رؤى

الخطاب الديني بين التفسير والتأويل

ليس من نافلة القول ولا ترف الحديث أن نحاول اليوم – على ما يشغلنا من قضايا مصيرية– أن نعيد الجد حول هذين المصطلحين؛ في محاولة متجددة لإدراك وتحديد مجال كلٍ منهما؛ بحيث لا يختلط لدينا حابل التفسير، بنابل التأويل.. فما بين التمسك بظاهر النصوص، والتأويل الفاسد لها، جرت أنهار الدماء، وطارت الرءوس، وعمّ الخراب وما احتمل السيل إلا زَبَدًا، وما زادت الشُّقة بين الناس إلا بُعدا، فلا السبيل استبان لهم عندما تمسكوا بظاهر النص وادعوا التفسير، ولا هم عرفوا الجادة، حين زعموا مهرب التأويل، فما حفظوا للأمة عرُاها، ولا هم استوثقوا مما بين أيديهم، فكان الحال على ما نرى من الفرقة والتشرذم، ونبذ الاعتصام.

فلقد رأى كثيرون التفسير بضوابطه الصارمة قيدا على النص، وإطارا حاكما له، وسلطة قاهرة فوقه، وأنه قد احتجز النص احتجازا تاما في زمنه، ومنعه من مواكبة تفاعلات الواقع ومتغيراته، وبتعدد التفسيرات تعددت الأسيجة حول النص تحول بينه وتلبية متطلبات البشر كل وفق زمانه ومكانه، حتى دُعي إلى ترك التفاسير جملة؛ كونها عزلت الخلق عن النص، والأسوأ أنها “كهَّنت” فئة العاملين بها؛ فصاروا “أمّة من دون الناس” لا تفتح المغاليق إلا بهم.

والتأويل لغة هو تفعيل من آل يئول إلى كذا إذا صار إليه، فالتأويل التصيير، وأوَّلته تأويلا إذا صيرته إليه، كذلك العاقبة تسمى تأويلا؛ لأن الأمر يصير إليها، وتسمى حقيقة الشيء المخبر به تأويلا؛ لأن الأمر ينتهي إليه، ومنه قوله تعالى ” هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ …” الأعراف(53).

ويحاول الجرجاني التفريق بين كلا المفهومين (التفسير والتأويل)  وفض الاشتباك الحادث فيما بينهما؛ فيذهب إلى “أن التأويل في الأصل هو الترجيع، وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنّة مثل قوله تعالى”يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ” إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر، أو العالم من الجاهل كان تأويلا”. كما يشترط في التأويل معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس.

الجرجاني
الجرجاني

وقد رأى ابن رشد أن التأكيد على مراعاة اللغة العربية وأصولها أمرٌ من الأهمية بمكان، وأوجب أن يكون التأويل غير مُخلٍ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز في تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي، وكان لا بد للتأويل من التكيف مع الضوابط المفروضة عليه و مسايرة التفاسير بالإضافة إليها في المعاني وعدم التناقض معها.

وليس التفريق بين المصطلحين بالأمر الهين؛ إذ يقول ابن حبيب النيسابورى: “نبغ في زماننا مفسِّرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه”. ويرى الأستاذ أمين الخولي أن منشأ هذا كله، هو استعمال القرآن لكلمة التأويل، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب.. وذهب البعض إلى أن “التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية”، وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.

وإذا كان التفسير في التزامه بحرفية النص قد “ضيّق واسعا” إذ أغفل حقيقة هامة، وهي أن النص ما هو إلا كيان لغوي، وأن التفسير ربما يحيله إلى طائفة من الأفكار تعتمد- في جوانبها- على طبيعة المفسر أو شخصيته العقلية، لكن هذه الإحالة مهما يكن حظها، يحسن أن تسلمنا- بطريقة ما- إلى اللغة (النص) لا أن تكون حاجزا عنه.

 أما التأويل والذي نظن أنه نشأ ابتداء على أساسٍ من تعدد المعاني، وتنوع المفاهيم، فأراد أن يزيح كل جامد قائم؛ ليبني محله بقدر ما تسمح به اللغة، ولا يتناقض ومعطيات العلم ومستجداته، بناء عقلانيا ينفتح على أفق أرحب للرؤية وذي قابلية أوسع للمعقول.

