العشرين، تُرى هل يمكن لقارىء سيرته أن يكتشف جديدا عن مصر في ذلك الآوان؟
قَدم «راسل» نفسه للقارىء بمقدمة كتابه مشيرا إلى أنه سعيد لكونه غير مهتم بالسياسة!، وأنه كان دوما يقوم بواجبه على أعلى كفاءة ممكنة، فيما تحت تصرفه، حريصا على أن يبقى خلف المشهد، فقط يساعد في بناء ماكينة الإدارة اللازمة لحكم بلد يضم 17 مليون نسمة، وفي موضع آخر من الكتاب يشير إلى أن ما يخص الكفاح المصري من أجل الحكم الدستوري والاستقلال فإن القارىء يمكن أن يتعرف إليه من خلال كتب اللورد كرومر أو اللورد ملنر أو غيرهما.
أي ما كان موقفنا من «راسل» كممثل للمحتل الإنجليزي، وهل كان حقا غير مهتم بالسياسة وقد شغل منصب حكمدار القاهرة لسنوات عدة؟، فإن قارىء هذا الكتاب سوف يكتشف أنه أمام رحلة شيقة داخل صحراء وقرى ومدن مصر، بعيون ذلك الإنجليزي الذي عشق الترحال والصيد، تعرفنا في الحلقة السابقة من خلاله على عالم الريف المصري والقبائل البدوية واليوم يصحبنا «راسل» في جولة جديدة داخل عالم «الغجر» و«حواة الأفاعي» الذي يقودنا لعالم الصوفية ذلك العالم الغريب الذي ربما لا ندري عنه شيئا.
الغجر تجنبوا الاندماج وملأوا الريف بهجة وجريمة في نفس الوقت
عشق «راسل» بدو الصحراء واستفاض في الحكي عن القبائل البدوية من أصول عربية، وحرص دوما على وصفها بأنها ذات أصول عريقة، وميز بينهم وبين ما أطلق عليهم «الغوازي» أو «الغجر» الرُحَل، الذي وصل عشقه لهم حد أنه قد حرص على دراسة أحوالهم وقراءة الدراسات التي أجريت عنهم، ومنها تلك الدراسة التي أجراها «السير ريتشارد بورتون» والتي تحمل عنوان: «اليهود والغجر والمسلمين» كان بورتون تابعا لجيش بومباي وصار فيما بعد القنصل البريطاني في دمشق، وخلال رحلاته المختلفة في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا، داوم على جمع العديد من الملاحظات حول كل ما يتعلق بحياة «الغجر» مستهدفا أن يدمج مجمل ملاحظاته تلك في كتاب، إلا أنه لم يتمكن من إجراء ذلك، حتى جاء «ويلكنز» وقام بنشر كتاب يضم تلك الملاحظات عام «1898م».
استقى بورتون بعضا من أعمال المستشرقين من أمثال «فون كريمر» الذي نشر عام «1860م» دراسة عن القبائل «الغجرية» في مصر، قَدم خلالها المعاني المختلفة لمئات من الكلمات المستخدمة بلهجة كل عشيرة، وكان «كريمر» قد جمع في دراسته تلك كلمات من «غجر النوار» في سوريا، مكنته من التواصل مع «غجر الغوازي» في مصر. وبشكل عام كان بورتون على قناعة من أن جميع الغجر على مستوى العالم لهم ذات الأصل الذي يعود إلى الهند، وأن ذلك الإختلاف في اللهجات إنما يعود إلى رحلاتهم وهجراتهم الطويلة عبر البلدان المختلفة.
يصف راسل «غجر» مصر بأنهم «بشر غرباء» يسمون أنفسهم «الحلبيين» نسبة إلى مدينة «حلب» السورية، بإعتبارها موطنهم الأصلي، غير أن كثير من مفردات لغتهم المستعملة كانت ترجع لأصول هندوسية وفارسية، إلى جانب بعض الكلمات العربية المحرفة والمعدلة بطريقة تجعلها غير مألوفة للمستمع العادي.
يلفت «راسل» النظر إلى أن لغة «الغجر» لم تكن مفهومة لدي عموم المصريين، ويضرب المثل بواقعة كان شاهدا عليها، حين حضر إلى قسم الشرطة، رجلين من هؤلاء «الغجر» كمتهمين بجريمة سرقة، ولم يتمكن ضابط الشرطة المصري من فهم أي مفردة من مفرداتهم.
رغم عدم تمكن عموم المصريين من فهم لغة «الغجر» إلا انهم كانوا يمارسون العديد من الأعمال التي يحتاج إليها أهالي القرى والمدن القريبة من محل ترحالهم، حيث كان يعمل بعضهم في مجال السمكرة ونسج السلال وبيع الحلي «المزيف» رخيص الأثمان للنساء وكبيطريين، إلى جانب بعض الممارسات الأخرى مثل ضرب الودع واللعب بالورق، والسرقة كمهارة أساسية يتسم بها الكثير منهم سواء كان ذلك داخل مصر أم في قلب أوروبا، وفي صعيد مصر عمل بعض «الغجر» في مجال تهريب الآثار إلى جانب ترويج العملات المزيفة.
يروي «راسل» عن «الغوازي» بالقاهرة مشيرا إلى أنهم قد عاشوا لفترة طويلة داخل حى خاص بهم بجوار القلعة، وخرج من بينهم أفضل الراقصات المصريات، وتزوج بعضهن من عائلات مصرية، حتى أن إحدى تلك «الغوازي» قد تزوجت من أحد عمد مركز أجا، ما جعلها إحدى أهم نساء المدينة، حيث حكمت البلدة بيد من حديد وأثبتت قدرة حادة على القيادة أشد من قدرة زوجها.
أما أطرف الروايات التي رواها راسل عن «الغجر» فتمثلت في تلك المشادة الحادة التي وقعت داخل جمع منهم، ونجم عن تلك المشادة أن انقسم حشدهم إلى فريقين، يرأس كل فريق منهم زعيم، وبدلا عن الصراع فيما بينهم بالعنف كما هو معتاد، لجأ الفريقان إلى تحدي بعضهما البعض عبر منافسة كل فريق للآخر عن طريق لعبة اسمها «الخداع والخداع المضاد».
بدأت اللعبة بأن قال أحدهم «أربعة جمال» فسارع رئيس كل فريق بذبح أربعة جمال، وتم التحول بنفس الطريقة إلى الشياه والخرفان، وقد تابع الفلاحين في القرية المجاورة عمليات الذبح وبادروا بالحصول على لحوم تلك الذبائح التي لم يكن بمقدور أغلبهم الحصول عليها، وواصل الفريقان عمليات الذبح حتى نفذت كامل حيواناتهم، فتحولوا لإلقاء الأموال على ضفاف الترعة، فسادت حالة شديدة من الفوضى ما دفع رجال الشرطة إلى التدخل لفض تلك الفوضى وعقد المصالحة بين الفريقين، وبعد أن تم الإتفاق على الصلح، عاود الفريقان مواصلة عملية إلقاء الأموال على ضفاف الترعة مرة أخرى، فلجاءت الشرطة لإستخدام العنف هذه المرة والقبض على بعضهم، وفي اليوم التالي حضر أحد الأشخاص وهو يرتدي ثياب رث، ووضع أمام مسئول المديرية حقيبة تحوي أربعمائة قطعة ذهبية، وهو مبلغ ضخم للغاية، كثمن لإجراء الصلح بين الفريقين، وتم الصلح بالفعل وتحرك «الغجر» بسلام من البلدة، وتنقلوا من قرية لأخرى، غير أنهم قاموا «بلا شك» بتعويض ما خسروه بتلك الواقعة من عموم أهالي القرى التي مروا عليها فيما بعد.
الطريقة الرفاعية دفعت حواة الأفاعي والصوفية إلى قلب النسيج الشعبي
يروي «راسل» عن عالم «حواة الأفاعي» مشيرا إلى أنه خلال فترات عمله الطويلة بصعيد مصر قابل العديد من هؤلاء الحواة إما خلال عرض ألعابهم بهدف تسلية السائحين بالأقصر، أو خلال تنظيف المنازل من الثعابين، وحين قدم إلى القاهرة تعرف على «الحاج أحمد» أحد أشهر مروضي الأفاعي، وحرص على مرافقته على مدى سنوات عدة حتى وفاته، بهدف تعلم أسرار وفنون «الحواة».
كان صيد الأفاعي يُمارس في القاهرة بنفس الكيفية التي يتم بها بمختلف ربوع مصر، وقد ألف «بين» وهو أحد مساعدي «راسل» وكان يكتب لجريدة «إيجبشيان جازيت» بتوقيع «فلوكر»، كتابا تحت عنوان: «الأفاعي المصرية وحواتها» رصد فيه خبرته حول عالم الحواة في مصر.
يلفت «راسل» النظر إلى أن فهم شخصية الحواة يعد أمرا غاية في الصعوبة، فهم متخصصون في حرفة لها جانب شبه ديني، حيث يدعون أنهم لديهم عهدا بعدم منح أي علم يخص حرفتهم إلا لمن ينتمي إليهم، وعلى عكس ما قد يدعيه بعض الحواة من أن لديهم القدرة على «إستجلاب الأفعى» أي دعوتها للحضور ومن ثم تستجيب الأفعى لتلك الدعوة، يؤكد «الحاج أحمد» الذي رافقه «راسل» لسنوات عدة على أن الحاوي الجيد يمتلك القدرة على تحديد مكان الأفعى عبر الإعتماد على حاسة الشم، حيث تطلق الأفعى بعض الروائح عند سماعها صفارات الحاوي، وتأخذ في الحركة فتبرز عينيها، فيدركها الحاوي اليقظ بفضل ما قد تلقاه من تدريب مركز. وبعد رحلة طويلة في عالم الحواة مات «الحاج أحمد» مثله مثل أغلب الحواة نتيجة عضة من ثعبان «الكوبرا».
قاد عالم الحواة «راسل» إلى عالم الطريقة الرفاعية، وهى طريقة صوفية لديها عدد من القواعد الخاصة والتراتيل والأذكار المقصورة على أتباعها، ولديها ما يعرف «بالحرز» وهو بمثابة عهد يردده المنتمي حين يلتحق بالطريقة، ويستعين به خلال عملية «إستجلاب الأفعى» وقد أشار «فلوكر» في كتابه «الأفاعي المصرية وحواتها» إلى أجزاء من نص ذلك الحرز: «سأظهر لك إذا تشققت الأرض، وسقطت عليك .. إذا كنت غريبا ثقفت بك، لكن لو كنت صاحب المكان فلا تؤذني، بحق الله وأسمائه، وبحق موسى، كليم الله، أستحلفك أن تخرج من الباب، وأنت آمن بحق سيدنا سليمان، حاكم الإنس والجان، وحاكم الحيات المخيفة، والأبراص السريعة.. أهبط بسلام وأخرج فأنت آمن».
https://youtu.be/0zF8n_XIavM?t=74
من عالم الصوفية والموالد، بالطبع لم يغفل «راسل» أن يرصد بعين ثاقبة أحد مشاهد سفر «كسوة الكعبة» والتي كانت تقدمها مصر لسنوات عدة، هدية للملكة العربية السعودية.
وللحديث بقية،