رؤى

الخرافات حول كورونا راجت بسبب ازدواجية التعليم الديني والعام

قراءة معاصرة في فكر المجدد أمين الخولي

عبر فضاء الإنترنت طُرح النقاش حول وباء كورونا وطبيعة الازدواجية في رؤية العالم عند المصريين، فثمة رؤية تخضع للنظام السببي للعالم وتري أن وباء كورونا هو مجرد فيروس من الفيروسات التي تمثل تحديا من الطبيعة للإنسان، وأننا لابد أن نبحث في المعمل عن كيفية مقاومة هذا الفيروس والبحث في أسباب ظهوره وكيفية انتشاره والسبيل إلى مواجهته، وبالمقابل فهناك رؤية دينية أخري تري في الفيروس أنه ابتلاء من الله للإنسان بسبب عصيانه، ويتجه أصحاب هذه الرؤية إلى بيان دور العبادات الإسلامية في مقاومة المرض، مثل دور النقاب في مواجهة العدوي، ودور الوضوء في الطهارة ليكشفوا لنا عن عظمة الإسلام، ففي الرؤية الثانية العالم وما فيه معلق في يد القدرة الإلهية دون علاقة ضرورية بين الأسباب والمسببات.

ثقافات تواجه بعضها

أصحاب الرؤية الأولي يرون ضرورة الأخذ بالأسباب، والتزام الحيطة والحذر، ومنع الاختلاط والتجمعات الكثيفة، والأخذ بأسباب الوقاية، في حين أن أصحاب الرؤية الثانية يرون أن الأمر كله غضب إلهي على الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وأن الموت يدركنا ولوكنا في بروج مشيدة، وأن الموت يحل بقضاء الله، وثمة حالة استهتار واضحة عند أصحاب هذه الرؤية، فأصحاب الرؤية الأولي يرون أن تلك معركة للإنسان في علاقته بالطبيعة ينبغي أن يتسلح لها بسلاح العلم، في حين يحيل أصحاب الرؤية الثانية الوباء بجملته إلي الله، فما هي أسباب هذا الانقسام في هذا الموقف؟ وهل لهذا جذور في ثقافتنا وتراثنا الثقافي؟

https://youtu.be/ph_ZCpkJgQI?t=36

شغلت الأسئلة حول طبيعة العلاقة بين الرؤيتين وكيفية مواجهة الانقسام حولهما المفكر الكبير أمين الخولي، وهو أزهري بارز عرف بإمام المجددين لرؤاه التنويرية المهمة، وكان أحد زعماء ثورة 19، كما شغل منصب رئيسا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول.

فنحن إزاء رؤية علمية للكون تستند على السببية وقال عنها ابن رشد (الحكمة ليست شيئاً أكثر من معرفة أسباب الشيء) وذلك وفقاً لعلاقة الضرورة، وبالمقابل فإن الرؤية الثانية هي ما رسّخها أبو حامد الغزالي -ذلك الصوفي الأشعري الذي كان على مذهب الشافعي الفقهي وهو أحد كبار الأشاعرة في التاريخ الإسلامي- حين «نفي العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات، وأحال كل شيء ليد القدرة الإلهية»، والواقع أن التصارع بين هاتين الرؤيتين في الثقافة العربية قد استمر في ثقافتنا إلى الآن، فكانت الاتجاهات العلمية العلمانية تحارب الثقافة الدينية وتتهمها باللاعقل، وأنها تترك مساحات كبيرة للسحر والتنجيم في تصور العالم.

ابن رشد، والغزالي

وقد أعطى أمين الخولى اهتماما كبيرا بمشكلة الانقسام هذه، وناقشها من خلال صراع الرؤى في الثقافة المصرية فرأى أن التعدد في الثقافة المصرية يشكل أزمة حقيقية، لأننا إزاء ثقافات تواجه بعضها البعض الآخر، وليس ثقافات تكمل بعضها البعض.

ومن ثم يرى الخولى أن مصر عرفت الثقافة الدينية بطابعها العام المشترك، وصورها المتفاوتة، ومظاهرها المتغايرة، وعرفت الثقافة المدنية بمزاجها العقلي وطموحها الفلسفي، وقد ترتب على هذا أنها تواجه مشكلة ثقافية حقيقية ناجمة عن تعدد الثقافات فيها -إذا ما أمكن الإغضاء عن التنوع الثقافي الذي لا يختلف فيه جوهر الثقافة، فليس هذا التنوع إلا اتساعاً في الأفق- فيضر الأمة تعدد الثقافات المختلفة اختلافا حقيقياً، إذ تنقسم الأمة، وتختلف الاتجاهات الفكرية اختلافا أساسياً يحرم كل فريق منهم مما عند سواه من خير، أو يعرضه لضرر إذا كانت ثقافته غير مسايرة لروح التقدم العلمي والعقلي التي بلغتها البشرية اليوم، ومن هنا يبدو كيف أن الخولى يرى أن التعدد الثقافي في مصر يشكل أزمة حقيقية لأننا إزاء توجهات ثقافية متنابذة، يبدد الاختلاف قواها، ويمنع اتحادها، وحاول الخولى أن يجد حلاً لهذه المشكلة.

أمين الخولى

الأديان والمعرفة

ويبدأ الخولى في طرحه لمحاولة حل المشكلة من خلال إيضاح مدى الاختلاف بين رأى الأديان ورأى العقليين حول إمكانية المعرفة البشرية، فيقول: أن الأديان وبخاصة الإسلام قد قالت بإمكان المعرفة وجعلت هذا الكون قابلاً للفهم ودفعت -ولا سيما الإسلام- إلى استعمال العقل، وإن حددت موقفها منه تحديداً لم تنكره، ولم تعطله، وربما تضيق دائرته في بعضها ضيقاً شديداً حرجاً، ولكنها على كل حال لم تنكره ولم تعطله، وبهذا وما إليه قاربت الرأي الفلسفي في المعرفة، وإذا كانت الأديان تقول بإمكانية المعرفة، وهى بهذا قريبة من الاتجاه العقلي الفلسفي فكيف صارت الثقافة الدينية مقابلة -هذا التقابل- للثقافة العقلية الواقعية؟! يجيب الخولى بأن ذلك يرجع إلى المحافظين في الأديان كلها -يهودية، مسيحية، إسلامية- وذلك لأن الفكرة الدينية عند الدينيين جميعاً هي إنكار قابلية الكون للتعليل، وإنكار مقدرة الإنسان على هذا التعليل، وللتسبيب، إذ أنهم جميعاً ينفون الأسباب، ولا يرون شيئاً يكون سبباً لشيء آخر، ولا شيئا مسبباً عن شيء، ووجود المسببات عن الأسباب إنما هو بخلق الله لا بتأثير الأسباب، وهم بذلك يخالفون المتفلسفين مخالفة تامة، ويخالفون العلماء الملتمسين للنواميس، لأن كل محاولات الفلسفة والعلم في التعليل لا تقوم إلا على أساس اطراد وقوع الظواهر عند وقوع أسبابها، وعدم تخلف ذلك مطلقاً، وهنا نجد أن الشيخ أمين الخولى يدين طرح التراث الأشعري للسببية، ونفيه للعلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات، لأن ذلك يترتب عليه العديد من الآثار الاجتماعية السيئة، منها عدم مسئولية الإنسان عن عمله، لأن صاحب هذه الرؤية يرى الحياة حظاً مباغتاً لا ضابط لها، ولا أساس، فكل شيء عند أصحاب هذه الرؤية لا يقوم إلا على خوارق العادات، والمفاجأة، والشذوذ فيقول الخولى: إنه باسم العجائب والخوارق قد انتُهكت حركة النواميس، وثبات النظم واطراد السنن، وباسم الروحانية المتطرفة قد أُيدت مزاعم، واستُلبت حقوق، واغتُصبت مزايا كواذب، ورُوجت حماقات، ومن الإرهاب بالأرواح الشريرة، والشياطين العابثة قد رُدعت نفوس، وهُتكت حجب، وطوردت عقول، وباسم السحر، وتسخير القوى الخفية قد زُعزعت قلوب، وأُقلقت خواطر، وهُدمت أسر وجماعات، ومن كل هذه العوامل التي راجت في البيئات الدينية، والأجواء الاعتقادية بهوى، وغرض الاستغلال، والاحتيال، قد حوربت حرية الفكر، وسلبت سلطة العقل.

ومما سبق نلاحظ نقد الخولى للثقافة الدينية -وخاصة في نمطها الأشعرى كما جاء في آرائة عن أبى حامد الغزالي- لأنها صورت الإسلام على أنه دين يتعارض مع إقرار العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات، في حين أن الإسلام بخلاف ذلك يؤكد على ثبات النواميس الكونية، وهذا يعطى للعالم قدراً من الاستقلال في نظامه عن فعل الحظ والسحر، والتنجيم، فالإسلام عقلاني مدني في موضوع الأسباب، ولهذا فإن الثقافات التي أخذت بالنظام السببي للعالم قد تقدمت
ويرى الخولى أن الفرق بيننا وبين من تقدم من الذين آمنوا بالثقافة العقلية المعللة المسببة، هو هذه الثقة بالأسباب، وهذا التمسك بالنتائج، وهذا الاستعداد لتحمل المسئولية، وهذا الانتفاع بالتجربة، وهذا التسخير لقوى الكون المطردة المتسقة، وما ينجم عن ذلك من إيمان عقلي وقلبي بالسنن الاجتماعية من حيث هي ظاهرة طبيعية إيماناً يدفع إلى الشعور بالوحدة الاجتماعية، وأن إهمال هذه الوحدة ينتج عنه أضرار كبيرة.

إنهاء الازدواج بين التعليم العام والتعليم الديني

وإذا تساءلنا: كيف يمكن إصلاح هذا الخلل في الثقافة المصرية؟ يجيب أمين الخولى أن «إصلاح هذا الخلل يكون بسيادة النظام السببي للعالم, وإصلاح فكرة اللاسببية، وذلك عن طريق إصلاح نظري: بتصحيح هذه الفكرة وتقويم تلك العقيدة, ويقوم بذلك رجال الدين في تعليمهم العقائد، ووضع أساس سليم لها، وإصلاح عملي:- بأن تؤدى الدولة واجبها في الإشراف على العملية التثقيفية للأمة بإشراف منفرد مباشر، يتناسب مع مسئوليتها أمام ممثلي الأمة في إعداد أبنائها إعداداً صالحاً للحياة», ويتحقق هذا الهدف من خلال خطوتين رئيسيتين أولاهما «ألا تشتغل هيئة ذات صبغة دينية بالتعليم أجنبية كانت أو وطنية, لأن سلامة هذه الهيئات من خطأ في ثقافتها غير مضمون, وحتى لا تؤدى هذه الهيئات ذات الصبغة الخاصة إلى تقسيم أبناء الشعب, وتفرق وحدتهم وتمزق شملهم, وتفسد الطابع القوى الموحد الذي يرجى أن يكتسبه كل واحد منهم وثانيتهما توحيد خطوات التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية لأبناء الأمة جميعاً بحيث لا تتولى هيئة ما إعداد طفل, أو غلام, أو شاب، وتكوين عقليته, وخلفيته إلا تحت إشراف وزارة التربية والتعليم في الدولة بنظمها وتجاربها, ولا يكون هناك تعليم ديني مستقل عن التعليم العام, بل تتحد هاتان المرحلتان اتحادا تاماً, على أن يكون تعليم الدين فيهما بمناهج يضعها المختصون في كل دين من الأديان التي ترى الدولة تعليمها, بشرط أن تكون هذه المناهج محققة للمعاني السامية, والأغراض النبيلة للتدين, بارئة من كل مظاهر جرَّها التدين الجاهل, والتضليل المغرض, والخرافات المتناقلة»، وكان أمين الخولي يقول لتلاميذه «آمنوا بالسببية تعيشوا عصر العلم».

 

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock