فن

سناء جميل.. سَيِّدَةُ الٌأقْدَارِ العَاصِفَة

في مثل هذا اليوم قبل تسعين عاما، ولدت الفنانة القديرة الراحلة سناء جميل، التي مثل إصرارها على اختيار طريق الفن الراقي الملتزم رغم كل التحديات نموذجا باقيا في نفوس المصريين والعرب.
 تصنع المعاناة الفنان.. تزيد موهبته توهجا.. تصهر روحه بنيران الألم؛ فيمتزج لديه الإبداع بالشقاء، وصدق الأداء بقسوة التجربة، وقوة التأثير بعمق الجراح.. فتختفي تلك الحدود الفاصلة بين الحقيقة والتشخيص، ويصل الإيهام ذروته،فتتجلى روعة الفن الخالص كأيقونة بالغة الدقة والتفرد في تباينات جمالية ساحرة بتوقيع واحد يستحيل تقليده هو «سناء جميل».

https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/519160438941495/?t=7

تقتطع الفتاة الهادئة ابنة التاسعة من دفء الحياة الأسرية لتُوْدَعَ إحدى المدارس الفرنسية الداخلية بالقاهرة.. ويختفي الوالدان إلى الأبد.. وتكابد الصغيرة آلام الوحدة والخوف وقسوة المعاملة؛ لكنها تتحمل كل ذلك بصلابة، ويمنحها فن التمثيل الذي فتنت به منذ نعومة أظفارها السلوى إذ ظلت لسنوات رئيسة فريق التمثيل بالمدرسة تنتقي لنفسها أقوى الأدوار فيما يقدم على مسرح المدرسة من أعمال؛ حتى أنهت دراستها الثانوية؛ لتغادر المدرسة إلى منزل إحدى قريباتها بحي «غمره».

تلقي الأقدار في طريقها شابا وسيما محبا للتمثيل يسكن بالجوار.. تتوطد الصداقة فيما بينهما، فيقنعها بالذهاب معه إلى اختبارات المعهد العالي  للفنون المسرحية.. تلك الاختبارات التي تتطلب قدرا من الفصاحة ومعرفة قوية باللغة العربية وعلومها.. لكن الفتاة التي غادرت «المير دي دييه» منذ أيام لا تعرف من العربية شيئا، ما اضطر الفتى إلى أن يكتب لها الأبيات التي ستلقيها من مسرحية «مصرع كليوباترا» لأمير الشعراء- على مسامع اللجنة بحروف لاتيننية، أجهدت الفتاة نفسها حتى تلقيها على نحوٍ مقبول..

 لا ندري على وجه الدقة هل أجادت «ثريا» أمام اللجنة أم لا، ونميل إلى القول بأن أداءها كان متوسطا في أحسن الظروف، إلا أن عين الخبير «زكي طليمات»، لم تكن لتخطئ في الكشف عن جوهرة فنية نادرة كـ «ثريا يوسف عطا الله» وهذا هو اسمها الحقيقي كاملا.

سناء جميل وزكي طليمات

الهروب إلى الفن

ويصقل «زكي طليمات» لؤلؤته بدروس اللغة العربية المكثفة، إذ خصص لها أفضل أساتذتها بالمعهد، وتنهمك «ثريا» في الدراسة بشغف، دون أن يعلم أحد من أهلها أنها تدرس بالمعهد. لكن الأقدار تأبى إلا أن يعلم أخوها بالأمر؛ فيصفعها صفعة هائلة تفقدها حاسة السمع بأذنها اليمنى.. ثم يخيرها بين الإقامة في البيت، وترك المعهد ونسيان الأمر كليةً ونهائيا.

لم تتردد الفتاة في ترك المنزل في تلك الليلة الحالكة التي كانت القاهرة تحترق فيها بفعل الأيدي الآثمة، لا شيء عندها يمكن مقارنته بالفن إنها راهبة في محرابه؛ خلقت له.. تفارقها الروح إن فارقته. في تلك الظُلمة الخانقة، وذلك الشعور القاسي بالخوف والضياع ترسمت «ثريا» طريقها نحو غايتها الكُبرى؛ مضحية في سبيلها بكل شيء.. بعد ساعات مرت كأنها الدهر، هداها تفكيرها للذهاب إلى بيت أستاذها بالمعهد «سعيد أبوبكر» الذي استقبلها وزوجته بحفاوة لتقضي في بيتهما الليلة، وتستمر إقامتها في بيت «سعيد» لثلاثة أشهر، ويعرض «أبو بكر» الأمر على «طليمات» فيقترح أن تنتقل «ثريا» للإقامة بدار الضيافة بجمعية الشابات المسيحية (بيت طالبات)، بعد أخذ الاذن لها بالعودة المتأخرة ،إذ كانت قد بدأت العمل بالتمثيل في الفرقة التي أسسها من طلاب المعهد، وهي فرقة المسرح الحديث.. كان راتبها من هذا العمل ستة جنيهات شهريا يضاف إليها مبلغ مماثل تتقاضاه من المعهد. وقد اضطرت بعد فترة قصيرة لاستئجار شقة بشارع أرض شريف باشا بحي عابدين- بثلثي دخلها، ما جعلها تقضي معظم الأيام لا تأكل سوى الخبز والقليل من الجبن،وتفترش ملابسها، إذ لم يكن لديها ما تنام عليه، حتى أصيبت بانزلاق غضروفي.. لكن ذلك لم يفت في عضدها،فتعلمت تفصيل الملابس وعمل المفارش وتطريزها لمواجهة أعباء المعيشة.

الفنان سعيد أبوبكر

كانت السيدة «لُولا» حرم «إحسان عبد القدوس» تحرص على أن تُري ضيفاتها مفرشا رائعا قائلة لهن: هذا المفرش صنعته «سناء جميل» بنفسها لتهديني إياه.. لكن «سناء» اعترفت بعد ذلك بأنها باعته إياها لتعيش بثمنه.

«سناء جميل» هو الاسم الذي أطلقه عليها «طليمات» بعد تحذير عائلتها لها من استخدام اسمها الحقيقي في مجال الفن، بعد أن تبرؤوا منها وقاطعوها قطيعة تامة.. وخلال تلك الفترة إلى جانب عملها بالمسرح قدمت فنانتنا في السينما عددا من  الأدوار الصغيرة في أفلام مثل: «أنا بنت مين» 1950، و«طيش الشباب»1951، «آدم وحواء» و«الإيمان» و«سلوا قلبي» و«شم النسيم» و«بشرة خير» و«حرام عليك» عام1952، وفي العام 1953 شاركت في ستة أفلام هي: «بلال مؤذن الرسول» و«شريك حياتي» و«أنا وحبيبي» و« في شرع مين» و«عبيد المال» و«نافذ على الجنة» وفي العام التالي مثلت في أفلام «كدت أهدم بيتي» و«مرت الأيام» و«كدبة إبريل» و« يا ظالمني» وخلال خمس سنوات تالية ورغم تطور أدائها وامتلاكها أسباب التألق والنجومية لم تجد «جميل» سوى أدوار لا تتسع لموهبتها، ومع ذلك لم تحجم عن المشاركة في الأعمال السينمائية فقدمت «الميعاد» و«أهل الهوى» و«إسماعيل يس في متحف الشمع» و«شياطين الجو» و «المجد» و «لن أبكي أبدا» و «مع الأيام» و «قلب من ذهب».

https://youtu.be/dRcsjJbXa1c?t=117

نفيسة  في «بداية ونهاية»

وأخيرا تبتسم الأقدار لها عندما يختار المخرج «صلاح أبو سيف» قصة «بداية ونهاية» لـ «نجيب محفوظ» لتقديمها في فيلم سينمائي.. يقع اختيار «أبو سيف» على «فاتن حمامه» لتقديم دور الفتاة «نفيسة» الشخصية النسائية الرئيسة في الرواية، لكنَّ «فاتن» تعتذر لأسباب تخصها، فيتجه سهم الاختيار لـ «سناء» التي تمسكت بالفرصة جيدا، وأدت الدور ببراعة أذهلت الجمهور والنقاد..لقد حولت «نفيسة» إلى أيقونة للشقاء والبؤس الذي يفرضه الفقر على أبنائه.. مثلت بأدائها الصادق صرخة عالية في وجه مجتمع قاس لا يرحم ويترك طبقته الدنيا تحت وطأة ظروف لا إنسانية تضطرهم لبيع أغلى ما يملك الإنسان؛ فَيُقْضَى على آخر أمل لديهم في الحياة الكريمة.. يستحق كل مشهد لـ «سناء» في هذا العمل أن تفرد له صفحات، إذ يعتبر نموذجا للصدق المطلق في الأداء النابع من موهبة فطرية جبارة وتجربة إنسانية بالغة القسوة.

ومع «يوسف شاهين» الذي كانت قد مثلت معه دورا صغيرا في فيلم «سيدة القطار» تقدم «سناء» دورا من أروع أدوارها في «فجر يوم جديد» 1964، إنها «نايلة» المرأة الأرستقراطية التي ناهزت الأربعين؛ فيجتاحها شعور بأن عمرها سُرق في هذه الحياة التافهة عديمة القيمة إلى جوار زوج لاه عابث اشتراها بماله، وهي بعد دون العشرين، فتلجأ في سبيل استعادة حياتها الضائعة إلى التعرف على شاب من الطبقة العاملة، يحاول أن يريها الحياة من الجانب الآخر، فتكتشف حنينها الجارف نحو الماضي؛ لكنها في الوقت نفسه تشعر بصعوبة التواصل مع الشاب الذي يمثل الحياة الجديدة والمجتمع الجديد، فتؤثر الابتعاد..تميز أداء «سناء» للدور بدقة التعبير عن المشاعر المتناقضة بإحساس شديد الصدق، من خلال النظرات الشاردة المتحيرة، كذلك بالتماع العينين في لحظات السعادة وانطفائها في لحظات الحسرة والندم.

https://youtu.be/-nsJVo79jnw?t=7387

حفيظة

ومع «صلاح أبو سيف» تقدم ثاني أروع أدوارها في السينما.. «حفيظة» زوجة العمدة في «الزوجة الثانية» 1967، ولا يمكن أن يتصور أحد أن من قدمت «نايلة» في «فجر يوم جديد» تستطيع أن تلعب دور فلاحة مصرية على هذا النحو من الروعة والإتقان.

ومن إخراج «أنطوان ريمي» تقدم دور «أم محمود» في فيلم «فداك يا فلسطين» عن قصة «مروان العبد» عام 1972، فتبدع في الأداء مجسدة معاناة الأم الفلسطينية التي تضحي بأبنائها من أجل تحرير وطنها.. وفي نفس العام تؤدي دورا من أروع أدوارها «نرجس» المرأة الثرية التي تقع فريسة أحد المحتالين، فتنقلب حياتها رأسا على عقب بعد وفاة زوجها في فيلم «الشيطان والخريف» من إخراج أنور السناوي.. وتتوالى الروائع السينمائية التي قدمت فيها «سناء جميل» أصعب الأدوار وأكثرها تعقيدا بأداء بالغ البساطة والعمق في آن. شديد الصدق عفوي على نحو مذهل.. إذ ينبع أداؤها من الإحساس المرهف في المقام الأول قبل أن تتعامل بعقلها مع العمل؛ فيكون الأداء مبهرا في تلقائيته، حسب تحليل الفنان القدير «جميل راتب» الذي شاركها بطولة مسرحية «رقصة الموت» لـ «سترندبرج» التي قدماها في عدد من مسارح باريس والمدن الفرنسية الأخرى باللغة الفرنسية، وهي المسرحية التي وضعت «سناء»في مصاف أهم نجوم المسرح في العالم بشهادة النقاد والجمهور الفرنسي..

وكانت «سناء» قد قدمت عدة أعمال مسرحية رائعة على خشبة المسرح القومي نذكر منها: «مريض بالوهم» و«جواز الحلاق» و«جيفارا» و«زهرة الصبار» و«شمس النهار» ورائعة نعمان عاشور «الناس اللي فوق».

ويذكر أن المخرج أشرف فهمي قد أخرج لـ «سناء» فيلم «المجهول» عام 1984، عن قصة مستوحاة من مسرحية بعنوان «سوء تفاهم» للفيلسوف الفرنسي «ألبير كامي». وفي العام التالي قدمت مع «هاني لاشين» فيلما بالغ الروعة والعذوبة أمام «فريد شوقي» هو «عندما يأتي المساء».

وكانت الفنانة الراحلة قد طلبت من النجم الراحل «أحمد زكي» أن تمثل معه؛ فاستجاب على الفور وقدما معا فيلمين رائعين هما «سواق الهانم» 1994، من إخراج حسن إبراهيم.. وقدمت فيه أداء كوميديا تفوقت فيه على نفسها، وفيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» 1998، من إخراج شريف عرفة.

وفي التليفزيون قدمت «جميل» حوالي ستين عملا بين مسلسل وسهرة، من أهمها «الراية البيضا» عام 1988 من إخراج «محمد فاضل» وتأليف عملاق الدراما «أسامة أنور عكاشة»، وكان دور المعلمة «فضة المعداوي» التي تمثل أبشع صور الجشع الرأسمالي الذي لا تتوقف شراهته عند شيء- نموذجا قدمته الفنانة ببراعة شديدة جعلت شعبيتها تصل لقطاعات كبيرة من الشعب العربي لم تكن قد تعرفت من قبل على فن «سناء» عن قرب.

كان أهم ما يميز فنانتنا العظيمة هو إدراكها للفروق الدقيقة بين الأداء المسرحي، والتمثيل أمام كاميرات السينما، والتليفزيون، وأمام ميكروفون الإذاعة الذي قدمت أمامه أكثر من أربعين عملا إذاعيا.

وفي الثاني والعشرين من ديسمبر 2002، رحلت «ثريا يوسف عطا الله» عن عالمنا بعد رحلة طويلة امتزجت فيها الدموع بالابتسامات والمعاناة بالإبداع، واليأس بالآمال الكبيرة.. لروحها السلام.

 الفيديو جرافيكس

نص: Belal Momen
تحريك ومونتاج: Abdalah Mohamed

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock