حفلت الكثير من الروايات العربية الكلاسيكية بسرديات لافتة عن الطعام ودلالاته الثقافية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية ويرى الناقد محمد محمود حسين أن الروائيين المصريين قد تفننوا في تقديم أنواع مختلفة من الأطعمة، رغبة منهم في منح القارئ شعورا وإيهاما بالواقع المقدم له سرديا، لكنه في الوقت نفسه ليس هو الواقع، وهنا تكمن متعة الرواية. هذا وقد اختلفت صور تقديم هذه الأطعمة في الروايات.
الناقد محمد محمود حسين
شكل الطعام ملمحا بارزا في البنية النصية للرواية المصرية، وهو ما يمكن أن نلاحظه بوضوح بمجرد قراءة الصفحات الأولى لرواية «زقاق المدق» لفنان الرواية العربية «نجيب محفوظ» خاصة ما يتعلق بعم كامل، الشخصية المثيرة التي لها بطن كالبرميل، وتجلس على كرسي، يغط في نومه والمذبة في حجره، والذباب يرقص على صينية البسبوسة بلا رقيب، لكن رغم كونها قد تضر بصحة من يتناولها، إلا أنها كانت طعاما شهيا لسكان الزقاق خاصة «حميدة».
ويلاحظ حسين تعدد التأويلات القرائية المرتبطة بهذا الحضور والمغزي الكامن الذي أراد «نجيب محفوظ» تقديمه الي قارئه اقتصاديا، واجتماعيا، ونفسيا؛ لنكتشف أن الطعام ليس مقدما بهدف إمتاع القارئ أو إيهامه بصدق الواقع فقط، ومن ثم التأثير والإقناع، بالتجربة المقدمة، إنما يحمل أبعادا فلسفية إنسانية مختلفة. هذه الأبعاد هي التي جعلت الروائيين ينوعون في أطعمتهم بحسب طبيعة الشخصيات التي يتعاملون معها إلى الحد الذي جعل أحد النقاد يرى أنه أصبح بالإمكان استخراج وصفات كاملة الأطباق ووجبات متنوعة من الروايات، بحيث يمكن القول دون تردد أن الرواية تحمل مطبخا غنيا، وهو ما يمكن الوقوف عنده أيضا في أعمال «عبده جبير» أحد كتاب جيل السبعينيات، خاصة روايات: «عطلة رضوان»، و«فارس على حصان من الخشب»، و«سبيل الشخص»، حيث احتل الطعام في هذه الروايات مكانة كبيرة على المستويين: الموضوعي والشكلي، بما يؤكد أن الكاتب استعان بالطعام كي يمنح شخصياته الحيوية والنشاط، وكأنها مستقاة من الواقع الحقيقي، أي شخصيات حية، وهو ما يعني أنه لم يوظف الطعام بطريقة عفوية غير مقصودة، وإنما جاء به ليحدد طبيعة هذه الشخصيات المقدمة، وأذواقها في الطعام الذي لا يختلف كثيرًا عن تلك الأشياء التي توجد في مطبخ الإنسان العادي البسيط، الذي يمثل الشغل الشاغل للروائيين.
ويضيف محمد محمود حسين: هذا الأمر يمنح الرواية بعدا اجتماعيا لا يمكن إنكاره على مستوى القراءة، فمثلا في «سبيل الشخص» يصف جبير الزوجة أثناء إعدادها للطعام، فيقول: «وذبحت ديك الفروج الذي كان تحت السرير في قفصه، وأعدت المرق بالحبهان، وشوت لحم الديك، وغسلت الجرجير الورور، وجاءت بما يثلج القلب من عرق سوس وخلافه».
والأمر نفسه تجده في «عطلة رضوان»، حيث يصف رضوان، العاطل عن العمل، فيقول: «وغرف من برطمان السمن ملعقة كبيرة، وغطى البرطمان، وكسر بيضتين في طبق، ورش عليهما الملح والفلفل، وصب عليهما السمن الحار… طش.. وأكل». هذه المقاطع فضلا عن إيقاعها السردي السريع المتتابع، المستوحى من حركة الشخصيات الجسدية، وطريقتها أثناء الطبخ، إلا أن هذه المقاطع تؤكد أيضا أن الكاتب لم يفرض الطعام علي الشخصية، وإنما جعلها تأكل ما تعد بعناية. إلي غير ذلك من الأمثلة الروائية المصرية المعاصرة.
وفي نفس السياق يشير الكاتب الصحفي والناقد حسين دعسه إلى أن إدراج الطعام بالطبع ليس وليد راهن مانعيشه الآن فهو ثقافة اصيلة عند الروائي العربي، يحاول التمتع بها عبر نصوصه.. وأحيانا يعبر عن الواقع الفقير أو المسرد، وتحدي إيجاد وتوفير لقمة الأكل، يبرز هذا السياق في رواية الكاتب الأردني ابراهيم نصرالله «طيور الحذر» وفيها ينقلنا إلى صورة مهاجرة تحتاج الأكل والحليب لرضيعها: «.. لكن حليبها اختفى، كما لو أنها بلا ثديين، انتفخ بطنها ولم تعد قادرة على تناول الطعام».
الكاتب الصحفي والناقد حسين دعسه
وفي رواية روزيتا للروائية المصرية عزة دياب، نجد أن بواكير الخبز، تشكل عالمها الخاص في رواية تنحاز إلى الناس البسطاء: «بواكير الخبيز أرغفة طرية، تغطيها بالخضرة وتنادي زوجة ابنها لتعد الفطور» «بينما» «في الجانب الآخر من البيت، السطح تفوح منه رائحة اللحم المشوي على الفحم، وطواجن الخضار، وقد رصت الكراسي للرجال».
لا يقتصر حضور الطعام بهذه الكيفية على الرواية المصرية، ولكن يمكن تعميمه على الأدب العربي عموما، ويرى حسين دعسة أنه «لفهم طبيعة العلاقة بين السرد العربي عموما وبين تطور صورة الطعام داخل مئات الأعمال الروائية، فالواضح ان لقمة الطعام في بيئة الشرق صعبة نتيجة الفقر والحروب، والبطالة والفساد».. ونجد مثل هذا في وصف الروائي لماهية وطبيعة المطبخ، السرديات العربية، وتحديدا الرواية، احتفت على إدراج الطعام والشراب، ضمن رؤية الروائي لواقع وخطوط خرائط الرواية، كالتركيز على مسألة إعداد وعجن وخبز الخبز.
وثمة نموذج جديد للكاتبة العمانية جوخة الحارثي ترصد في رواية سيدات القمر وضع المطابخ في بيوت عائلتها: «كان ضيوف من شتى الأعمار يعمرونه بإستمرار ولذا كان منظر حزمة الأخشاب في جانب الحوش ومراجل الطبخ السوداء الضخمة مألوفا للغاية» ثم تضيف في مكان آخر: «كل شئ جميل، والمراجل ورائحة خبز الرقاق تتصاعد من داخل المطبخ في زاوية الحوش»
غالبا للطعام مميزاته وأحداثه في الرواية العربية وهي علاقة متداخلة ومتأثرة بالأدب الإنساني عموما، ونشأت في حيز مكاني وزماني عاش على ثقافة الرعي والصيد، ومن ثم فإن المؤثرات الإجتماعية والاقتصادية، ونمطية الحكواتي والسرد العليم، تضخ في الروايات أصناف الطعام والبهارات الشرقية والاعشاب الغذائية والمكسرات واصناف الحلويات والمخبوزات، والتمر، وصيد البر والبحر…
كل هذا نجده في بنى روائية غنية بالأحداث وموائد وأشكال أدوات الطعام من ملاعق ذهبية وفضية وآنية من الكريستال والبورسلين، إلى أدوات فقيرة او غير متوفرة، فعند الروائي السوري سليم بركات، يقدم لنا شخصية انسانية تبحث عن أي أكل أو شئ يؤكل وأي ماعون أو طنجرة للطبخ، ففي روايته الصادرة عن دار النهار ببيروت، بعنوان: «أنقاض الأزل الثاني» يبحث الغريب: «أريد ابتياع زاد، وقلة أو وعاء معدن، قال الغريب… تمتمة على أصابع يدها، برغل، بيض، قمح، سكر، ليس لدينا سكر، خبز مجفف، عسل في شمعه..» وبذلك نجد أن مفهوم وحاجة الشخصية للطعام والشراب، فى معظم الروايات العربية، يأتي في سياق طبيعي، غير محتال، أو بعيد عن سياقاته..
.. ويلفت حسين دعسة إلى أن الطعام في الرواية العربية، مرهون ومرتبط بعمل المرأة، وبكد وتعب الرجال، ففي رواية الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، «بذور النار» ترصد لنا المرأة: «رأى بعضهن يسجرن النار في تنانير الخبز أو يوقدنها تحت المواد، رأى النيران تلتهب في كل الجهات» إلى أن تقول: «تلفح وجهها روائح مطاعم بغدادي صغيرة، أنفاس شاي ثقيل وروائح بيض مقلي وسمك وزيتون مخلل يختلط بدخان الأراجيل والشواء»
الكاتبة العراقية لطفية الدليمي
عموما تتكئ الرواية والسرد العربي على موضوعات الحاجة للأكل كالجوع، أو العوز، أو الجفاف والفقر، العمل الروائي العربي، ليس بعيداً عن المتغيرات: الاجتماعية والسياسية الدارجة على دول المنطقة .
ليس ترفاً سردياً
وتؤكد د. رشا غانم أستاذ النقد الأدبي بالجامعة الأمريكية ان استحضار الطعام داخل الروايات يأتي مكملا لبنية الرواية، حتى يكشف عن أبعاد أخرى داخل السّياق الروائي فلم يأت كترف سردي أو زخرف فني. هناك العديد من الوظائف للطعام خلالها من القص المشوق ونستشهد هنا بقصة «التفاحات الثلاث» «الليلة التاسعة عشرة» لا يكتفي الطعام بدور المساعد في السرد، بل يستأثر بدور البطولة. القصة المشهورة تتعلق بأمر صادر من الخليفة هارون الرشيد إلى وزيره جعفر لحل لغز مقتل صبية، وجداها في صندوق استخرجته شبكة صياد.
د. رشا غانم
وهناك روايات نالت شهرة كبيرة في اعتمادها على هذه التيمة منها رواية هياج الأوز التي صدرت عام 2010م للكاتب السوري سليم بركات تبدو «هياج الأوز» فريدة في اعتمادها الطبخ مكونًا سرديًا رئيسيًا. تحكي الرواية عن مجموعة من الكرديات المهاجرات إلى السويد، يجتمعن كل سبت في بيت إحداهن بالتناوب، يضعن كل أشواقهن للحياة والحب في الطبخ وتناول الطعام والشراب.
وتشير رشا غانم إلى رواية الكاتب المصري عمر طاهر «كُحل وحَبَّهان» التي صدرت عام 2018 هي رواية عن المطبخ المصريّ. من خلال شخصية عبد الله الذي لا ينفكّ يصرّح عن حبّه الكبير للطعام. ولكنّ هذا الحب يتجاوز معناه المعروف والتقليدي ويذهب أبعد من ذلك. حيث يحوّل عبد الله، مدفوعًا بفضوله، هذا الحب إلى اهتمامٍ خالصٍ بتفاصيل وفلسفة المطبخ والطعام المصريّ. عبد الله أو «ساسكو» كما يُعرف داخل العمل، يقدّم للقارئ ما يمكن أن نسميه سيرة ذاتية عن الطعام، ومتعة صناعته حيث يبدأ بتقديم نصائح لطهو المأكولات التي يأتي على ذكرها. «الإخلاص في طهي البامية يقوم على حسن اختيار الثمار، وجودة تقليمها بإزالة الرأس والذيل والحروف الغامقة فتصبح زاهية براقة، مع أهمية فرم الثوم والبصل إلى أقصى درجة نعومة ممكنة، حتى تتشرب الحبات الخضراء الصلصة فتحافظ على عصارتها بدون لزوجة، نصف معلقة سكر أثناء طهي التسبيكة تجلب السحر، وقرن فلفل حامي ومعلقة كمون ونصف ليمونة قبل تمام النضج تحول الأمر كله إلى فتنة لن ينجو منها أحد».
وفي رواية «المهزومون» 1988م للكاتب السوري هاني الراهب، من تطبخ هي المرأة العاشقة فالحب هو النفس الطيب لطعامها الشهي حيث دأبت «ثريا» على إهداء العصعص لجارها «بِشر»، و العصعص هو آخر العمود الفقري في الذبيحة «العكاوي في التسمية المصرية» بطلة الرواية ثريا تغزو المغامرة بعد المغامرة، كي تضع حبها في طبخة ولم يحملها على الطبخ لحبيبها سوى الحب.
الشكل العائلي الأكثر حضورا يتجلى في رواية «البحريات» للكاتبة السعودية أميمة الخميس. وربما لأن روايتها تقوم على أزمات عائلية فشخصيات أميمة الخميس تعيش في داخل المنزل. لذا يتعرف القارئ على أفراد ذلك المنزل. فيشم روائح المطبخ ويتعرف على مائدة الأكل ويتعرف أيضا على أماكن جلوس أفراد تلك ويستمع للحوارات القائمة بينهم.
رواية فئران بلا جحور للروائي الليبي «أحمد إبراهيم الفقيه» يعود فيها الفقيه بذاكرته مستعيداً ما ترسب فيها على مرّ السنين محاولاً سرد الحياة كما عاش بعض مواقفها، وبين ما خفي في ضميره ومخيلته ككاتب؛ ليغوص بنصه الذي يتخذ جغرافية ليبية صرفا لتكون مسرحاً لأحداثه، بين شخصيات حقيقية واقعية وأخرى من سياق المتخيل.
يأخذنا «الفقيه» في هذا النص إلى تخوم الصحراء، جنوب مدينة طرابلس، لنتتبع رحلة القافلة المكونة من عدة عائلات بقيادة الشيخ حامد أبوليلة متجهين من مزدة إلى حقول الشعير في منطقة جندوبة حيث يتفاجأ أهل البادية بأن حقول الشعير، التي تمثل لهم النجاة من المجاعة والتي قطعوا من أجلها مسافات طويلة، كانت خالية من السنابل.
«إنها حقول عقيمة، أنبتت زرعًا بلا سنابل.»؛ ليبدأ اليأس والخوف من الهلاك، بسبب الجوع، في التفشي في نفوسهم إن لم يجدوا ما يأكلونه في هذه المنطقة، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على العودة إلى مزدة بسبب نفاذ كل ما كان في حوزتهم من مؤونة غذائية. وبعد مرور أيام قليلة، يكتشف أهل القافلة، بمحض الصدفة، أن فئران البادية هي من قامت بإفراغ السنابل من الزرع ودسها في جحورها المحفورة تحت الأرض؛ ليعمل الجميع، بكل قوتهم، في حفر كل جحور الفئران وإفراغها من السنابل المخزنة فيها.
وتختم رشا غانم بمقولة مارك توين «جزء من سر النجاح في الحياة أن تأكل ما تحب، وتترك الطعام يتصارع في الداخل» فطالما صراع الطعام بداخل مبدعينا ينتج إبداعات سردية فأهلا به.
مارك توين