ابن رشد
ابن رشد

ويقطع محمد عابد الجابري باختصاص التأويل عربيا وإسلاميا بالخطاب الديني فيقول “وإذا كان علماء أصول الفقه قد اهتموا أكثر من غيرهم بوضع قوانين لتفسير هذا الخطاب؛ فإن علماء الكلام قد اهتموا إلى جانب ذلك بوضع حدود للتأويل؛ وذلك بربطه بوجوه البيان؛ أي بأنواع العلاقة التي تقوم بين اللفظ والمعنى في الأساليب العربية”. وهو يعني بذلك أن الاختلاف القائم بين المعتزلة وأهل السنة حول التأويل كان له ضابط واحد،  هو ما تسمح به وجوه البيان فقط، ما جعلهما في موقف واحد تقريبا في مقابل تأويلٍ آخرَ؛ أحال النص القرآني إلى مجموعة من الرموز والإشارات تتضمن أفكارا ورؤى صادرة- في معظمها- عن الفلسفات القديمة، كما هو الحال في “التأويل العرفاني الذي مارسه الشيعة والمتصوفة ومختلف التيارات الباطنية في الإسلام” إلا أنه من هذه الناحية لم يكن بريئا تماما، فبحسب قوله أنه كانت هناك “آراء جاهزة يراد صرف المعنى إليها، وجعله ينطق بها، وواضح أن ما يجعل التأويل العرفاني تضمينا بهذا المعنى هو تحرره من قيد القرينة التي يلتزم بها التأويل البياني”.

ولاشك لدينا أن اقتصار التأويل على الخطاب الديني – أمر مستغرب ؛ إذ أن كل نص يحمل في باطنه دواعي تأويله، ومسببات تمحيصه، وهي ذاتها عوامل بقائه وتجدده واستمراره، وإذا وجد نص لا ينطبق عليه ذلك، فهو نص ولد ميتا!

كما أن الإشارة  إلى أن البيان لا يبدو كافيا لانفراد التأويل (المنضبط) بموقفه بعيدا عن خندق (النصوصيين) هو أمر يشي بلزوم الشطط، والشطح الصوفية لكل تأويل معتبر، وهذا مما هو غريب بالطبع.

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري

وإذا كان التفسير يقوم على مظنّة الانحياز للنص، ومحاولة تبريره، والعمل على تمرير ما يخالف – ظاهريا- المعقول فيه،  ولو بـ “لي أعناق النصوص” وتحميلها بأكثر مما تحتمل، إلا أن التأويل – في حقيقته- لا يتخندق هنا؛ لذلك فهو إلى النقد أقرب، وللحجة العقلية ألزم!

ولذلك نقول أن التأويل يتطلب موقفا محايدا من النص – على صعوبة ذلك– وقد صار التأويل في زماننا هذا عنوانا على الانحياز ضد النص، فنحن إذن مع النص بين المنحازين له والمنحازين ضده في أسوأ حال!

وما زال السعي جادا لخلق نظرية عامة للتأويل تقف عند دلالة النص ورمزية العلامة وعلاقة النص بالكاتب والمتلقي، واللغة بالعالم والحقيقة بالواقع والملفوظ بالموجود.

وما أحوجنا إلى التحرر من ربقة هذا الركام الذي حال بيننا وبين النص، بل طمس معالمه، بشروح تلو شروح وتفسيرات تغلق المعاني وتحجّر الأطر، ولا جَنَى بل جناية على التراث والناس في آن.

كما أن التأويل لا يجب أن يكون فرجة للولوج إلى هدم النصوص والزراية بها إذا هو لم يعتمد منهجا واضحا يقوم على العلم والتحري، والتدقيق والبحث في كل ما واكب النص من ظروف وملابسات تكشف عن تفاصيله، وتثري شموليته، وتفتح آفاقه نحو تعدد الرؤى، بما يسمح له بقابلية أكبر في التعاطي مع الواقع ومتغيراته.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock